يُقام المعرض من 31 مارس إلى 27 سبتمبر 2021، «ثلاثية المغرب: 1950 – 2020» في متحف رينا صوفيا بإسبانيا

 

إن معرض «ثلاثية المغرب : 1950 – 2020» هو نظرة تاريخية شاملة للفن من وجهة نظر رؤية الحاضر حيث يحتل الفن العنصر المركزي في تقييمنا للماضي والتفكير فيه بشكل عام وشمولي وفي علاقته بالسياق المجتمعي الذي ظهر فيه. ويهدف المعرض لجمع الفنانين من مختلف الأجيال والحساسيات الإبداعية التي تتقاطع في ما بينها أو تتأثر ببعضها لتطوير الفن نفسه وخدمته للمجتمع، سواء من طرف الفنانين والمثقفين داخل المغرب بالاحتكاك المباشر مع الواقع أو المقيمين في الخارج للدراسة أو العمل أو الاستقرار دون قطع الصلة بالوطن والبقاء معه دائما في تواصل وتفاعل.
ونسعى بهذا المعرض خلق حوار بصري يعكس الإنتاج الفني المغربي في ثلاث مراحل تاريخية مفصلية، من الاستقلال إلى يومنا هذا، ومن خلال مجموعة كبيرة من الأعمال التي تبرز تنوع المبادرات الإبداعية وحيوية النقاشات الفنية وغناها بين مختلف الأطراف والتخصصات المعنية بالفن والثقافة والتاريخ، هي فرصة إذن للحوار والتواصل والوعي بدور الفنون والثقافة بمختلف تجلياتها وآفاقها بصحبة الفنانين والمثقفين أنفسهم.
كما نعتبر المعرض بمثابة ورشة تربوية مفتوحة للتفكير في المجتمع اعتمادا على الفن والثقافة عامة وبدراسة الأرشيف والمنشورات في بعده التاريخي الذي أُنتجت فيه بكل تعقيداته، ولذلك يعمل المعرض على ربطها في ما بينها وتسلسلها والقفزات النوعية التي حدثت عند كل مرحلة بحكم تطور التاريخ.
تقدم «ثلاثية المغرب: 1950-2020» إذن سردًا تاريخيا للتجارب الفنية التي أنتجها المغرب منذ منتصف القرن العشرين الماضي مع التركيز، بشكل خاص، على ثلاثة مراكز حضرية، تطوان والدار البيضاء وطنجة، واستحضار معها الفنانين المغاربة في المهجر. إن الأعمال المعروضة، التي تم إنتاجها بين عامي 1950 و2020، فضلا عن الوثائق الأرشيفية، والمنشورات، هي بمثابة مسار تاريخي بصري بكل عنفوانه الثقافي الغني والغزير.
تُظهر بنية المعرض وتَشَكُلِهِ تنوع التعبيرات الفنية للمغرب الحديث، وتسلط الضوء على الشخصيات البارزة التي أسست وأبدعت في كل مرحلة على حدة، سواء بالقطيعة مع الماضي أو الاستمرار له أو بجمعهما معا في ذات الوقت كتموضع لكل مبدع في زمنه التاريخي، بدء بمرحلة الاستقلال (1950-1969) ثم مرحلة التي تُسمى بسنوات الرصاص (1970-1999) وصولا إلى يومنا هذا (2000-2020)
تضمنت الفترة الأولى، من هذه الثلاثية، مرحلة تاريخية جد مضطربة للغاية، والتي تمتد من سنوات الاستقلال حتى عام 1969، تم خلالها التعبير بالمجال الفني عن تلك النقاشات التي أثارتها الحاجة الوطنية والقومية، والإلحاح على خطاب الهوية المحلية. سيشكل هذان الجانبان خلفية المفاهيم المرتبطة بالحداثة الفنية المغربية في الخمسينات. كان نهج هؤلاء الفنانين يتمثل في إعادة النظر في مناهج التدريس التقليدية للفنون في المغرب بمنظور مستقبلي.
انغمس الجيل الأول من الفنانين المغاربة، الذين درسوا في العواصم الفنية الرئيسية في العالم ومارسوا بها إبداعهم عند بدايتهم الأولى، في تلك النقاشات النظرية العالمية وتأثروا ببعضها. وتبنوا في وقت لاحق، عند عودتهم إلى الوطن، التجريد كأسلوب مناسب للجمع بين التعبير عن تلبية طموحاتهم الوطنية ورغبة هويتهم.
وعليه، فقد قام العديد من الفنانين، الذين بدأوا حياتهم المهنية في مدارس الفنون المحلية بالمغرب، قطيعة جذرية مع التراث الأكاديمي الغربي. لقد قام بعضهم، بعد عودتهم إلى المغرب، مثل محمد المليحي ومحمد شبعة وفريد بلكاهية ولاحقا محمد حميدي ومحمد عطا الله ومصطفى حفيظ … بإحداث تحول جذري في منهج التعليم الفني المغربي خاصة في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، والتي سمحت شيئا فشيئا بالانفتاح على مشاريع الحداثة التي طَوَّرَتْ الحِرَف التقليدية بالابتكار فيها من أجل خلق أشكال فنية معاصرة وحداثية
في نفس الوقت، كانت مدينة طنجة محطة عبور ومركز عالمي للثقافة والفنون ومكانًا للقاء مختلف الحساسيات الوطنية والعالمية نذكر على سبيل المثال مجموعة «جيل بِيِتْ» Beat Génération التي يسلط عليها المعرض الضوء باعتبارها تجربة استثنائية للتلاقح الفني والثقافي بين توجهين مختلفين. وقد كان احتكاك المجموعة بعدد من المبدعين المغاربة فرصة لتطوير مخيلتهم وإبداعهم الموسيقي والمكتوب والبصري. كانت مدينة طنجة أرضا خصبة لعمل هذه المجموعة حتى تبدع أكثر برؤية جديدة ومختلفة وجذرية في الشكل والمضمون لإنتاجاتها التي انتشرت عالميا. ومن هذه المدينة نفسها انبثقت واحدة من أكثر السير الذاتية جرأة في الأدب المغربي «الخبز الحافي» بقلم محمد شكري ابن هذه البيئة والتي تعرضت للمنع لسنوات طويلة.
في هذه المرحلة أيضا، فتحت مجلة «أنفاس» (Souffles)، التي كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، النقاش حول التاريخ والوقائع الاجتماعية الجديدة لما بعد الاستقلال. لقد كان ظهور هذه المجلة كرد فعل طبيعي ومنطقي على القمع المسلح ضد الطلبة والتلاميذ في الدار البيضاء إبان انتفاضتهم في مارس 1965، وسرعان ما ستصبح هذه المجلة مرجعا للخطاب النقدي والعمل السياسي بالمغرب، تم حظرها في سنة 1972. كما تم منع أعمال فنية أخرى التي كانت جريئة في تساؤلاتها الفنية ضمن السياق المجتمعي مثل فيلم «أحداث بدون دلالة» للمخرج مصطفى الدرقاوي و»حرب البترول لن تقع» للمخرج سهيل بنبركة، لم يُسمح بعرضهما إلا بعد ربع قرن من تاريخ إنتاجهما.
وفي نفس الوقت، كانت صراعات داخلية كبيرة في التوجهات السياسية أسفرت عن ظهور مجموعة من المنشورات والمهرجانات والبيناليات المستقلة في كثير من الأحيان. وكان صوت المعارضة نشيطا جدا في الأدب والشعر والمسرح (خاصة مسرح الهواة إلى جانب الأندية السينمائية)، ووجدت صداها في مجلة «أنفاس» 1972، وفي «لاماليف» (Lamalif) و«أنتيغرال» (Integral). وظهر خلال هذه الفترة أيضًا ضمن هذه الديناميكية الحية في الإبداع فن غير أكاديمي وغير نخبوي من طرف أسماء فنية عصامية بالمطلق، جلها من النساء، مثل الرائدتين الشعيبية طلال وفاطمة حسن.
تأثر المغرب كثيرا وبشكل مباشر بالتغيرات التي حصلت في العالم، وخاصة في الخريطة العربية، إبان عقد الثمانينات، اقتصاديا وسياسيا ومجتمعيا وبيئيا مما أدى إلى اندلاع انتفاضتين شعبيتين في زمن قياسي 1981 و1984 اللتين تم مواجهتهما بالحديد فحصل نكوصا مجتمعيا وخمولا ثقافيا وفراغا مهولا في الفنون لتتحكم السلطة الرسمية في الساحة بتشجيع أطرها الرسميين على خلق جمعيات وهمية للسهول والهضاب والجبال مَيَّعَتْ بها الثقافة والفنون. وكانت إرهاصاتها قد أطلت منذ أواخر السبعينات في أصيلة سنة 1978، وقبلها البينال العربي الثاني بالرباط سنة 1976 يطغى عليها البهرجة وليس العمق الثقافي. لقد بدأ انهيار الكتلة الشرقية، وتشتيت الشعب الفلسطيني بعد طرده من لبنان انعكسا سلبا على المغرب نظرا للعلاقة الوجدانية للمغاربة بفلسطين حيث عمقت البعد القومي أكثر فأكثر.
عقد الثمانينات هو عقد الأزمات بامتياز بتكريسه لسنوات الرصاص، ولم يكن التراجع الثقافي خلاله إلا غفلة عابرة سرعان ما ظهر، في التسعينات، اتجاه معاصر جديد أخذ المشعل من جديد وترسخ في المشهد الفني المغربي بمقاربات فنية جديدة تواكب التطور العالمي للإنتاج والتوزيع والنقاش حيث أصبحت ترتبط بالكتل الجيوسياسية والمواضيع التي فرضها السوق الحر. ستتبلور هذه الديناميكية خلال التسعينيات مع فنانين وظفوا تقنيات رقمية جديدة واستخدموا فضاءات تجريبية لإيصال اعمالهم أمثال حسن الدرسي وسعاد كنون ومنير الفاطمي ويطو برادة وغيرهم.
ويمكن الحديث هنا عن تلك الفضاءات الجديدة التي وجد فيها الفنانون هامشا مهما للتعبير رغم بروز نوع من القطيعة التي خلقها بعض الفنانين أنفسهم في ما بينهم وبين الجيل السابق والوضع السياسي والمجتمعي العام بينما يسعى المعرض لربطها مع بعضها كسيرورة لتاريخ مشترك متعدد ومتنوع برغبة في حرية الإبداع

شهد المغرب، في أواخر التسعينيات، تحولا ديمقراطيا حيث ظهرت بوادر انفتاح على وسائل الإعلام كعلامة إيجابية ومُشجعة لمجتمع جديد. وبالتالي، تشكل المرحلة الثالثة والأخيرة من المعرض، التي تمتد من سنة 2000 إلى سنة 2020، والتي تُقدم أعمالا لجيل من الفنانين الشباب الذين ابتعدوا عن الماضي وعن مختلف القوالب السائدة، رسمية كانت أو فنية أو رمزية أو سياسية. إن جيل 00، كما عرَّفْناه في ما بعد، وجد لنفسه فضاءات بديلة للإبداع فخرج عن الدوائر التقليدية، وفتح مراكز مستقلة مثل «سنيما الريف» بطنجة و»الشقة 22” بالرباط و”عين السبع”(la source du lion) بالدار البيضاء، وقد خلقت هذه المبادرات سابقة شجعت الحراك الفني في فضاءات جديدة بإمكانها جلب القدرات الابداعية للوصول الى جمهور معني بقضايا الفن. ونجد أيضا في هذا السياق الشبابي المتجدد، حضورا مهما للفنانات اللواتي غالبًا ما يعكسن في أعمالهن نقدا للهوية الأنثوية المحدد في المجتمع المغربي.
كل فترة من هذه المراحل الثلاثة، بميولها الرسمية، ومصالحها الأيديولوجية وحوادثها التاريخية، قد أدت إلى ظهور إشارات مهمة للأجيال التالية لها والقادمة على حد سواء، بمراجع جديدة وأُفُق أَرحب في الإبداع.
معرض «ثلاثية المغرب: 1950-2020» هو في عُمقه دراسة للتراث الفني لمغرب ما بعد الاستقلال وتحليلا للإنتاج المعاصر. فمن خلال تنوع أشكال التعبير، يصبح للفن دوره النشط في مختلف مظاهره المتعددة، بالنسبة للفرد والمجتمع معا، متجاوزا فكرة المركزية الأيديولوجية أو الأخلاقية. وبذلك يعلمنا الفن إمكانية إدراك المعنى، تخيل العدالة، بحثًا عن التقدم الثقافي والاجتماعي للإنسان المعاصر. يمكن أن يساعد هذا الجزء من تاريخ المغرب على فهم حاضره والتفكير في مستقبله.

القيم على المعرض:
عبد لله كروم

المشاركون في المعرض: محمد أبو الوقار، إيتيل عدنان، محمد عفيفي، مليكة أكزناي، مصطفى أكريم، أحمد العمراني، محمد عطا الله، ياسين بلبزيوي، يطو برادة، فريد بلكاهية، فؤاد بلمين، بغداد بناس، هشام بنوحود، أحمد البوعناني، مصطفى بوجمعاوي، محمد شبعة، أحمد الشرقاوي، محمد شكري، حسن الدرسي، بشير الدمناتي، مصطفى الدرقاوي، محمد الدريسي، مولاي أحمد الإدريسي، أندري الباز، محمد الباز، خليل الغريب، بدر الحمامي، صفاء الرواس، علي الصافي، إيمان فخير، منير الفاطمي، جيلالي الغرباوي، سعاد كنون، مصطفى حفيظ، محمد حميدي، محسن حراكي، فاطمة حسن، سُكينة جوال، محمد القاسيمي، ماريا كريم، ليلى الكيلاني، فوزي لعتيريس، محمد لعتيريس، أحمد المعنوني، رندة المعروفي، نجية محادجي، محمد المليحي، عبد الرحمان الملياني، حسين الميلودي، محمد المرابط، سارة أوحدو، رشيد الوطاسي، برنار بْلُوسو، كريم رفيع، محمد العربي الرحالي، يونس الرحمون، عباس صلدي، الطيب الصديقي، شعيبية طلال، لطيفة التوجاني، أحمد بن ادريس اليعقوبي.


الكاتب : مراسلة خاصة

  

بتاريخ : 18/05/2021