يواصل حضوره في منطقة سياحية بقلب مدينة الدارالبيضاء .. سوق الدلالة بالحبوس .. «مزادات» عريقة وتراث تجاري يتجدد

 

في أزقة وممرات حي الأحباس التاريخية بقلب مدينة الدار البيضاء، تتوشح معالم” سوق الدلالة” بطابعها الفريد والخاص، حيث تجتمع روح “التبادلات التجارية القديمة” بالأصالة المغربية العريقة. في “الحبوس” يقف السوق بشكله المعماري البسيط والأصيل على هيئة “قيسارية” تتوسطها ساحة صغيرة بحجم الفناء، تضم عدة دككاين يلفّها البياض وتتخلّلها الأقواس و”الساريات”، في انسجام تام مع محيط الفضاء بالخارج ونمط البناء التاريخي بهذه المنطقة العريقة، في الوقت التي تزيد فيه السلع التقليدية المعروضة من زرابي وآواني نحاسية وفضية من سحر المكان وتضفي عليه رونقا كلاسيكيا، أما عن أجواء الدلالة بساحة السوق، فيعود معها المرء أدراج التاريخ ليتنسّم من عبقه، ويلمس عن قرب تلك الأجواء التقليدية الماتعة والضاربة في القدم.

بدايات السوق

تتحول ساحة “سوق الدلالة” ظهيرة كل يوم ثلاثاء وخميس وسبت، وإلى حدود الساعة الثانية والنصف زوالا، إلى مركز مزدهر للبيع بهذا النمط “التجاري” الذي يعتبر أحد أقدم أشكال المزاد العلني المعروفة “المزايدة”، والذي يعد جزءا أساسيا من حياة السوق، ويؤرخ لنمط فريد من أنماط التجارة القديمة. هنا يتوافد الباعة والزبائن على المكان من كل حدب وصوب بهدف إتمام صفقاتهم “البسيطة”، ويقوم “الدلاّل” بدور الوسيط الذي تقع على عاتقه مهمة عرض وتسويق البضائع.
عملية “تدلاّلت” و “بيع” تتم بجوار الدكاكين التي تعرض الزرابي والأواني النحاسية والفضية التقليدية، في مشهد يحيل على “تعايش” من نوع خاص، يغري بمعرفة جذوره، إن كان قديما في الزمن أم أملته بعض الظروف الخاصة، وهو ما تحدث عنه ” في تصريح لـ “الاتحاد الاشتراكي” عبد الإله زاهر” الذي يشغل منصب أمين للسوق خلفا لأبيه وصاحب محل لبيع الزرابي، والذي عايش هذه التقاليد لما يزيد عن 42 سنة، قائلا “في السابق لم تكن الدلالة، وكان الحرفيون بالأزقة المجاورة يأتون بسلعهم ويعرضونها بعشوائية على أصحاب الدكاكين الموزعة هاهنا بين بيع الزرابي والأواني النحاسية، الأمر الذي أثار سخط مجموعة من أصحاب المحلات نظرا لاستفادة البعض دون الآخر من مداخيل الصفقات المبرمة، فأجمع التجار أمرهم على تنظيم طريقة البيع هاته المسماة بالدلالة لخلق نوع من المساواة وتكافؤ الفرص فيما بينهم.”
وأضاف المتحدث أن واقع السوق تطور فيما بعد مع إقبال النسوة اللواتي يحكن الزربية البيضاوية آنذاك عليه، اللواتي قدمن من مناطق مختلفة كسيدي مومن، وسيدي عثمان، والبرنوصي لبيع منتجاتهن هناك، فصار السوق مع مرور الوقت وجهة للتجار من مختلف مناطق المغرب الذين كانوا يعرضون فيه النفيس والمشهور من السلع.

الدلاّل .. شروط، صفات، ومميزات

ليس كل من تواجد في سوق الدلالة بالحبوس يمكنه أن يكون “دلاّلا”، إذ لا بد من توفر عدد من الصفات الأساسية التي لا محيد عنها، مثل الأمانة، والصدق، والقبول، إلى جانب الارتضاء والضمان من طرف أصحاب الدكاكين للقيام بهذا الدور. وإلى جانب هذه الشروط فـ “للدلاَّلة” تنظيمهم الذاتي و”أمينا” عليهم من بينهم، وإن اختلفت وجهات النظر في ذلك، بين من يعتبر أن منصب الأمانة يقتصر فقط على أمين السوق وأن منصب أمين الدلاّلة لا يعدو أن يكون شرفيا، وذلك رأي بعض أرباب المحلات، وهو ما عبّر عنه أمين السوق “عبد الإله زاهر” للجريدة، وبين الرأي الآخر الذي يتبناه الدلاّلة والباعة الجائلين وغيرهم، من الذين يعتبرون أمين الدلاّلة منصبا قائما بذاته ويملك يد طولى في التحكيم و فض النزاعات إلى جانب أمين السوق وفوقهما المحتسب.

قيمة مادية متباينة لمنتجات مختلفة

اختلفت طبيعة ونوعية المعروضات التي ظلت تُجلب إلى سوق الدلالة على امتداد السنوات التي عاشها، وإن لم يتغير جوهر عملية البيع التقليدية، وهو ما جعل عبد الإله زاهر، أمين السوق، يعلّق على الأمر متذكرا الأيام الخوالي بالقول”بالأمس، عرفت الدلالة رواجا أكبر، وكانت عملية البيع والشراء تقام على طول أيام الأسبوع باستثناء الجمعة، كذلك كانت القيمة الرمزية والمادية للسلع المعروضة أعلى بكثير، فثمن البضاعة الواحدة قد يصل لملايين السنتيمات أحيانا، خلافا لما عليه الحال الآن، حتى الدلاّلة الذين وصل عددهم بالأمس لأكثر من خمسين، يعدّون اليوم على رؤوس الأصابع، فعددهم لا يتجاوز الاثنا عشر فردا”.
في سوق الدلالة بالحبوس يمكن الوقوف على العديد من الملاحظات، ومن بينها اقتصار مهنة الدلاّل على الرجال دونا عن النساء، في تقليد لا يزال مستمرا إلى حد الآن، فيما عدا بضع نسوة يفترشن الأرض عند مدخل السوق لعرض بضاعتهن دون الرجوع إلى الوسيط “الدلاّل”، وحسب عبد الإله زاهر فإن عدد النسوة البائعات عبر الدلاّلة زاد كثيرا عما کان عليه الوضع بالأمس، ولربما فاق اليوم عدد الرجال، علما بأنه لم يكن يتجاوز في بادئ الأمر ثلاثة نسوة كنّ يقدمن إلى السوق بمعية أزواجهن.

فضاء تجاري ببعد إنساني

بمجرد الإيذان بافتتاح عملية البيع والشراء بالسوق، هنا في الأحباس، والتي تترجمها العبارة التالية التي يتم ترديدها على لسان أحد الدلالة” باسم الله نفتح الدلالة، نتوكل على الله، البايع يربح والشاري يربح وكل من صلى على رسول الله يربح”، يتم “تخراج” السلع التي جيء بها من طرف أصحابها والتي تم تقديمها للدلاّل من “الساريات”، ويتعلق الأمر بالدعامات الإسمنتية التي تؤثث فناء السوق، والتي يرتبط كل دلاّل بأحدها. عملية الغرض منها عرض المنتجات والمعروضات بشكل تسلسلي تباعا، إذ لا يتوقف الدلاّلة عن الحركة ذهابا وإيابا مصرحين في كل لحظة بالثمن الذي بلغته البضاعة وكلهم طموح في أن يتضاعف أكثر، من أجل الرفع من حصيلة الربح التي يحصل عليها كلا من البائع والدلاّل على حد سواء، إذ يتحصل الدلاّل مقابل سمسرته على نسبة تتمثل في %5 من ثمن بيع البضاعة في حالة ما إذا تم البيع و 2.5 % في حالة ما تعذر ذلك.
وعن العلاقة الحالية التي تجمع أرباب المحلات بكل من الدلاّلة والباعة الجائلين أكد عبد الإله زاهر أنها “لا تخرج عن خانة المعتاد والمألوف ويحكمها الجانب الإنساني”، ويذكر كيف أنهم اجتمعوا في السابق وضاعفوا نسبة الدلاّلة من الربح إلى %5 في حين أن نسبة السمسرة في كل مكان تتحدد في %2.5 فقط، وإلى جانب ذلك قاموا بتمديد مدة البيع والشراء إلى حدود الثانية والنصف زولا، وذلك لتحسين الوضع الاجتماعي للدلاّلة.

من أجل البقاء

يصارع سوق الدلالة، الوحيد من نوعه بمنطقة الحبوس، ويلات الزمن من أجل الاستمرار في التواجد بمدينة الدار البيضاء؛ العاصمة الاقتصادية للمغرب ومدينة البورصة والأرقام التي أحاطت بها العصرنة من كل جانب، و كمثال على العقبات التي ترخي بظلالها على يوميات هذا الفضاء، ما جاء في تصريحات “فتاح زكي” لـ “الاتحاد الاشتراكي”، وهو فاعل جمعوي متتبع لتفاصيل السوق وواقعه، الذي أوضح بأن “الدلالة بشكلها الحالي تثير امتعاض بعض أصحاب الدكاكين، الذين يرون أن هذا المفهوم داخل سوق الزرابي والنحاس انحرف عن جوهره الأصيل ليأخذ أبعادا أخرى، إذ باتت تُعرض داخل السوق بضائع دخيلة من كل صنف وذات قيمة بخسة وجودة رديئة وحالة سيئة، بعد أن كان يضرب المثل بالبضائع التي كانت تحوي كل ما هو أصيل وذا قيمة رمزية ومادية مهمة مثل الزربية الرباطية، والجلابة البزيوية، وغير ذلك من السلع والتحف المعدنية”.
واقع أكد فتاح أنه “تجسّد أكثر في السنين الأخيرة التي تلت انتشار وباء كورونا، حيث طبعت مرحلة من الشد والجدب العلاقة بين بعض أصحاب المحلات وعددا من الباعة الجائلين والدلاّلة الذين يؤثثون بدورهم فضاء السوق خلال أوقات وساعات معينة”، مضيفا بأن هذه “الاضطرابات ارتفع معها صخب الاحتجاج والمطالبة بتدخل السلطات لإنصاف كل من الدلاّلة والباعة المتجولين، وهو ما تم فعلا ولو بشكل نسبي بعد وساطة السلطات متمثلة في شخص باشا المنطقة”. وأفاد الفاعل الجمعوي للجريدة في هذا الشأن”نحن كفاعلين جمعويين وإن كنا نتقاسم بعض وجهات النظر مع أرباب المحلات، إلا أننا ندرك ونتفهّم المتغيرات التي فرضت نفسها، وهو ما لا يجب أن يتحمّل تبعاته الدلاّلة والباعة الجائلين، فلا يمكن تخيل سوق الدلالة من دونهم، فهم يعانون بدورهم من ظروف مادية صعبة ويكدّون في سبيل تأمين لقمة العيش الحلال”.
وإلى جانب الوضع الاجتماعي لممتهني العيش بـ “الدلالة” في السوق، الذي استعرض فتاح بعضا من تفاصيله، فقد أكد المتحدث قائلا “نعتبر سوق الدلالة إرثا حضاريا لاماديا يدخل في صميم هوية سوق الحبوس ومدينة الدار البيضاء ككل، إضافة إلى كونه يساهم في تنشيط السياحة الداخلية والخارجية كذلك، ويقاسمنا الرأي في هذا فاعلون آخرون ومثقفون، وهنا نستحضر على سبيل المثال لا الحصر “مسلسل سوق الدلالة” للمخرجة جميلة البرجي بن عيسى، وتأليف أحمد بوعروة، الذي عالج جزءا من هذا الإشكال”. واختتم الفاعل المدني تصريحه في لقاء الجريدة به بالإشارة إلى “المناشدات التي ترفعها الفئات المتضررة من جدولة أيام البيع الحالية بسوق الدلالة، بإضافة يوم الأحد إلى جدول أيام العمل، باعتباره يوم راحة تنتعش فيه التجارة بشكل كبير، ويؤثر استبعاده على الدخل المادي لهذه الفئات التي تعاني من الهشاشة الاقتصادية”.

صحافي متدرب


الكاتب : سامي القلال

  

بتاريخ : 09/04/2024