في التغيير والتنوير والشبكات 6 : 2 – الوعي بالذات، الطريق العربي نحو التنوير (1)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

انتقد هشام جعيط كيفية استقبال مثقفي النهضة العربية لأدبيات التنوير، مبرزاً الطابع السطحي والتبشيري لبعض خطاباتهم. كما حاول تفسير الرفض الذي جُوبهت به قيم التنوير في ثقافتنا، موضحاً أن صلابة ثقافة التقليد تقف وراء المساحة الصغيرة، التي انتصرت لقيم ينظر إليها المجتمع بأعيُن الريبة. إلا أن متابعة مشروع التنوير في ثقافتنا، تُبرز أن المساحة المذكورة اتسعت، وأصبحت تستوعب فضاءات للعقل والأنوار، وذلك بعد أزيد من نصف قرن على إرهاصات الرواد في مطلع القرن العشرين.
ننطلق هنا من اعتبار أن أعمال مجموعة من مفكري النصف الثاني من القرن الماضي، تجاوزت عمليات التبشير بقيم التنوير، التي هيمنت على مساهمات نهضويي اللحظة السابقة واتجهت أغلب مساهمات مثقفي هذه المرحلة، نحو بناء أشكال أخرى من التفاعل مع مكاسب فلسفة الأنوار، وذلك انطلاقاً من مقاربة اهتمت بأسئلة التنوير في ضوء إشكالات الحاضر العربي، الأمر الذي يُبرز العمق الذي اتسمت به نظرتهم لأفق التنوير في مجتمعاتنا. وقد اتجهت أعمالهم المتواصلة بأشكال مختلفة ومتطورة في ثقافتنا، إلى تعقل روح فلسفة الأنوار في ضوء عنايتهم بأسئلة وتحديات الراهن العربي، فلم يعد ممكناً بعد امتحان الإنسانية لتطلعات فكر الأنوار، أن نواصل النظر بمقدماتها في نهاية القرن العشرين ومطالع القرن الجديد. ولتوضيح ما نحن بصدد التمهيد له، نشير إلى أن أعمال عبد الله العروي وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري (1936-2010) ومحمد أركون (1928-2010)، على سبيل التمثيل لا الحصر أنتجت جهودً نظرية مركَّبة، أثناء اقترابها من مفاهيم وقيم الأنوار. تجلى ذلك في حرص من ذكرنا على استحضار الشروط الذاتية لمجتمعاتنا ومقتضياتها المتصلة بالخصوصيات التاريخية والثقافية، وكذا الخصوصية التاريخية والثقافية لفلسفة الأنوار في سياق نشأتها الغربية، الأمر الذي أنتج في فكرنا المعاصر حواراً خلاقاً مع قيم التنوير، ولهذا السبب نعتبر أن مساعيهم تتجاوز عقلانية المقايسة والتماثل، وتبني في فكرنا الملامح الكبرى لعقلانية الوعي بالذات، وهي عقلانية تروم المساهمة في بناء مقوِّمات تنوير مكافئ لأسئلة وتطلعات مجتمعنا.
لا نقف في أعمال عينة المفكرين والباحثين الذين يمثلون لحظة عقلانية الوعي بالذات على حوار مباشر مع فلسفة الأنوار، بل نجد أن أعمالهم تكشف درجات تمثلهم للأفق الفكري والتاريخي، الذي أشاعته قيم التنوير في التاريخ، مع محاولات في إعادة التفكير فيها ومراجعة بعض أسسها، صحيح أن البعض منهم اتجه للبحث في حدود بعض قيم التنوير، مثلما فعل محمد أركون وهشام جعيط. وأن بعضهم الأخر، استعان بروحها النقدية وحاول تكييفها مع مقتضيات التاريخ والثقافة العربية الإسلامية، كما نجد في أعمال نقد العقل العربي عند كل من الجابري وأركون، وأن بعضهم استعان بروحها النقدية وهو يواجه أوضاع التأخر التاريخي العربي، كما هو عليه الحال في أعمال عبد الله العروي، إلا أنهم جميعاً تمثلوا بصوَّر مختلفة روح فلسفة الأنوار، وبلورت أعمالهم نوعاُ من الحوار النقدي والإيجابي مع رصيدها. وسنقوم بعرض مكثَّف لجملة من المعطيات الكاشفة لجوانب من أنماط تلقيهم وتطويرهم لفكر الأنوال.
1 – تستند تاريخانية العروي إلى مكاسب العقلانية في القرن الثامن عشر، ومشروع التحرر الليبرالي في القرن التاسع عشر، كما تستند إلى تصوُّر معيّن للماركسية، وهي تستند قبل ذلك إلى موقفه من التأخر التاريخي العربي، الذي شكَّلت هزيمة 1967 لحظة من لحظاته الكاشفة والفاصلة. وقد عمل طيلة خمسة عقود من الكتابة والبحث على بناء رؤية فكرية، تروم المساهمة في تجاوز المصير العربي، رؤية لا تتردد في تشخيص عِلل التأخر العام السائدة في الواقع العربي، مع التركيز على مجال الصراع الفكري الدائر في مجال الأيديولوجيا العربية المعاصرة، في علاقته بالتاريخ وتحولات التاريخ العربي والعالمي.
لقد انصب اهتمام العروي على أسئلة التاريخ، وأسئلة التقدم، محاولاً نقد التصورات اللاتاريخية في النزعات الإصلاحية العربية، التيارات السلفية والتيارات الانتقائية، مؤكداً على أهمية التعلم من دروس التاريخ الحديث والمعاصر، دروس الفكر التاريخي، وقد رسم بداية حياته الفكرية في مطلع سبعينيات القرن الماضي برنامجاً محدداً في الإصلاح الثقافي والإصلاح السياسي، إصلاح الذهنيات والمؤسسات.
تحضر الملامح الكبرى لمآثر الأنوار في أغلب أعمال العروي، كما تحضر في كيفيات توظيفه لفلسفات أخرى، استوعبت بدورها أشكالاً من الحوار مع مبادئ التنوير. تحضر في ثنايا كتب المفاهيم، الحرية والدولة والعقل. كما تحضر في كتاب ديوان السياسة (2009)، وفي المقدمة التي كتب للترجمة التي أنجز لنص دين الفطرة لروسو.
نتبين بعض قيم التنوير في مساعيه الفكرية النقدية والتاريخية منذ كتاباته الأولى في العرب والفكر التاريخي (1973)، وأزمة المثقفين العرب (1974)، وهي مساع تتوخى تمثُّل مكاسب ومنجزات الحداثة والتحديث. وإذا كان البعض قد قرأ في أعمال عبد الله العروي الأخيرة من قبيل السنَّة والإصلاح (2008) نوعاً من التراجع عن خياراته الفكرية الكبرى، فقد تبينا ونحن نراجع أعماله ونراجع ترجماته الأخيرة لبعض كتابات روسو ومنتسكيو، قدرته على تطوير وتعزيز خياراته الفكرية والسياسية، المستندة إلى مبادئ الأنوار. ولو توقفنا أمام بعض جهوده الفكرية قصد التوضيح،لوجدنا أنفسنا أمام محاولة يتجه صاحبها للإقرار بأن بلوغ عتبة النهضة يتطلب التعلم من الآخرين؛ التعلم مما يسميه في كتابه مفهوم العقل (1996) “المتاح اليوم للبشرية جمعاء”، أي محاولة الاستفادة من مختلف مكاسب الحضارة المعاصرة في المعرفة والسياسة والتاريخ. ولتوضيح ما نحن بصدده، سنتوقف أمام محتويات مقدمته للترجمة التي أنجز لنص روسو دين الفطرة.


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 30/04/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *