يوميات بلد موبوء .. 7 – فدائي العصر الجديد

 

كان يا ما كان في قديم العصر والأوان، منذ عقود خلت، كنا مستبشرين بانتهاء عام عصيب وبداية آخر، عام يقفل عشرين سنة بعد الألفين ، عشرين سنة رأينا فيها أهوالا جسام وأحداثا أثقلت كاهل التاريخ بزخمها ووحشيتها،  كان يحذونا أمل دفين في أن هذا العام سيكون عام الخير، عام التغيير ، بدأنا نخطط ونرسم لمستقبل أجمل.

 

ثم جاء السيد كورونا فإذا بها تصبح رمزا لمقاومة من نوع آخر رددها الناس في الشرفات تنفيسا على ما اعتراهم من خوف وتوجس من ماض مجهول وغناها رجال المطافئ في بريطانيا تضامنا مع زملائهم الإيطاليين واهتزت على وقعها ربوع البلاد من أقصاها إلى أقصاها، في أول ذكرى ليوم التحرير تحت الحجر الصحي والعزلة القسرية. ثم جاء السيد كورونا فإذا بها تصبح رمزا لمقاومة من نوع آخر رددها الناس في الشرفات تنفيسا على ما اعتراهم من خوف وتوجس من ماض مجهول وغناها رجال المطافئ في بريطانيا تضامنا مع زملائهم الإيطاليين واهتزت على وقعها ربوع البلاد من أقصاها إلى أقصاها، في أول ذكرى ليوم التحرير تحت الحجر الصحي والعزلة القسرية. وذكرى يوم التحرير تلك، والحق يقال، كانت قبل قدوم السيد كورونا مجرد خانة واعدة بالدفء في جدول أيام عطلنا، نغازله من حين لحين مستبشرين بقدومه وقدوم الربيع، نشبكه بين جمعة وأحد ونهرب به من دوي المدن إلى فضاءات أوسع، ترتخي فيها ذواتنا من تشنجات شتاء طويل.عيد لم يكن يعرف عنه أبناء هذا الجيل إلى ما تفرضه عليهم المناهج التعليمية، وكان آباؤهم وأمهاتهم يتجاهلونه أو بالأحرى حولوه إلى يوم ترفيه ونقاهة ينسيهم ولو للأي غوغاء المدن.دأبت السلطات على إحيائه بمراسم رتيبة تطل عليك من شاشات التلفزيون فتُبادر لتغييبها بنقرة من جهاز التحكم.أخذنا نهتم به في سنوات المد اليميني العجاف، حين تترامى إلى مسامعنا سهوا، تصريحات زعماء أحزاب تحِن إلى زمن الدوشي. تطاولت على عيد يؤرخ أجمل صفحات تاريخ هذه البلاد، ودعت إلى مقاطعة مراسم إحياء ذكراه بل سلحت أيدي خفية، تزحف في جنح الظلام وتضع الصليب المعقوف على معالم الجندي المجهول وتلوث تماثيل لأبطال المقاومة الفدائية.بيد أن كلمات الأغنية يوم ذاك كانت طبولا تدق على ضمائر هذا الشعب وتدعوه لمراجعة ما آلت له أحواله، بل تضعه أمام مرآة تعكس فشله في الانعتاق وفي التحرر.فقد تَخلَص من قبضة الأنظمة الشمولية والولاء للقائد الأوحد ليقع بين براثين السوق الحر وسياسة “دعه يعمل دعه يمر” التي حللت العمل بدون ضمانات اجتماعية وشجعت على العمل غير النظامي بدعوى تسهيل عجلة الاقتصاد.فجاء السيد كورونا ليعري الزيف وينزع الأقنعة عن لوبيات السوق الحرة وفضح المستور، والمستور أن مصائرنا كانت في يد دول تحولت إلى شركات تدين بدين الخوصصة لم يعد فيها الشأن العام منظومة قيم ومُثل ومفاهيم عليا بل منظومة للربح والخسارة.كنا جميعنا مضغة سائغة بين أنياب شركات تقرر مصائرنا كشركات صناعة الأدوية التي آثرت تجاهل نذير الشؤم بقدوم نوع جديد من الوباء التاجي، وهي على يقين أنه آت لا محالة، ألا يسمونه وباء كوورنا المستجد؟ فضلت كما قال نعوم تشومسكي: “تصنيع كريمات البشرة على إيجاد لقاح أو علاجات للأوبئة المحتملة لأنها أكثر ربحاً”. فوضعنا السيد كورونا أمام خيار واحد أوحد، إما أن نظل بين براثين الليبرالية الجديدة التي تستثمر بالشكل الذي يحلو لها بمباركة من الدول نفسها ودون أية مراعاة لأبسط مقومات الصالح العام أو عالم جديد قوامه التضامن وقيم العدالة الاجتماعية.  فالفرد الذي علَبت حياته شركات الإنتاج وشبكات الإعلانات وفبركت حقوقه وحرياته وخصوصياته وأناه العليا في سعيه نحو تحقيق الكماليات، بل الثراء الفاحش.  فانبرى يحقق ذاته على حساب المصلحة العامة وعلى حساب المهمشين والمستضعفين في الأرض. من كان يصدق أننا في عصرنا هذا سنعود إلى العبودية من جديد وسنبارك بِصَمتنا عودة نظام السُخرة أو ما أسمته لغة العصر بمقاولة الأفراد أو Caporalato، تطبق نظام الرق على عمال المزارع وتستغل في ذلك، أيما استغلال، مهاجرين غير نظاميين، حولتهم سياسة الربح السريع، إلى عبيد العصر الحديث، مع فارق كبير وهو أن السيد الأبيض في العصور الغابرة كان يشق البحار ويلج أدغال القارة السوداء لجلبهم والآن بات الأفريقي يأتي بقدميه، يبذل الغالي والنفيس مخاطرا بحياته ليرتمي في أصفاد العبودية الحديثة.وجاء السيد كورونا وأصبح القائمون على الشأن العام يخطبون وُدهم ويبحثون عن طرق لتسوية وضعيتهم. أي ولله! فالدولة بوسعها أن تستغني ولو لحين على مصانع “الفيراري” لكنها لا يمكن أن تجوع شعبا قابعا وراء الجدران في انتظار الفرج.  وهذا وارد إذا لم يذهب هؤلاء إلى الحقول لجني الخضر والفواكه.أجاء السيد كورونا “فدائي العصر الجديد” ليحرر الشعوب من استبدادية الليبرالية الجديدة، ويبعث الروح في قيم التكافل الاجتماعي ودور الدولة في ضمان حقوق الطبقات المسحوقة؟ بعد أن فشلت في ترسيخها سلالة غرامشي وبرلينغوير التي أضحت في الآونة الأخيرة أحزابا نخبوية قاصرة على الصفوة من كتاب ومفكرين، حافرة بذلك أخدودا عميقا بينها وبين القاعدة العريضة من المجتمع بهمومها وتطلعاتها؟ لحظة تاريخية ينبغي على اليسار ألا يفوتها، أن يلملم ما تبقى من أشلائه ويقدم مشروعا بديلا حريا بمواكبة التحولات التاريخية التي أفرزها السيد كورونا محدثا صدمة، هي في حدود علمي أعظم صدمة شهدها العصر الحديث.

 

 


الكاتب : سعيدة صدقي

  

بتاريخ : 02/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *