كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ -13-

سلا ومستوصفها اليتيم منذ 1912.. وزان وحظ امتلاك مستشفى كبير منذ 1914

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

شكل قرب بعض المدن المغربية من العاصمة الجديدة للمملكة (الرباط – 1913)، فرصة لتستفيد باكرا من الخدمات الطبية الحديثة، كونها أدمجت ضمن “جهة الرباط الكبرى”، وأيضا لأن بعضها قد ولدت أصلا بقرار من الحماية الفرنسية ومن الإقامة العامة بالرباط، مثل مدينتي القنيطرة (بور ليوطي) وسيدي قاسم (بوتي جان). ولقصة ميلاد كل واحدة منها تفاصيل مختلفة، جد هامة، ليس هنا للأسف المجال للتفصيل فيها، وكل ما نستطيع الإشارة إليه، هو أن ميلادهما معا قد كان لغايات اقتصادية محضة. أولها مدينة سيدي قاسم، التي توجد في تخوم سهل الغرب إلى الشرق، عند أول الهضاب (ما بين 600 و800 متر عن سطح البحر) المؤدية إلى مرتفعات مكناس والحاجب وإيفران، ضمن مجال قبائل بني حسن الشراردة (التي هي قبائل في غالبيتها من أصول صحراوية من مناطق أولاد دليم بإقليم وادي الذهب، قرب مدينة الداخلة)، وأن التخطيط لخلق مدينة بتلك المرتفعات الصغيرة كان السبب فيه اكتشاف بئرين للغاز وبئر صغيرة للبترول، ذات مردودية متوسطة، دفعت سلطات الحماية إلى إنشاء أول محطة تكرير صغيرة للغاز بها، وشرعت في بناء دور للعمال وأخرى للمهندسين وثالثة للضباط والجنود. مثلما عززت المجال الصناعي بها من خلال خلق معامل صغيرة لتصبير الفواكه، التي شرعت في إنتاجها بكثافة بمنطقة سيدي سليمان وسيدي يحيى الغرب المجاورتين. فشكلت المدينة الجديدة التي أطلق عليها إسم “بوتي جان”، نواة لمدينة عمالية بالمغرب منذ 1917، مثلها مثل مدن جرادة (مناجم الفحم الحجري) وخريبكة (مناجم الفوسفاط) في العشرينات والثلاثينات.
بينما اتخد الماريشال ليوطي، قرارا بخلق مدينة جديدة قرب مصب نهر سبو سنة 1913، بعيدا بكلمترات قليلة جدا عن ميناء المهدية القديم والتاريخي، ميزتها الكبرى أنها أول مدينة تقام على ميناء نهري بالمغرب (ولا تزال هي الوحيدة من نوعها في هذا الباب). وكانت غايته من ذلك، كما كتب في مذكراته الصادر سنة 1927، هي خلق نواة ميناء كبير، أراده ثاني ميناء بالمغرب قيمة بعد ميناء الدار البيضاء، وأن يرتبط بكل الإنتاج الفلاحي والصناعي لمنطقة الغرب حتى الحدود مع المنطقة التي تحتلها إسبانيا بشمال المغرب (منطقة عرباوة)، ليقطع بذلك الطريق عن نقل تلك الثروات إلى ميناء طنجة أو العرائش. ولهذا السبب منحها اسمه ولقبت ب “بور ليوطي” (أي ميناء ليوطي).
بالتالي، فإن الرهان على تجهيز كل التجمعات المدينية التابعة لجهة الرباط (للعاصمة)، قد كان رهانا كبيرا وبميزانيات ومشاريع هامة منذ 1913. وهي التجمعات التي تتمثل في مدن سلا، القنيطرة (بور ليوطي)، سيدي قاسم (بوتي جان)، وزان. وكان الرهان هو القضاء بسرعة ونهائيا بكامل الجهة على آثار كل الأوبئة الفتاكة والأمراض المعدية، من قبيل الكوليرا والتيفويد والجدري والملاريا ومرض الزهري الجنسي، الأمر الذي تحقق فعليا ابتداء من سنة 1917.
سلا.. الجوار الظالم للرباط
شكل الجوار الذي يجمع تاريخيا بين الرباط وسلا، والتي يفرقهما نهر أبي رقراق، نقمة على مدينة سلا منذ دخول الإستعمار سنة 1912 وتحويل جارتها الرباط (منافستها الرمزية) إلى عاصمة للمغرب. والنقمة آتية من الدور التاريخي الذي كان دوما لمدينة سلا في تاريخ المغرب، خاصة في مجال ما يعرف ب “الجهاد البحري”، الذي مكنها من أن تراكم دورا سياسيا وتجاريا وثقافيا كبيرا، لقرون، مكنها من التوفر على نخبة وازنة. وليوطي، كان كل ما يخشاه هو النخب المغربية الكلاسيكية التي كانت تشكل عماد البنية الإدارية لدار المخزن وللدولة المغربية منذ قرون. فكان أن انتهجت الإقامة العامة الفرنسية خطة سياسية ماكرة، تتمثل ليس في مواجهة تلك النخب مباشرة، بل في تجفيف أثر أدوراها عبر تهميش مدنها أو تقليم أدوارها التاريخية، ذلك ما فعله ليوطي مع فاس حين أزال لها قوة سلطة العاصمة التاريخية للمغرب، وذلك ما فعله مع مراكش حين أطلق اليد فيها للباشا التهامي الكلاوي (وقبله شقيقه المدني الكلاوي)، وذلك ما فعله مع مدينة سلا.
لهذا السبب، فإن القرار كان هو إنشاء المؤسسات الطبية الجديدة والحديثة (مستوصفات ومستشفيات متعددة)، بالعاصمة الرباط، بينما تم الإكتفاء بإنشاء مستوصف مغربي صغير بسلا سنة 1913. وكانت الحجة أن الخدمة الطبية متوفرة لساكنة المدينتين في الرباط بما يكفي. لهذا السبب بقيت سلا فقيرة دوما على مستوى بنيتها الإستشفائية (ربما إلى اليوم، وقصة المستشفى الجديد الذي أغلق بعد افتتاحه لأسباب تقنية تقوم دليلا آخر على ذلك). وأن ذلك المستوصف قد افتتح أصلا في سكنى تقليدية بالمدينة القديمة، قبل أن يتم بناء وحدة طبية في سنة 1918 بزنقة التركي، التي كانت عبارة عن بناية مستطيلة الشكل تضم عددا من الغرف للإستشفاء والتطبيب، بها 20 سريرا، 10 للرجال ومثلها للنساء. وقاعتين للعزل بسريرين، واحدة للذكور والأخرى للإناث. ولا يتجاوز الطاقم الطبي طبيبا فرنسيا واحدا، وممرضة فرنسية واحدة، وممرضة مغربية واحدة وممرضين مغربيين. وكانت تلك المصلحة الطبية مخصصة لساكنة تراوحت بين 15 ألف نسمة سنة 1915 و 28 ألف نسمة سنة 1936، ضمنهم 2500 مواطن مغربي يهودي.
وزان.. دار الضمانة التي أفل بريقها
كانت هذه المدينة المغربية العتيقة، واحدة من أهم مدن التصوف والزوايا بالمغرب، ومحطة تجارية استراتيجية بين سهل الغرب ومنطقة الريف شرقا وجبالة غربا. مما مكنها من أن تبلور واحدة من أهم الزوايا الدينية بالمغرب، التي نجحت في خلق إشعاع كبير امتد على كامل الشمال إفريقي، هي “الزاوية الوزانية”، التي ستكتسب دورا سياسيا فاعلا منذ القرن 18، وتعزز ذلك الدور في نهاية القرن 19، حين حازت الحماية الفرنسية (وصنفت ضمن خانة المحميين بالمغرب، ومن هنا جاء لقب “دار الضمانة” الذي التصق بها لعقود إلى اليوم، في المخيال العام للمغاربة).
بالتالي، فهي مدينة استراتيجية بالنسبة للإقامة العامة الفرنسية، لدورها الديني (الزوايا) ولأنها القلعة الأكبر المتاخمة لمنطقة النفود الإسباني بالشمال المغربي، وكانت موقعا محوريا من الناحية العسكرية والطبية، أثناء حرب الريف ضد محمد بن عبد الكريم الخطابي. لهذا السبب كان القرار لإنشاء مؤسسة طبية محلية كبيرة بها قد اتخد باكرا، منذ سنة 1914، الذي سيجد ترجمته في بناء وتوسيع (خلال 3 سنوات) مستشفى خاص بالمواطنين المغاربة، مجهز ب 50 سريرا طبيا لفائدة ساكنة كانت في حدود 9 آلاف نسمة سنة 1915، وانتقلت إلى 15 ألف نسمة في إحصاء 1936. وهو المستشفى الذي بقيت نسب الإستشارات الطبية تزداد فيه سنة بعد أخرى، حتى بلغت سنة 1936، ما مجموعه 48 ألف و406 استشارة طبية. ومما تؤكده وثيقة طبية محررة سنة 1937، من قبل الدكتور شوبي، الذي كان الطبيب الرئيسي للمدينة، فإن الآلية التنظيمية قد كانت طبيا مزدوجة، واحدة مقيمة (هي الفريق الطبي لمستشفى وزان للأهالي) والأخرى متنقلة بين الأسواق الأسبوعية المحيطة بالمجال الجغرافي لوزان، سمح بالقضاء خلال 3 سنوات على كل الأمراض المعدية، خاصة مرض “الأميبيا” الذي يصب الأمعاء وهو مرض قاتل مع الوقت إذا لم يعالج، ولقد كان متفشيا كثيرا بالمنطقة (يكاد أن يكون هذا المرض محصورا حينها بمنطقة وزان بالمغرب كله). وكان الطبيب الرئيسي لتلك القوافل الطبية القروية هو الدكتور ميراك (طبيب عسكري)، الذي لعب دورا محوريا في رسم خريطة مدققة لأنواع الأمراض المتفشية بمحيط المدينة، كان في مقدمتها الملاريا والزهري و التيفويد.
على أن ما يجب تسجيله، هو المستوى العالي للآليات الطبية العصرية والحديثة التي خصصت لمستشفى مدينة وزان المدني، المتمثلة في قسم للراديو الإشعاعي (وكان ذلك أمرا نادرا في مدينة مغربية صغيرة مماثلة)، وفي قسم للجراحة متوفر على كل شروط التعقيم الحديثة، وعلى مختبر للتحاليل الباكترولوجية جد فعال ومتقدم، منذ العشرينات من القرن الماضي.
أكثر من ذلك، سيتم إنشاء محطات طبية قارة ومجهزة بمحيط وزان، ما بين سنوات 1924 و1927، بكل من بلدة زومي، وبلدة غفساي ومنطقة الرطبة. فهي جميعها بلدات قروية صغيرة، وقعت تحت الإحتلال العسكري الفرنسي بالقوة ابتداء من سنة 1924، ونهائيا في سنة 1926، حيث تم بناء مستوصف عسكري مجهز (مفتوح أيضا أمام المدنيين) بغفساي، ستتم توسعته كل سنة، حتى أصبح يضم بنايات بها 18 سريرا طبيا، ومختبرا للتحاليل، وصيدلية، وقاعة عمليات جراحية صغيرة، لساكنة قروية في غلبيتها العظمى. مثلما تم تجهيزه بمرحاض عصري ودوش للإستحمام بماء ساخن، كما يؤكد تقرير للطبيب العسكري الفرنسي الدكتور جوبير، الذي كان هو الطبيب الرئيسي بغفساي سنوات 1926 و1936. وأن تلك المؤسسة الطبية قد كانت تزود ثلاث مستوصفات صحية جديدة بما يلزمها من احتياجات ومساعدات طبية عاجلة، هي مستوصفات “أوتزاغ” التابع لقبائل ورغة، و”تافرانت” التابع لقبائل بوبان وبني ورياغل (السفح)، و”الرطبة” على الحدود مباشرة مع منطقة الحماية الإسبانية بالشمال المغربي. ويشرف عليها جميعها طبيبان هما الدكتور جوبير والدكتور آرنو، يساعدهما 7 ممرضين، أنجزوا مثلا إلى حدود سنة 1929 ما مجموعه 150 ألف استشارة طبية، بمعدل 30 ألف في السنة. و 113 ألف تلقيح ضد مرض الزهري لوحده، و10 آلاف تلقيح ضد الجدري والتيفويد. بينما يؤكد ذات التقرير الرسمي أن الطبيب الرئيسي لغفساي قد قطع في سبع سنوات 60 ألف كلمتر ضمن مهامه الطبية بالمنطقة بمستوصفاتها الثلاث، في الفترة ما بين 1920 و1927.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 09/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *