ٍٍٍالمفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار (24)

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

 

من «الحداثات» إلى الحداثة (2)

 

هذه الثورة العلميَّة المتلاحقة في الغرب الأوروبي حفرت في الفكر الغربي تحوُّلات فكريَّة وفلسفيَّة عميقة، أخذت في التحقّق والتبلور تدريجيَّاً حول تجديد تصوُّر الكون والزمن والمكان والمادة والطبيعة عامَّة. وهي تحوُّلات تولّدت عنها فيما بعد نتائج فكريَّة وفلسفيَّة عميقة يجملها شايغان في العناصر التالية:
– تصوُّر جديد للطبيعة قوامه أنَّها لا تتشكّل من قوى حيويَّة غامضة، بل من علاقات رياضيَّة وميكانيَّة عليَّة.
– اعتبار أنَّ حركيَّة الطبيعة لا تمليها غايات أو غائيَّات لا تخضع للديناميَّات والتفاعلات الداخليَّة، وهي الفكرة التي انتقلت تدريجيَّاً من الطبيعة إلى التاريخ.
– النظر إلى المادّة على أنَّها مجموعة قوى وعلاقات ومقادير هندسيَّة وعدديَّة قابلة للحساب والترييض.
– تغيير التراتبات الأنطولوجيَّة للعالم وللكون وفتحه على آفاق وأبعاد لا متناهية.
– الإعلاء من شأن الذاتيَّة الإنسانيَّة، والتمييز الحاد بين الذاتيَّة والموضوعيَّة، وتأسيس العلم الحديث على أساس علاقة ذات موضوع.
يجمل شايغان هذه المعطيات ضمن حركة كبرى يسمّيها: «الكشف الأنطولوجي» للإنسان والعالم، وهو الكشف الذي سيتَّخذ صورة كليَّة ستمارس تأثيراً فكريَّاً كونيَّاً انطلاقاً من المركز الأوروبي ثمَّ الأمريكي فيما بعد.
يقوم هذا الكشف على أربع حركات أو موجات فكريَّة كبرى أسَّست للرؤية الحداثيَّة للعالم.
إضفاء طابع أداتي على الفكر أو العقل؛ أي تحويله إلى أداة تحليل وكشف بتنظيم المعرفة وضبط خطوات تقدّمها نحو الموضوع، وهو ما يعرف بصيغة أخرى بأهميَّة «المنهج»، حيث تصبح طريقة اكتساب المعرفة موازية في الأهميَّة لموضوع المعرفة ذاته، إن لم تكن أهم. فالأساس الفلسفي لمسألة المنهج هو إرساء المعرفة الإنسانيَّة على ذاتها.
إضفاء طابع رياضي على الطبيعة، حيث تحوَّلت الطبيعة في منظور العلم الحديث إلى كميَّات ونسب وعلاقات عدديَّة وهندسيَّة، وليست ماهيَّات أو جواهر قبليَّة. وهو ما عبَّر عنه غاليليو بالقراءة الرياضيَّة لكتاب الطبيعة، وعبَّر عنه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر بنزع الطابع السحري عن العالم أو عن الطبيعة، وفي ترابط مع ترييض الطبيعة إعطاء طابع تقني للعلم والمعرفة بشكل تدريجي في سياق الانتقال العسير من الفكر التأمُّلي إلى الفكر العلمي الذي يخضع ويستجيب لمتطلبات الفكر التقني.
إضفاء صبغة طبيعيَّة على الإنسان ذاته؛ أي النظر إليه باعتباره كائناً ينتمي إلى الطبيعة وينحدر منها، ممَّا يعني إعادة الاعتبار للجسم والنظر إلى النفس على أنَّها جملة دوافع وميولات وحاجات عضويَّة.
هذه النظرة تنقل الإنسان من دائرة السحر (Homo Magnus) إلى مستوى الإنسان العارف (Homo sapiens) بالمعنى الأنثروبولوجي الذي يمهّد للإنسان الصانع (Homo Faber) في اتجاه الإنسان الصناعي أو التكنولوجي (Homo technologicus).
نزع الطابع السرّي أو السحري (la démystification) عن الزمن، والنظر إليه كآنات متلاحقة مرتبطة بالمكان وبالعليَّة بعيداً عن أيَّة إضافات أو إسقاطات. وهذا يعني التمييز بين الزمن التاريخي والزمن الميتافيزيقي، زمن ما قبل أو ما بعد الزمن أو اللَّازمن الذي هو الزمن الإسكاتولوجي، زمن القيامة والحساب والعقاب في المنظور الديني.
هذه الحركات هي أساساً انتقالات أو حركات نازلة (descendants) من الرؤية التأمليَّة إلى الفكر التقني، ومن الأشكال الجوهريَّة إلى المفاهيم الميكانيكيَّة-الرياضيَّة، ومن الجواهر الروحيَّة إلى الدوافع الأوليَّة، ومن الزمن اللازمي إلى الزمن التاريخي أو التاريخانيَّة.
هذه الحركات تحدث ثغرة أو ثُلمة أساسيَّة عميقة (Brèche fondamentale) بين الفكر التقليدي والفكر الحديث يتعذَّر معها التواصل والتفاهم بينهما بمفاهيم واضحة وبمرآة صافية، بل فقط عبر مرايا منكسرة (miroirs brisés)، لأنَّ هذه الحركات ارتبطت بمجموعة صدمات (des chocs): الصدمة الكوسمولوجيَّة التي غيَّرت مركز الكون من الأرض إلى الشمس وفتحت أبواب اللَّاتناهي الكوني، والصدمة البيولوجيَّة التي أدرجت الإنسان ضمن سلّم تطوُّر طويل المدى، والصدمة السيكولوجيَّة التي حفرت أعماق الوعي وفتحتها على غياهب اللَّاوعي أو الَّلاشعور، بل الأفظع من كلّ ذلك أنَّ هذه المغامرة الفاوستيَّة التي نقلت الإنسان متمثلاً في طليعته من كونه كائناً رائياً (visionnaire) إلى كونه كائناً ناظراً أو ذا نظر (visuel) قد أحدثت كدمات ورضوضاً (traumatismes) بالمعنى الباتولوجي تسبَّبت في حدوث «خدوش» و»جروح» نرجسيَّة عميقة في صورة الإنسان عن ذاته.

تكلفة هذه الاكتشافات العلميَّة التقنيَّة والفكريَّة هي تكلفة عالية. فبالإضافة إلى الخدوش والجروح والكدمات، هناك حركة التحرُّر المصاحبة لها، فكلّما تحرَّر الإنسان من القوى اللَّامرئَّية غير المتحكّم فيها ومن الأساطير ومن طقوس الولاء ومن «الأوثان الذهنيَّة» فإنَّه، دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى وأشكالاً وأنماطاً أخرى ذهنيَّة أو مؤسسيَّة أو ديانات دهريَّة (Religions séculières) تتغيَّا الهيمنة بشكل لا يقلُّ استبداداً، وكأنَّ قدر الإنسان هو ألَّا يتحرَّر من سلطة إلا ليخضع لأخرى. وهذا ما يفرض ضرورة المضي في سياق استراتيجيا ذات ضلعين: التحرُّر والتخلّص المستمر من الأوهام (Démystification)، والإعمال الأقصى للعقل التأويلي (L’hermeneutisme).

لكنَّ التحولُّات الفكرَّية والقيميَّة العميقة التي حدثت في الغرب الأوروبي خلال المراحل الأولى للحداثة الظافرة، والتي انعكست على كافة مكوّنات وأبعاد الحياة فيه، لم يقتصر تأثيرها على هذه المجتمعات، بل طالت كلَّ المجتمعات والثقافات الإنسانيَّة بما في ذلك الثقافات التقليديَّة ذاتها. المجتمعات الأولى شهدت سيرورة علمنة تدريجيَّة شاملة شكّلت بموازاة هذه التحوُّلات، حسب هابرماس، «إيديولوجيا تقنيَّة» مهيمنة، تحمَّلت وظيفة إضفاء المشروعيَّة على السيطرة السياسيَّة. أمَّا في المجتمعات والثقافات التقليديَّة، فإنَّ رؤى العالم التقليديَّة أخذت تفقد قدراتها وصلاحياتها وصدقيتها (سواء في جانبها الأسطوري أو الديني الرسمي أو الطقوسي أو الميتافيزيقي)، لتتحوَّل إلى أخلاقيَّات وإلى معتقدات (إيديولوجيَّة) ذاتيَّة تدخل في تفاعلات وتسويات مع المحدّدات والأطر الموجّهة والقيم الحديثة، تنشأ عنها خلائط وتشوُّهات فكريَّة واعتصارات وآليَّات إيديولوجيَّة متعدّدة الأشكال والألوان والوظائف.
لا ينتهي شايغان في تحليلاته إلى خلاصات وضعيَّة أو راديكاليَّة تجاه الدين، بل يرى أنَّه ما زال بإمكان الدين أن يساهم في الإثراء الروحي للإنسان، وإن لم يعد بإمكانه القدرة أو المطالبة بتوجيه النظام الاجتماعي. فقد ولّى تاريخيَّاً ذلك الزمن الذي كانت فيه الديانات مصدراً للنظام السياسي، لأنَّ الدين عندما يتمُّ تخريجه أو تحقيقه خارجيَّاً في التاريخ، من حيث هو كليَّة متماسكة تطال القطاع العام كما تطال القطاع الخاص (بمعنى الفردي)، فإنَّه «سيتلوَّث بالتاريخ وينحدر (se rabaisse) إلى مستوى الإيديولوجيَّات الشموليَّة (Idéologies totalitaires) التي يطفح بها العصر الحديث.

2 – الصدمة المزدوجة: الحداثة والاستعمار:

من خصوصيَّات انتشار الحداثة في البلدان غير الأوروبيَّة هو اقترانها بالاستعمار. فالاستعمار هو تلك الحركيَّة التاريخيَّة المتولّدة عن التطوُّر السريع لبلدان المركز ولتفوُّقها بفعل القوَّة الناتجة عن التطوُّر التقني، وتفاعله مع رأس المال التجاري في الغرب. والبعض يقرن بين نشوء الحداثة والتطوُّر السريع للرأسماليَّة أو بين رأس المال المالي ورأس المال التقني والمعرفي: فوفرة الإنتاج الناتجة عن سرعة التطوُّر التقني بدأت تفرض توسُّع الأسواق، وهو ما حتم ضرورة الخروج من دائرة الأسواق الداخليَّة أو المحليَّة نحو أسواق أكثر اتساعاً، كما أنَّ تطوُّر تقنيات النقل سهَّل عمليَّة نقل السلع نحو الأسواق الخارجيَّة، كما يسرَّ عمليَّة استقدام المواد الخام من هذه الأسواق.
وقد كان من الضروري نثر بعض الأزهار على عمليَّة الغزو الاقتصادي والاستلحاق السياسي لتزيين وتسويغ عمليَّات الغزو الاستعماري، وذلك ببلورة إيديولوجيا تحضير هذه المجتمعات المتخلفة، ونقلها من العصور القديمة إلى عتبة عصور الحداثة، عبر تحقيق وإدخال إصلاحات على كافة المجالات.
وقد زاوج الاستعمار الأوروبي بين هذين المطلبين: توسيع الأسواق الاقتصاديَّة (إصداراً واستيراداً)، والتوُّسع السياسي مقدَّماً على شكل رسالة تحضيريَّة أو تنويريَّة لهذه الدول. وقد عبَّر عن ذلك بصيغة سوسيولوجيَّة السوسيولوجي الأمريكي (David Apter) بقوله: «إنَّ الاستعمار هو الصيغة التي اتخذت بها الحداثة طابعاً كونيَّاً»[6].


الكاتب : محمد سبيلا

  

بتاريخ : 27/08/2021