وودي ألن.. السينما لمواجهة الطابع الهزلي للحياة

يعتبر وودي آلن واحداً من بين صانعي الأفلام الأكثر روعة وإبداعا في أمريكا، وهو صاحب أفلام أيقونية مثل «آني هال» و»مانهاتن» و»منتصف الليل في باريس».. .
عاش وودي طفولته في فترة الأربعينيات بين دروب بروكلين، حيث ولد هناك سنة 1935 في عائلة تنتمي لأقل فئة اجتماعية في الطبقة الوسطى، وكان يقضي طفولته في مشاهدة الأفلام في صالات العرض الموزعة في محيط منزله والتي يحصيها في 25 صالة، وقد أظهر إعجابه مبكرا بأفلام الإخوة ماركس الكوميدية لأنهم حسب قوله يمثلون بطريقة شمولية بالرغم من أنهم يشبهون المهرجين، ومع ذلك كانوا في منتهى الرقي بسبب امتلاكهم للفطنة والبديهية.
بدأ وودي باقتحام عالم التأليف في سن السادسة عشر فألف نصوصا كوميدية لممثلين في النوادي الليلية قبل أن يتجرأ ويعمل ككوميدي في نفس النوادي، أما عن الكتابة فلم تكن له طقوس خاصة للإلهام، فورقة بيضاء كانت كل ما يحتاجه، وفي كتاب «وودي الن عن وودي الن» الذي يحتوي على حوارات له مع المخرج السويدي بيرغمان، يقول بأن الأوراق البيضاء لا تفزعه بل يشعر مثل بيكاسو الذي قال ذات مرة أنه إذا شاهد مساحة خالية فإنه يشعر بأن عليه أن يملأها..
في الواقع، حتى قلة الأوراق البيضاء لم تسبب مشكلا لوودي آلن في فترة شبابه، فهذا لا يهم طالما لا تتوقف انتاجيته للنكات والتي كان يبيع ازيد من خمسين نكتة في اليوم ويبيعها لإعالة عائلته، وقد كان يستغل امتطائه لوسائل المواصلات ويقوم بالتأليف حتى على علب الكبريت الفارغة.. وشيئا فشيئا بزغ نجم وودي آلن في مجال التأليف فبدأ بكتابة عروض تلفزيونية كوميدية الى غاية وصوله لشاشة السينما ككاتب وكوميدي في بداية الستينيات.

عدمي هوليود الأول

في فيلم وثائقي قصير يتحدث وودي آلن عن رؤيته للحياة ويقول: لا توجد إجابة متفائلة حول قسوة هذه الحياة مهما تحدّث الفلاسفة ورجال الدين وعلماء النفس، إن جوهر ما يُقال هو أن هذه الحياة لها أجندتها الخاصة وأنها لا تسير كيفما تريد وأننا جميعا سوف ننتهي إلى مكان سيء في يوم ما قريب أو بعيد، وكل ما عليك أن تفعله -كفنان- هو أن تصنع أشياء تشرح فيها للناس أن الحياة شيء إيجابي ذو معنى..

الفن وطمس الحقيقة

يعتبر وودي إذن أن الفن محاولة لطمس الحقيقة المرعبة القائلة بأن الحياة بلا معنى، ويقول بأن الفنان لا يمكنه أن يبدع شيئا دون أن يخدع الناس، ولا يمكنك أن تكون صريحا لأن الحقيقة الصارخة هي أن الحياة بلا معنى!، كما أنه يسخر من أي شيء جدي يُثار حول أفلامه، بل تقريبا يسخر من كل شيء ولا يمانع في أن يسخر منه الكل، وهذا هو جوهر السينما الذي يجعلك قادرا على خلق واقع خاص بك وتكوين صورة عن شخصياتك المفضلة تشارك معهم افكارك وهواجسك وتهرب معهم عن الواقع المر.
كما أن لوودي آلن أفكار غير معتادة حول الحياة يحاول أن ينقلها عبر أفلامه، فبغض النظر عن حساسيته الشديدة اتجاه السعادة والتي يرى أنها ضرب من المستحيل ولا يمكن تحقيقها سوى في توهيم نفسك ببعض الأكاذيب والعيش في خداع دائم، إلا أنه يقاوم الوجود بخلق عالم خاص به ينبني على الخمول والعيش في الماضي لأنه لا يطيق التغيير والتجديد ويعشق النوستالجيا وهذا ما ينقله لنا في فيلمه «منتصف الليل في باريس»..
تُوفر أفلام وودي متعة مصحوبة بالتفكير العميق، فهو يجيد تناول مفردة صغيرة منسية من مفردات الحياة اليومية ثم يمضي في جرنا للتدقيق في مدى غفلتنا عنها حتى وهي حاضرة أمام أعيننا
نظرته المتشائمة حول الحياة تمتد للحب، فهو يلخص نجاح العلاقات باعتمادها على الحظ لا غير، فالناس حسب قوله يعتقدون أن العلاقات الجيدة تحتاج للسعي ورائها والمعاناة من أجلها، لكنهم لا يقولون الأمر ذاته عند الحديث عن شيء نحبه حقا، كالذهاب في نزهة على القارب أو مشاهدة فريقنا المفضل، فأنت تذهب لأنك ترغب في ذلك لا لأنك تحاول إقناع نفسك بذلك، لذلك لا يعقل الاجتهاد من أجل علاقة ما فهذا شيء لا يمكن التحكم به، تحتاج فقط للحظ الجيد وتسير في حياتك وبدون الحظ الجيد عليك أن تستعد لشيء من المعاناة لهذا تظهر معظم العلاقات صعبة وتنطوي على القليل من المعاناة.
أما عن التقدم في السن، فلا يرى وودي أي حكمة من ذلك، لن تصبح أذكى أو أكثر حكمة، ولن تكون أكثر ليونة أو لطفا حينها، لا شيء جيد في الكبر، تزداد الآم الظهر وعسر الهضم وبصرك يضعف، التقدم في العمر شيء سيء ولا أنصحك به إن كنت تستطيع تجنبه، لا شيء رومانسي في ذلك.

السخرية والحب
في مواجهة العالم

في سينما وودي آلن ثلاثة مواضيع رئيسية متكررة باستمرار: التحذير من خطر الثقافة، الحب هو الإجابة عن سؤال الحياة، عبثية الكون أمر مضحك. في فيلم مانهاتن يجيب وودي الن عن سؤال لماذا لا يفهم معظم المثقفين الحياة؟ ولماذا يعيشون في اكتئاب دائم؟، ويُظهر وودي مشاكل الأبطال بأنها وهمية ناتجة عن التفكير الزائد.
أما عن الحب، فهو دائما الجواب النهائي لمعظم أفلامه، فلا يبدو أن هناك جوابا على أسئلة الحياة لكن هناك استثناء هو الحب.. كل ما يجب فعله هو الحب وفي بعض الأحيان الصراع من أجله والاحتفاء به فهو سلاحنا لمواجهة لا مبالة الحياة.
الكون فارغ وبلا معنى وكلنا سنموت في النهاية، لذلك في أفلام وودي فالحل لمواجهة هذه الفضاعة هي الحب والسخرية من كل ما يصيبنا. تُوفر أفلام وودي إذن متعة مصحوبة بالتفكير العميق، فهو يجيد تناول مفردة صغيرة منسية من مفردات الحياة اليومية ثم يمضي في جرنا للتدقيق في مدى غفلتنا عنها حتى وهي حاضرة أمام أعيننا. يعطي وودي في أفلامه ترياقا لمواجهة الحياة في قالب هزلي وما يجعل أفلامه ساحرة هو نجاحه في عرض الفلسفة الوجودية في قالب ممتع يسهل هضمه، بالحب والسخرية نستطيع مواجهة هذا العالم..

فلسفة الجاز
في الإخراج السينمائي

رغب وودي منذ الطفولة بأن يصبح موسيقيا، حتى أن اسمه الفني وودي مأخوذ من عازف الجاز وودي هرمان، ومنذ الصبى لم يتوقف وودي عن عزف الكلارينت والتجول مع فرقته الموسيقية woody allen and his new orleans jazz band، مؤدين حفلات وجولات عالمية باعتبارهم واحدة من الفرق الناذرة التي تؤدي جاز نيو اورليانز بأصوله.
وقد بلور احترافه لآلة الكلارنيت من رؤيته الاخراجية للافلام، ففلسفته في الاخراج قريبة جدا من الجاز، ويبدو آلن في أفلامه كعازف الكلارنيت في فرقة الجاز: له دور توجيهي لكنه بعيد عن دور قائد الأوركسترا وصرامته المعهودة، الارتجال سمة معتادة في أفلام وودي وهامش الحرية والعفوية كبير وتسهل ملاحظته، هذه الفلسفة أدت إلى تشكيل أفلام آلن بالشكل المعروف وبانتقالها المستمر من الكوميديا إلى التراجيديا وهذا ما يعطي لأفلامه تلك البصمة الفريدة للجاز.
المخرج الفاعل وودي ألن

لسنوات تراكمت الأدلة: ألن هو مدير كسول بشكل مدهش. وغالباً ما تحصل هذه الحقيقة على مردود إيجابي، كما هو الحال عندما يُوصف بأنه «مخرج فاعل» -رمز للواقع الذي يقدم له مؤدوه القليل من التوجيه، أو لا يوجد به إرشادات، ويحاول إكمال كل مشهد في أقل عدد ممكن من الخطوات.
مرة أخرى صرح ألن في مقابلة للإذاعة الوطنية :»أنا كسول»، «ستيفن سبيلبرغ ومارتن سكورسيزي سيعملان على التفاصيل حتى منتصف الليل وسيبذلان جهداً كبيراً، بينما بالنسبة لي، عندما تأتي الساعة السادسة، أريد أن أذهب إلى البيت، أريد تناول العشاء، أريد أن أشاهد لعبة الكرة».
أعد ألين أكوليت كتابه الرابع عن وودي ألين بعنوان: «وودي ألن وفن صناعة الأفلام» وقال بهذا الخصوص: «وودي في جوهره لائحة اتهام صيغت في شكل «إنكومسيوم»، فكيف ولماذا لا يزال آلن يتمتع بمستواه الحالي من الهيبة؟ يعتبر حساب لاكس الممل بشكل آخر مناسبة جيدة لاستكشاف هذا اللغز ، والذي يعتبر مفتاحه مفارقة: تعتمد سمعة ألن في جزء لا بأس به على الكسل الذي يصف الكثير من أعماله».

وودي ألن يعمل بسرعة

كان ألن يتباهى ذات مرة بأنه أعاد كتابة شخصية مركزية في ماتش بوينت في «حوالي ساعة» بعد تغيير جنسيتها من الإنجليزية إلى الأمريكية. وأي شخص شاهد أفلام Allen الأخيرة يعرف أنه يميل إلى التعليق الصوتي إلى درجة غير عادية.
أما اختيار الممثلين، فيتم من خلال اقتراح المخرجين السابقين في التمثيل، جولييت تايلور وباتريشيا ديكورتو، ويقومون بعرض لقطات لوودي ألن، وإذا أحب ما رآه، فهناك مقابلة سريعة وجهاً لوجه ستتم بين الممثل وودي، وكلمة سريعة تعني دقيقة واحدة تقريباً. الممثلون لا يتم إخبارهم بالجزء الذي يتم ترشيحهم له أو أي شيء عن الفيلم.
كل مقابلة عبارة عن تكرار حرفي تقريباً للمقابلة التي تسبقها. ألن يقف في الوسط، ويأتي ويصافح الممثل، ويقول: «مرحباً، أنا أقوم بتصوير فيلم بدءاً من يوليو، ونعتقد أنه يمكن أن تكون جزءاً من الفيلم، واليوم فقط أريد أن أرى كيف تبدو للقيام بالدور».

موهبة وودي ألن الصافية

عادة ما يرتجل الممثل بشيء مناسب بشكل معقول. ثم يشكر وودي الممثل ويغادر. وهو ما يجيب عن تساؤلات الكثيرين حول ظهور الفنان أندرو دايس كلاي في فيلم بلو جاسمين، الذي ظهر فيه وهو يجتهد في التمثيل؛ كي يقنع المشاهدين.
وكما الحال في اختيار الفنانين الذي لا يبذل فيه ألن مجهوداً كبيراً، هو الأمر نفسه يحدث عند اختيار الموسيقى التي يختارها ألن في إطار ضيق، ما بين موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية؛ وذلك لأنه لا يحب العمل مع مؤلفي موسيقى.
يصبح كسل ألن أكثر وضوحاً كلما اقترب التصوير؛ ففي كثير من الأوقات يتوقف ألن عن المشاركة ويترك معاونية ومصممي الأزياء ومديري الإضاءة يقومون بعملهم دون تدخل، فهو يريد أن يكون في قمة قوته عندما يبدأ التصوير.
أما بالنسبة للتصوير نفسه، فقد اعترف ألن بنفسه :»أنا لا أقوم بأي استعدادات، ولا أقوم بأي بروفات، في معظم الأحيان لا أعلم حتى ما سنقوم بتصويره».

وودي ألن والنسخة الفريدة

في موقع التصوير، عادة ما يمتنع وودي ألن عن توجيه الممثلين قبل تصوير المشاهد أمام الكاميرا، وإذا كان غير راضٍ عن الأداء فسيقوم بموازنة الأمور من خلال الحصول على آراء وتوصيات مساعدية.
وودي ألن يسعى لتقليل المشاهد الملتقطة؛ فهو يفضل بقوة أن تكون اللقطات الرئيسية، هي التي يتم التقاطها مرة واحدة بزاوية واحدة، على التي يتم التقاطها على عدة مرات والتي ستحتاج إلى وقت كبير في التعديل.
في الماضي كان يفضل ألن إعادة تصوير المشاهد، وكان يخصص الوقت والمال الكافي لذلك، ففي عامي 1987 و 1989، على سبيل المثال، كانت جرائم وجنح عام 1987Crimes and Misdemeanours، أُعيد تصويرها على نطاق واسع، لكنه توقف عن القيام بذلك منذ نحو 20 عاماً، يحاول ألن الآن البقاء قريباً من الجدول الزمني المحدد، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن اتفاقياته التمويلية تنص على أن أي عجز في الميزانية يخرج من نصيبه الخاص للكتابة والإخراج.

الاعتماد المالي المثالي

مخاطر الخسارة المالية للمستثمرين الممولين لأعمال وودي ألن منخفضة، وغالباً ما يتمكنون من استرداد الميزانيات المتواضعة التي تتكبدها تلك الأفلام، فإن رغبة الممثلين للعمل بخصم كبير أمر مهم وضروري؛ فقد حقق منتصف الليل في باريس أكثر من 150 مليون دولار أمريكي على ميزانية تبلغ 17 مليون دولار أمريكي.

وودي ألن ليس فضولياً

مرة أخرى، وودي ألن نفسه جاهز مع التشخيص الأكثر ذكاءً. «أنا لست شخصًا فضولياً» ، كما أشار في مقابلة NPR لعام 2015. «أنا لا أشعر بالفضول للسفر … أنا لا أشعر بالفضول لرؤية أماكن أخرى ، أنا لا أشعر بالفضول لتجربة أشياء جديدة.»
فخلال السنوات الخصبة التي قام فيها بتشكيل سمعته، تابع موضوعات قريبة جداً من المنزل، مع أفلام تم وضعها بشكل حصري تقريباً في مسقط رأسه مدينة نيويورك، وكثيراً ما تناولت مجالات الكوميديا أو الأعمال التجارية، وفي الآونة الأخيرة، عمل في المناطق المحلية – لندن، باريس، روما، وبرشلونة -من الواضح أنه لا يرى إلا من وجهة نظر السائح غير المتحمس.


بتاريخ : 09/03/2019