في التغيير والتنوير والشبكات رابعاً: 11 – إعادة التفكير في الأنوار (2)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

يطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالنقد والتنوير، لكي لا تُحَوِّلَ جماعاتٌ معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي مُعلَّق وجامد. إن التجربة الروحية في الإسلام كما نتصوَّر تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث لا يعدو أن يكون جزءاً من تاريخ لم ينته بعد. لهذا السبب نرى أن عودة المحفوظات التقليدية، بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، سببه عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إن فشل مشاريع الإصلاح الديني والإصلاح التربوي والثقافي، وبروز أشكال من التأسلم مختلطة ومتنوعة من قَبِيل، إسلام الزوايا، إسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، يضعنا أمام شبكة معقَّدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنيتها، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصرة.
لا تنفصل إذن في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني، الحاصلة في مجتمعاتنا اليوم عن مشروع ترسيخ مقدمات الأنوار وقيمها في فكرنا. وضمن هذا السياق، نؤكد أن انتشار دعاوى تيارات التطرُّف، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة، لإطلاق مجابهات يكون بإمكانها أن تكشف وتبرز فقر ومحدودية وغُرْبَة التصورات المتصلة بهذه التيارات، الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع، أي إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم..
نربط سؤال التغيير الذي نواصل تطلعنا إليه اليوم في مجتمعاتنا بمطلب التنوير، حيث لا يمكِن في تصوُّرنا تحقيق التغيير السياسي، دون حصول تغيير ثقافي يمكنه من الروافع التي تجعله أمرًا ممكن الحصول. إن معركة التنوير في ثقافتنا، وفي واقعنا السياسي، تزداد أهمية وراهنية، كلما فكرنا في التغيير وشروطه. يعود السبب في ذلك، إلى استمرار هيمنة التقليد على فضاءات السياسة والثقافة في مجتمعنا، وتصاعُد حضور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، وهي الحركات التي وسَّعَت صوَّر حضور تصوُّرات أخرى للإسلام في مجتمعنا، وذلك بجانب الصور المواكبة لتاريخه.
وهنا لابد من التوضيح بأن قيم الإسلام، كما تبلورت في التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع عنها اليوم من أفكار، أقل ما يمكن أن توصف به هو غربتها عن التاريخ وعن الإنسان. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي أكثر من الأحكام والفتاوى المحافظة الْمُعَمَّمَة اليوم، بواسطة أدوات وقنوات الفضاء الافتراضي، إنه في روحه العامة عبارة عن جهد في النظر وفي التاريخ مشدود إلى المطلق، ولهذا السبب نحن لا نتصوَّر الإسلام من دون اجتهاد ومن دون تجديد.
3 – ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الحداثة في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع مبادئها الكبرى ومختلف التجارب التي أبدعت في التاريخ. وإذا ما كنا نعرف بأن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. ولعلنا نزداد تشبثاً بهذا المبدأ عندما نعاين في حاضرنا كثيراً من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل، أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير في حياتنا. وندرك في الآن نفسه، أن حاجتنا اليوم لهذه القيم، لا تمليها شروط خارجية ولا تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع مجال العقل والنقد مناسبة للمساهمة في عمليات بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مآزق القراءات المحافظة والمغلقة، لتاريخ لم نتمكن بعد من تشريحه ونقده، تمهيداً لإعادة بنائه بتجاوزه.
ساهمت الانفجارات التي حصلت مؤخراً في مجتمعاتنا في التعجيل بإعلان الدفاع عن جملة من المفاهيم المرتبطة بالعلمانية، من قبيل انتعاش الحديث عن مفردة ضمير في ثقافتنا السياسية، بحكم أنها تركب ما يسمح بتجاوز التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمعتقد، وذلك اعتماداً على مبدأ المواطَنة الذي يقرُّ بالمساواة. ولا بد من التوضيح هنا، أن التلويح اليوم بالذات بمفردة الضمير وحريته والمطالبة بضرورة استيعاب من منطوقه وروحه في دساتيرنا وسجالاتنا السياسية، يحصل داخل مجتمعاتنا في سياق تاريخي، مرتبط بتحولات جارفةٍ في القيم والثقافات. وإذا كنا نعرف أن المفردة تزكّي خياراً فلسفيّاً معيّناً، في النظر إلى الإنسان والتاريخ والمجال السياسي، سندرك أهمية الاستعانة بها في سياق التحولات الجارية في المجتمعات العربية.
نعتقد على سبيل التمثيل أن إعادة التفكير مجدداً في العلمانية وأسئلتها في حاضرنا، يقتضي التخلص من النظرة الاختزالية السائدة في هذا المجال. ولن يحصل ذلك دون سند تاريخي يعي جيداً مختلف لوينات المفهوم، ومختلف الصور التي واكبت عمليات تشكُّله في التاريخ الحديث والمعاصر، مع عدم إغفال مسألة النظر في أنماط علاقته بموضوع الدولة وموضوع المقدس. ولا يتعلق الأمر هنا بالدولة والمقدس في صوَّرهما المجردة والمتعالية، بل بنمط الدولة الوطنية الحديثة، وهي تنشأ محاولة ضبط المجال العام وتدبير مقتضياته. كما يتعلق بالمقدس وقد اتخذ في التاريخ صُورَةَ مُؤَسَّسات حاضنة وراعية، يتعلق الأمر بالكنيسة ومراتبها وأدوارها التاريخية، كما يشير أيضاً إلى كل ما ترتَّب عن أدوارها في المجتمع والثقافة، بما في ذلك الحروب الدينية، ثم تجارب الإصلاح الديني وما تولَّد عنها من إرهاصات صانعة لملامح مجتمع جديد.
ويتعلق الأمر في تجارب أخرى، مثلما هو الحال في مجتمعاتنا بالمسجد ومجلس العلماء وهيأة الإفتاء، كما يتعلق بالزوايا وأضرحة الصالحين، وكما يتجلى أيضاً في صراعات المذاهب والتأويلات، وكلها قضايا تفتح أسئلة إعادة التفكير في التنوير على قضايا ومؤسسات وتاريخ، إن الأمر يرتبط في النهاية بالجذور المشتركة بين كل الأديان، وهي جهود نُصِرُّ على إخفائها والسكوت عنها في ثقافتنا، لنمنح عقيدتنا تميزاً يبعدها عن ديانات التوحيد.. إن استحضار المشترك في ديانات التوحيد والكتاب، يساهم في مواجهة ومحاصرة انتقادات ومواقف الذين ما زالوا يرون في كل ما حاولنا تشخيصه وإبرازه من معطيات واقعية ونظرية، معطيات مستوردة ووافدة وتخص الآخرين وحدهم، وذلك رغم محايثتها لتاريخنا واستمرار حضور تجلياتها في حاضرنا..


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 07/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *