«يقظة الظل» للشاعر محمد زين .. ميثاق مشروع كتابة تواقة للإبداع بدل الاتباع

هي دون شك حكاية الظل مع أصله، كما يوحي بها العنوان، بصرف النظر عن كونها حكاية الأصل مع أصله، أو بالأحرى حكاية الشاعر مع نفسه المنكتبة نصيا عبر تقاطعات ذاتية وإبداعية تشي باشتماله على منطلقات محددة وآليات اشتغال تقنية ومستويات تمثل رمزي لملابسات وأحوال خاصة قد تغيب في بعض مناحيها عن الشاعر نفسه في لاوعي النص وتداعيه الحر.. هذا رغم كون الكتابة مرافعة محسوبة من أجل وجود مستحق وحياة معطاء..

 

«يقظة الظل».. هي العبارة المحورية التي تسم العمل كعتبة أساس لولوج عوالمه.. لا ندري بداية إن كان ظلا من أفياء دوحة – لعلها دوحة الشعر الوارفة – نلجأ إليها احتماء من صهد الهجير في أرض مفتوحة على شمسها الحارقة.. وماذا لو كان في تصورنا البسيط ذاك الوجه المعتم للأشياء في تجسدها المعكوس، أو مجرد صورة محاكية لأصلها على واجهة مرآة أو صفحة ماء، إمعانا في التماهي الخادع حد التطابق بين عمق الفراغ وسطحية الامتلاء؟.. غير أننا سرعان ما نجد التمييز الحاسم في منطوق الشاعر بقوله في (ص14):
«أنا المرآة.. الوجوهُ شواحب..»

1

لكن من الظاهر أن عبارة العنوان تتمثل «الظلَّ» في منحاها الاستعاريِّ حاضراً في يقظته كما لو كان مُغيَّباً في غفوته، مع أن الغالب على تصورنا لهيئته تَمَدُدُه على الأرض كصورةِ كائنٍ مضغوطٍ مستلقٍ سواء كان في حالة حركة أو حالة ثبات تَبَعاً لهيئة أصله، ما عدا أن نقف به على حد يحجب عنا الرؤية أو يمنع تسربَ الضوء، هذ علماً أن الظلَّ من صنيع النور لا من صنيع النار، وفي ذلك إحالة على أكثر من مرجعية دينية وميثولوجية رمزية..
إنَّه امتدادٌ تابعٌ للذاتِ وانعكاسٌ على مقاسها في دائرة الشعاع، بما يعني موضوعيا في المقام الأول أن مُثولَه يَتحققُ بقوّةِ تَجَسُّدِ الأصل وفعل انبثاق النور، إذ يحضر بوجودهما وينتفي بانتفائهما سواء بغياب الأصل أو انعدام النور، وهو ما يعني افتراضياً في المقام الثاني أن توسيمَ هذا المنجز بعبارة «يقظة الظل» يبقى ذا مقصدية رمزية متضمنة لفعل العبور من طور الخفاء والضمور لطور التجلي والظهور بالانتقال من دائرة العتمة والفضاءات المغلقة لرحابة الضوء وآفاقها الفسيحة..

إن عنوان الديوان يجَسِّدُ يقظة الظل المنفلت من أصله ليقوم مقام نفسه حتى لا يظل انعكاسا لغيره.. هذا على قدر ما يجسد بعينه ذاك العبورَ التوّاقَ للانعتاق من الظل إلى النور، باعتباره العملَ التدشينيَّ الأول في المسار الإبداعي لمحمد الزين الذي يعلن به عن نفسه شاعرا يلتمسُ على ضوء تجربته الخاصة المسالك المتشعبة في أدغال القصيد عابرا من فيافي الشرق المتصحِّرَة لمجالي الأندلس الخصيبة، ومن أعالي الألب الموغلة في أقاصيها لبراري سواحل العالم الجديد، بدليل استحضاره في غير ما موقع من نصوصه لعديدٍ من الأسماء المنتمية لمُختَلِفِ الجغرافيات والحساسيات الإبداعية المتناسلة من صلب سلالات شعرية وفنية عريقة (أدونيس، بريخت، ستانيسلافسكي، هنريك إبسن، صلاح عبد الصبور، موليير، خوسي أورتيغا إي غاسيت، أونطونيو ماتشادو، ريلكه، جون كيتس، فيكتور هوغو..)

2

بدءاً من نصه الأول الذي افتتح به الأضمومة تحت عنوان «قبل البدء»، ارتأى أن يستهله بمقتطف أدونيسي حول ماهية الشعر الذي «يجيء من أفقٍ لا ينتهي ويتجه نحو أفق لا ينتهي، ذلك أنه لا يجيء من معلوم مسبق، وإنما من مجهول لا ينكشف بشكلٍ نهائي لأنه في حاجة دائمة للكشف». انطلاقا من هذا الاستهلال تنكشف أولى ثوابت بيان الكتابة وخارطته المعتمدة في العمل وفق ميثاق إلزامي موثق «قبل البدء»، ويمكننا جرد بنود هذا الميثاق وحصرها في خمسة عناصر نوردها بحرفيتها النصية على النحو التالي:
1- «سأكون نفسي.. سأمشي كما تهوى قدماي..»
هنا الرهان على الذات محورِ الفعل الإبداعي المتوثب للتفرد والمخالفة.. وهو رهانٌ لا يتأتّى إلا بـ «قَتل الأب» والمشي وحيدا على غير هدى الآخرين أو هَديِهم، والسيرِ بعيدا عن الطرق المُعَبَّدَةِ التي أنهكتها أقدامُ السّالكين..
2- «سأعيدُ ترتيبَ الزّمن.. سأكتبُ لحناً جديداً للنجومِ كي تُضيء..»
لعل في سلك درب الشعر على هذا المنوال المنفرد خلاف كل منوال مبتذل كتابةً ترومُ إعادةَ ترتيبِ الزمن بَدلَ الاكتفاءِ باستعادتِه أو اجترارِه وتكرارِه بوتيرته الرتيبة المعهودة، وإعادةِ ضبط نبضه على إيقاعٍ مغاير من أجل «لحن جديدٍ للنجوم كي تضيء»..
3- «وحده الشعر قادرٌ على التوأمة مع النسيان..»
هنا التأكيد حصراً على أن الإبداع التام هو النسيان التام، وما عداه مُجَرَّدُ استحضارِ وجدانٍ وشعورٍ بتقليب كَلِمِهِما على نفس المعنى، ونظمِ شبيهما على أوزانٍ وبحورٍ مُنهَكَةٍ شكلا ومبنى..
4- «الكلمات هي الذكرى، المفتاحُ لمتاهات الوجود..»
الكلمات مقترنة بالذاكرة الإنسانية بدليل أن «في البدء كانت الكلمة»، من ثمة هي سابقة في وجودها عن الشعر.. والشعرُ بدوره مفتاحا للوجود بدليل اعتباره تاريخيا الأسبقَ زمنيّاً من كل أشكال التعبير الإنساني..
5- «جَرِّب ألا تخنق نصوصك.. اكتشف العراء المطلق بدواخلك..»
إنها دعوة هنا للتجريب والاكتشاف، واستمالة لمراودة النص البكر المفتوح على احتمالاته المنفلتة من كل نموذج مسبق، وارتياد العوالم الطليقة المدهشة بعرائها الممتد من الدواخل، وصفائها النابع من الأعماق..
كأني بالشاعر محمد زين يحدد مسبقا، انطلاقا من فاتحة الديوان، ثوابتَ بيانِ الكتابة ليستلهم منها عناصر هذا الميثاق بروح تنحو منحى المغايرة والتجديد بعيدا عن كل مجاراة أو تقليد.. كتابة مجترحة لمسارها الخاص لتكون أبعد عن مجرد رجع صدى لكل كتابة سابقة، حتى كأن نصه «قبل البدء» تلخيصٌ وتنصيص على مدى استيعابه العميق روحَ الخطاطة المشهورة للشاعر ريلكه الموسومة «رسالة إلى شاعر شابّ»، والتي تعتبر في الشعرية العالمية الحديثة مرجعا لا غنى عنه وبوصلة لا محيد عنها لكل من يتوسم في نفسه القدرة على الانغمار في تجربة الكتابة الأصيلة الموصولة بجذورها الكونية وقيمها الإنسانية والفنية الخالصة..
ولتأكيد ما ذهبنا إليه في هذا الجرد لصياغة تصور محمد الزين للكتابة كفعل إبداعي، نقف عند قوله في ختام نصه الافتتاحي بنبرة جازمة:
«كبرتُ فلم أعد أقبل بما فهمت..
صرتُ عاقّاً، سأبثّ بَوحي تفاصيلَ للحرف.. للورق.. للقصيدة..»
4
هنا التوقُ الطموح لخلخلة الذاكرة وتقويض البنيات التقليدية للخطاب الشعري.. وهو أمرٌ لا يتيسر لأيِّ شاعر إلا ببلوغ درجة من النضج المعرفي والإبداعي الذي يؤهله – بعيدا عن كل وهم خادع – للإحساس بأنه كبُرَ فعلا عن الطوق الأبوي لإعلان عقوقه الرمزي بـ «قتل الأب»، وذلك على اعتبار ألا وجود للمثال المتعالي في الإبداع، إذ على الشاعر أن يكون نفسه بدل أن يكون غيره، ومن ثم «أن يكون أو لا يكون، تلك هي المسألة».. لذلك لا يتوانى محمد زين في أن ينهي ميثاقه بتوقيع خاص يقول فيه:
«هذا أنا.. سأدلك على أخر نبرةٍ للصدى.. سأحلم حتى أنهك جسدي الكسيح..
سأغدو كما وددتُ حتى تعجز النهاية..»
هنا الإصرار على أن يصير قائماً بذاته لا بغيره حتى ولو كان هذا الغير هو الأب ذاته، ليس على سبيل العقوق المجاني بكسر عصا الطاعة وتقويض السلطة الأبيسيّة بل بدافع الرغبة في الانعتاق من كل وصاية أبويّة.. إنه حلمه الأبدي المتواصل حد الإنهاك «حتى تعجز النهاية»، لعله من خلاله يدلنا على «أخر نبرة للصدى» رجعاً لكل صوت متردد في المدى، ويوقظ الظل ليكون بمثابة انفصال أعمى عن تبعية الأصل وبحث مضنٍ ععن مراتع النور والضياء.. كذلك يكون حال الشاعر الحق في امتداده، حيث ليس بالمقدور تمييز ظله عن أصله في ضوء النور المنبعث من ذاته، وفي موته يكون أعظم مما كان في حياته.. ومثل هذه القناعة ما يوحي لمحمد زين بقوله في ص(11):
«ستصير عظيما..
لا لشيء.. فقط بعد موتك..
وستصبح شاعرا..»


الكاتب : ذ. نور الدين ضرار

  

بتاريخ : 05/01/2023