شره الأمكنة.. العالم بعدسة أحمد بن اسماعيل 8- مول السوليما/صندوق العجب

 

حين تتحول العدسة إلى مؤرخ فني كبير.. حين تسرق اللحظات ليس لتوقف الزمان ولكن لتعيد للوجدان كينونته.. تنفخ فيه روح الحياة المزهوة بكل ما هو جميل ونبيل.. بكل ما يجعلك تقف باحترام وانت مبهور لترفع القبعة وتنحني ببهاء ممتثلا للمشاهدة والإنصات..
هكذا جعل الفنان الفوتوغرافي المبدع أحمد بن إسماعيل آلة تصويره معشوقة دائمة محمولة على كثفه الأيسر لتجاور قلبه حيث تتناغم مع نبضات حبه التي تحولت إلى قصة عشق أبدية..
بين وضوح النهار وأثار الليل، بين الوجوه المشرعة في الساحة، في الدرب، في الشارع، في المقهى، في المسرح، في السينما، في كل هذا الكون الممتد من القلب إلى القلب..
عشق فسيح في عالم لا يلجه إلا من ينبض بالحب، ويتملى بالجمال، ويتقن فن العيش ليسكن قلوب كل العاشقين، ممن تحدثت عنهم الأساطير ، أو حتى تلك التي قد تحتاج لمعرفة كنهها وانت تتسلل في علو إلى سدرة منتهى الحب..
أحمد بن إسماعيل وهو يعبر كل تلك الدروب والازقة الضيقة شكلا، والشاسعة حبا، من حيه بدرب سيدي بن اسليمان في المدينة العتيقة مراكش، فلا يعبرها رغبة منه، أو تغريه روائح توابلها، وطلاء جدرانها، وزليج سقاياتها، وقرميد أقواسها، وطيبوبة وبساطة سكانها، إنما تقوده محبوبته، عشقه، لممارسة شغبه/ حبه الفني في التقاط كل ما هو بديع،..
أحمد بن إسماعيل حتى عندما افتتن بالريشة والصباغة والألوان، وأبدع فيها ببصمته الخاصة، لم يفارق ملهمته، عشقه الأبدي، آلة تصويره، هذه الآلة التي سنرافقها حبا فيها وعشقا لها، من خلال ما أنجبته من تحف فنية بعد إذن الفنان المبدع أحمد بن إسماعيل، لتُفشي لنا الكثير من الأسرار، وتعيد الحياة للكثير من القصص، وتروي لنا كل الروايات عن شخوص ورجال وأماكن وفضاءات، سواء في مراكش وساحتها الشهيرة أو عبر جغرافيا الحب لهذا الوطن، والتي سكنت أحمد وآلة تصويره حتى الجنون.. وهو ما ستميط اللثام عنه هذه الحلقات:

 

عدسة أحمد بن إسماعيل ليست مجرد لحظة لاقتناص مشهد  جميل لشخص ما، أو فضاء ما، أو حدث ما، لكنها أيضا من أجل النبش في الذاكرة..
الصورة التقطها بسوق تغدوين لما أسماه صندوق العجب أو السوليما، وهذه الظاهرة أنقرضت بالمدن لكنها ما تزال في القرى وخصوصا أسواقها الأسبوعية..
أتذكر أن ساحة جامع الفناء كان فيها صندوق العجب السوليما وهو عبارة عن علبة تشبه آلة تصوير تُضع فيها أقراص تضم العديد من الصور وتتغير الصور من خلال تحريك زر إلى الأسفل، ويتحول صاحب هذه الآلة إلى راوي لقصة ينشئها من خلال تلك الصور التي يحركها بزر لتتتابع المشاهد بين عينيك، فيما تجد متعة وأنت تستمع إلى تلك القصص التي يرويها ، فتتحول الى بطل لا يهزم، وهو يمرر أمامك صورا لشخص مفتول العضلات يوجه لكمة أو ركلة لخصمه أو يحمل شخصين بكلتا يديه وهو كعملاق عظيم لا أحد قادر على هزمه.. أيضا تشاهد رواد الفضاء كأرمسترونغ أول من وضع رجله على سطح القمر.. أو ينتقل بك من خلال صور أخرى إلى فضاءات وأمكنة، فتتجول عبر عواصم العالم ، باريس وبرجها الشهير لاتورفيل، وامستردام، وواشنطون ونيويورك وناطحات سحابها، وبكين وموسكو.. وعجائب الدنيا كالاهرامات.
الراوي وهو يغير المشاهد من مدينة لأخرى يحكي عن المدينة ولغة سكانها وحياتهم ليجعل منك رحالة تجوب العالم وأنت لم تتزحزح قيد انملة من تلك النقطة التي وقفت فيها عند مول السوليما.
وإذا أضفت عشرين سنتيما أخرى “ربعة دريال ” فأنه يجعلك مؤديا لمناسك الحج بأقل ثمن ، فتطوف الكعبة وتصعد عرفات وترمي الجمرات وتسعى الصفا والمروة وتزور المدينة المنورة ومسجد رسول الله وكل الطقوس المرتبطة بمناسك الحج والتي طبعا تخلق لديك احساسا وكأنك بالفعل داخل كل تلك الفضاءات، وما يزيدها متعة هو طريقة حكيه ووصفه لكل تلك المشاهد.
كانت العديد من الأسماء ممن كانت تقيم حلقات بساحة جامع الفناء وأيضا ساحة باب دكالة وتستقطب الأطفال وأحيانا حتى  بعض الكبار ممن يعوضون عدم قدرتهم على ولوج القاعات السينمائية أولا يتوفرون على ثمن تذكرتها..
أصحاب السوليما، أيضا يستهدفون التلاميذ، فيعرضون صناديقهم العجيبة أمام المؤسسات التعليمية.. ويتحلق حولهم التلاميذ ويتنافسون فيما بينهم لإعادة الروايات حول المشاهد التي رأوها بأم عينهم من خلال تلك الآلة العجيبة التي يطلون منها على تلك الحكايات مستحضرين طريقة الراوي الذي ليس هو سوى مول السوليما، أيضا هولاء التلاميذ وهم يحكون لزملائهم ما رأوه يحاولون تجسيد ذلك، ويقومون بالتشخيص، وهو ما يجعل زملائهم الاخرين يلجأون في اليوم الموالي لأوليائهم قصد إعطائهم نقودا يدفعونها لمول السوليما لينعموا أيضا بتلك المشاهدات حتى تكون لهم القدرة على منافسة أقرانهم في الحكي والتجسيد والتشخيص..
هذه المشاهد انقرضت منذ أزيد من عقدين، والصورة التي التقطها ابن اسماعيل تعود الى منتصف التسعينات بمنطقة جبلية بأقليم الحوز..
اليوم الهواتف الذكية أغنت الأجيال الحالية من البحث عن مول السوليما، ويتابعون الكثير من العجائب ولكن بقليل من المتعة لأن المتعة غالبا ما ترتبط بكل ما هو بسيط..


الكاتب : إعداد: محمد المبارك البومسهولي

  

بتاريخ : 04/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *