الشغل بين قيود الذات وقيود الغير

محمد مونا

ربما لن يختلف اثنان حول كون الأرق منطلق الوعي للتخلص من العبودية. في الواقع كان عنوان الفقرات التالية هو “التعاقد مطلب إنساني قبل أن يكون اجتماعيا… كيف تدفع الحكومات الفاشلة شعوبها للقبول بالعبودية؟» لأن الحقيقة المبررة والصادقة تقول بأن الكل سوف يتم تحوله من الكيف إلى الكم من النوع إلى الرقم من الفرد المفكر إلى الروبوت… حيث في الحال الذي كانت فيه الأنظمة السياسية الكبرى في حاجة إلى التحكم في العامة من الناس نخبة وصفوة وجدت صعوبة كبيرة جعلتهم مرتبكين ومحارين في أمرهم، لكن تم حل المشكلة في (ق19) مع خبراء البروباغندا والعلاقات العامة.
في إحدى الحالات الفريدة في الأوضاع الاجتماعية والإنسانية المعروفة بـ»الـمرسومين المشؤومين» سنة 2016 (الأول يقضي إلى تقليص منحة التكوين والثاني إلى فصل التوظيف عن التكوين) بدأت شرارة التظاهرات السلمية من أجل عدم القفز عن الحقوق المشروعة للمدرسين. وبناء على هذا وتفاصيل أخرى عملت بعض الأنظمة على تبخيس فكرة التعاقد في أذهان الشعوب، وعلى إثرها يمكن التصفح حول أساتذة عرفوا بالاساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ثم موظفي الأكادميات، وهم يطالبون بالترسيم في الوظيفة العمومية كونها حسب ما يدعون مصدر الاستقرار النفسي والاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك مما يطالبون به، وهذا ما يرمي بهم إلى السلة التي نسجها نظام مؤسسات الدولة الموازية. ولعدم قبولهم بهاته الحالة هو ما كان منطلق لتفعيل وتشكيل العديد من الخرجات السلمية بتنظيمات شبه قانونية على شكل تنسيقية لها فروع تابعة في كل الجهات الإثنى عشر من أجل تحقيق الملف المطلبي الذي أرادوه. كما أن مؤسسات الدولة المختصرة في الأكاديميات الجهوية لا تعرف احتياجات موظفيها، وبالرغم من ذلك فإنها تقف ضدهم بالعنف المشروع بكافة أنواعه.
فإذا وقفنا عند معنى العقد على أساس أنه اتفاق بين طرفين يلتزم بمقتضاه كل منهما تنفيذ ما اتفقا عليه، من المؤكد أن الوقت الذي كانت الحكومة (2016) تضع بنود العقد كانت هي الطرف الأول والثاني في هذه العملية، ما يعني أن المعنيين بهذا العقد لم يكونوا أي من الطرفين في -سوى عبيد في المتخيل- وضع بنوده، وهذا أول حق لابدّ من الحكومة الاعتراف به لهم ولغيرهم وعلى العدالة ضمانه. كما أن فكرة التعاقد ومختلف الأحاديث حولها تعود إلى فلاسفة عرفوا بفلاسفة التعاقد الاجتماعي، على أساس أنه ترسانة من المقترحات للحقوق الأساسية في الحياة الاجتماعية بمقتضاها يضع الفرد نفسه وقواه تحت إرادة المجتمع، يتلخص مضمون نظريتهم في أن الدولة تقوم على أساس عقد اجتماعي تنازل بموجبه أفراد المجتمع عن حقوقهم التي يتمتعون بها في حالة الطبيعة. وللأمانة فإن هذا كان مع هوبز ولوك في بريطانيا ومع جون جاك روسو في فرنسا. لكن كيف للتعاقد بهذا المعنى أن يكون إنسانياً؟
نحن لا نعتقد بوجود حرية مطلقة لأي فرد وإنما لكل في هذا النسق قيوده، حيث في الواقع إلى جانب التكوين الحكومي هناك تكوين ذاتي أكثر فعالية بين المثقفين وغير المثقفين … نظرا لما له من أساليب لاستمالة الجماهير لما يستهويهم، وهذا ما فشلت فيه البرامج التعليمية في أغلب الدول في هذا العصر؛ لأن التعاقد بالمعنى المذكور أعلاه يعني أن الحياة في ظل دولة قانونية تعتبر الخضوع والطاعة لما تم وضعه من قوانين ومعايير وقيم … لكن الذي جعله (التعاقد) في مسألة الشغل والعمل إنسانيا هو شخصنة القيود والتحرر من قيود الغير؛ إنه قابل للفسخ والتجديد معا بإرادة العامل عن طريق تقديم استقالة صريحة الشروط التي دفعه إلى تقديمها… وعلى رب العمل شروط أقصى في حالة هو من أراد ذلك، وفي الغالب لا يوجد أرباب للعمل بهذا النوع بشكل كثير لأن أغلبهم يحبون استعباد / توظيف ذوي الخبرة الواسعة … ما يجعل التعاقد في كل شيء من أسمى الحقوق التي على القوانين أن تكفلها وعلى العدالة المستقلة ضمانها. ففي مختلف المجتمعات تختلف الأوضاع من مجتمع إلى أخر وكلها تتميز بالتعقيد والغموض مما يدفع بعض الأفراد إلى فعل أشياء لا يحبونها ولا تروق لهم ولا لمبادئهم رغم ما تحظى به من القبول المجتمعي والشرعية القانونية ومعيار للتمايز بين الفئات ضمن المجتمع الطبقي، ومع ذلك يبقى كل شيء تجارب في حياة الفرد، وفي ظل أي شغل هو فيه عليه أن يفكر على أساس أنه ليس عبدا لدى رب العمل، وإنما هو من أفضل المساهمين في زيادة إنتاج ما يحتاجه المجتمع بكل أطرافه وسوف تنهي مهمة معينة وتذهب في حال سبيلك، وإن ظل تفكيرك في ذلك المنصب فحتما أنت من العبيد البارين لرب عمل عاما كان أو خاصا وبالأحرى لنظام معين.
في هذا السياق يعتبر قبول الإنسان الشغل بالعقدة شرطا أساسيا للقبول عند رب العمل ماديا كانت شخصية أو معنوية، والحس المشترك القومي يراه في هذه الأثناء احتقارا ونقصا و استعبادا من طرف المديرين التنفيذيين في بعض المؤسسات التعليمية بنوعيها، وهو كذلك في ظل هذا الحس المشترك / الأيديولوجيا الذي كلف الأنظمة وخبرائها وكل مؤسساتها الكثير لترسيخه، وأبرزها وسائل التواصل الإجتماعي عن طريق شخصيات مدفوعة الأجر أو تم تشكيلهم وبرمجتهم على أساس أنهم خوارزميات لا تعي ما تقول أو تقوم به للسمو في العبودية الطوعية، كل هذا يرمي إلى أن الموظفين الرسميين فوق المتعاقدين في العبودية والظلم، والمتعاقدين بدورهم بوعي أو بغير وعي يطالبون بالترسيم من أجل المساواة في هذا الظلم المقدس.
فأن تكون فكرة التعاقد مطلبا إنسانيا قبل أن تكون مطلبا اجتماعيا معناه أن توقيعك على عقد عمل أو بالأحرى عقدك للقيام بشغل ما أو وظيفة معينة في الظروف الراهنة أمر يطل إلى حريتك، فلمَ الترسيم في العبودية أيها الإنسان؟ فإذا كنت من يشغل وظيفة معينة مكرها عليها بالظروف الاجتماعية والاقتصادية لا تفكر من داخلها على أنك عبد وإنما أنت هناك من أجل التسلية الإيجابية ولسد حاجياتك ونصف حاجيات قيودك، والواقع هكذا في الأصل، وإنما نتفق معا في مسألة أن التاريخ لا يكتبه شخص واحد، وإنما يتم التنظير لما تعيشه البشرية التي تشكل الغالبية العظمى في قاعدة الهرم من القمة.
كلنا على علم أن الإنسان أدرك على مر العصور أهمية الشغل كفعالية ممجدة ووسيلة لكسب وتحقيق لماهيته ووجوده، ولن يختلف قوم في المستقبل القريب على أنك في نهاية المطاف، سوف تجد أنك سواء أكنت متعاقدا أو مرسما في وظيفة ما استعباد لك، إن لم تفكر أنك حر، والفرق بين هذين الأمرين ستعيشه وفق المعنى الذي أظفته لما تقوم به وكيف تقوم به أيضا، عن طريق استراتيجية الإقناع بالتضاد، لكن من الأكيد أنك سوف تقول يوماً ياليتني كنت متعاقدا حين تؤمن بنتائج الدراسات النفسية للموظفين الذي تعد أنت من بينهم مرسمين، مع العلم بأن قيود الذات لا توضع وفق ما يراد ذاتيا.

الكاتب : محمد مونا - بتاريخ : 05/08/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *