الغرب والقرآن 6 : إشكال الوثنية والتوحيد

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
يؤكد الباحث حمود حمود في دراسته التي عنوتها بـ “على خطى وانسبرو، أو القرآن معلَّقاً بين قوسين بدون تاريخ” أن هاوتينغ يقع في إشكال منهجي حين يبني الفجوة بين النص القرآني وكتب التراث على تخمين ذاتي، ذلك أنه لا يعترف، أصلا، بأي مصدر تاريخي يمكن أن يحدد له الجهة الزمكانية، علما أن هناك فجوة زمنية موضوعية بين كتابة نصوص القرآن وبين التراث الإسلامي، ربما تمتد لما يزيد على مئة سنة.
يقول الباحث: “إنه في الواقع لا يوضح هذه الفجوة، لا بل تنقلب عنده إلى أقنوم إيديولوجي (لكي يقول بكل بساطة أن الصورة التي كونها التراث الإسلامي تختلف عن صورة القرآن)، ولسوء الحظ بدون أن يحدد إلى من هو موجه هذا القرآن، ولا من ألفه، وأين تم تأليفه بشكل محدد (هل في سورية أم فلسطين أم العراق؟)؛ ربما في “مكان ما” غير العربية، كما يقول فْريد دونر عن هاوتينغ ووانسبرو”.
ويذهب الباحث أبعد من ذلك حين يتهم هاوتينغ بمحاولة “قلب الأمور على رأسها في نفي المفهوم المستقر حول الوثنية، الشرك، الكفر… الخ إلا أنه لا يعطي مفهوماً محدداً لـ “التوحيد” الذي ألبسه بصورة أيديولوجية لوثنيي محمد أو ما قبل محمد”. بالطبع هذا يفترض تساؤلاً آخر: بكل بساطة من هو الرب أو الآلهة التي كان يؤمن بها العرب حتى نسميهم موحدين كما يريد منا هاوتينغ؟
ويؤاخذ حمود حمود هاوتينغ على عدم وقوفه عند المشاكل المفاهيمية التي لم يصل الدارسون إلى حل نهائي لها حتى الآن. يقول: “لنلاحظ مثلاً منهجه في طريقة من طرق تشكيكه في النقش الصابئي الموجود في المتحف البريطاني الذي أشار إلى كلمة الشرك Sh-R-K. وقد رُبطت الكلمة بما ورد في القرآن بخصوص الشرك (هناك نقشان آخران أيضاً. وقد علق العلماء أن محمداً استعار كلمة شرك من جنوب بلاد العرب). لقد نشره لأول مرة “Mordtmann” و”D. H. Müller”سنة 1896. وقد قام آرثر جفري (5) بتقديم سطر منه كما هو التالي:
يورد أرثر جفري التالي:
«And Avoid Giving A Partner To A Lord Who Both Bringth Disaster And The Author Of Well Being».
ويواصل: “طبعاً هاوتينغ يغطي على هذا، ويذكر فقط النقش، لا بل يقول بالحرف الواحد: «في محادثة مع الدكتور آرثر إيريفين، لقد قدم لي ملاحظة أنه يعتقد أنه هناك تحفظات أو شكوك حول قراءة النص [النقش]»!! بالطبع هذا الكلام ليس منهجياً ولا علمياً في تشكيكه بقراءة النقش، إلا أن هاوتينغ يحاول بأي وسيلة مهما كان مستواها أن يضرب بعرض الحائط مسلمات بدائية. (المهم عنده أن ألفاظ الشرك التي ورد في القرآن هي محض ألفاظ جدالية مجازية). هذه الحالة تتكرر في كثير من شكوكه بالنقوش لكن بأساليب أخرى. وحتى إذا قالت آلهة أو صنم ورد في القرآن –مثلاً اللات- لهاوتينغ: أنا اللات هنا! بالطبع سيرد عليها هاوتينغ: لا، أنت لست اللات، أنت بالتأكيد شيء آخر!”.
ولا يتوقف اعتراض حمود حمود عند هذا الحد؛ فهاوتينغ يرفض، في أطروحته حول القرآن، أن تكون ألفاظ الوثنية دالة على واقع تاريخي، لكن من جهة أخرى لا ندري ما هو المصدر التاريخي الذي يستند إليه حينما يُكرر القول أثناء الكتاب كله أن ما اعتبرهم التراثيون وثنيين (وفي الواقع القرآن هو الذي نظر إليهم هكذا) هم موحدون بنظر هاوتينغ. إنه ينفي أي مصدر تاريخي، ويبتدع من عنده أدلوجة ليطبقها على المسلمين الأوائل، أو في أحسن حالاته ينظر للتاريخ كنمط مثالي ذهني يسير ضمن خط واحد بمعالم واستحقاقات واحدة: لا بد أن الذي جرى في أوربا مع اليهود والمسيحيين قد حدث في مكة أو أي بقعة عربية ما دام الكل ينتمون إلى تراث توحيدي”.
إن هاوتينغ، يقول الباحث، يخلط بشكل متعمد ما بين علائم واستحقاقات القرون الأولى للمسلمين، وما بين الذي حدث في أوربا في القرن السادس عشر مع البروتستانتية ضد الكاثوليكية وبعض الفرق، بل حتى يأتي بأمثلة مما حدث عند الوهابية في بداية نشوئها مع محمد بن عبد الوهاب حينما بدأ يرمي خصومه باتهامات الوثنية والجاهلية (وبعدها سيد قطب). هذا التنميط الفكراني يطبقه هاوتينغ بدون سابق إنذار على القرون الأولى للإسلام وبدون أي اعتبار لفروقات الزمان والمكان والاستحقاقات التاريخية لهما. ولا داعي لأن نستفسر كيف استقامت في ذهنه هذه القفزات الذهنية. بكلمات أخرى: الوثنيون الذين ورد ذكرهم في القرآن، ليسوا وثنيين بالمعنى الحرفي، إنما هم موحدون، أما الاتهامات بالشرك فإنها أتت في سياق مماحكات وجدالات.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 30/04/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *