ابن الموقت : ليبرالي يطل من خلوة من أعلى المسجد!
عبد الحميد جماهري
تحيط باسم امحمد بن محمد بن عبد الله بن مبارك المسفيوي المعروف بابن المؤقت المراكشي، هالة من السحر، من غرابتها أنها تزداد كثافة كلما كشفنا عن تفاصيل جديدة من حياته، كما هو الحال مع الندوة التي نظمت في المكتبة الوطنية، يوم 3 يوليوز الجاري. وقد كانت المناسبة تقديم الكتاب الذي خصه به الأستاذ والباحث الجامعي عبد العزيز أبايا، والذي حظي بقراءة رزينة وعالمة من عدة أسماء جامعية ذات رافد علمي رفيع الاحترام في الوسط الجامعي، السي احمد متفكر ومولاي المامون المريني وعبد الوهاب الازدي، وكلهم من أصحاب الإصدارات والتحقيقات والتبويبات العديدة..
محمد ابن الموقت كاتب متعدد، له عقول عشرة فاضت عن عصرها، اهتم بالحساب كما اهتم بأسرار الحرف.. واهتم بالسرد الأدبي في الإصلاح كما اهتم بالصوفية، بالمناخ كما بالرياضيات، ولعله كما شرحها صاحب الكتاب، كان يسعى في رسالته الثقافية والدينية، إلى البحث عن صفاء السلف في ما قد يتجرأ له سؤدد الخلف. فالماضي النبوي، في تقدير المصلح كما استمعنا إلى سيرته، هو العصر الذهبي، وهو الجوهر الذي لا يمكن تجاوزه.
مع ذلك هناك بياضات ما زالت تحيط بهذه الفكرة الواسعة: سعي كل واحد من الباحثين سواء في الندوة موضوع المقالة (أو الندوة التي سبقتها عند تأسيس مؤسسة ابن الموقت للعلوم والثقافة ) أن يعيد بناء تاريخ الرجل الشخصي بما يتوافر من مواد تاريخية، كما لو أن ما تبقى من كتاباته هي حجر متناثر في حقول التاريخ المترامي الأطراف…
أحيانا لا تاريخ بدون نسيان: لكن عندما ننصت إلى عدد الكتب التي تنسب إليه ( 200 كتاب حسب السي أحمد متفكر، وأقل منها من المتحقق منه عند المؤسسة ) والتي بين أيدينا، يبدو أن النسيان، غير المقصود طبعا، جزء من سيرة رجل يشغل المغرب منذ عقود.
نشعر إبان الندوة أن فارقا زمنيا بين السؤال ـ حاضرا ـ ، وبين الجواب الموجودـ .. ماضيا.ـ ويعيد طرح الكيفية التي يمكن بها لكتاب المرحلة تغيير نظام التاريخانية،! كيفية جعل الحاضر يقترح أجوبة على .. الماضي من خلال انشغالات الآن. ومن الغرابة أن الاحتباس الحراري، الذي يوشك أن يوقف المستقبل في عالمنا اليوم، وأن يحد من مداه، يجعل القادم أسوأ من الحاضر، هذا الاحتباس الحراري من مواضيع الماضي، عند ابن الموقت.كما أخبر صاحب الكتاب .
كانت المناسبة سانحة ( وصالحة في الوقت ذاته)، لكي نعرف ما تقوم به المؤسسة التي أسسها عبد المنتقم ابن الموقت، نجل الراحل العلامة الصوفي والمصلح. ومنها نشر الكتب ذات الصلة وتأصيل المجهود الذي تميز به السيد أحمد المتفكر بخصوص كتاب «السعادة الأبدية»، ومجهودات غيره في ترميم الذاكرة من خلال طبع وإعادة طبع «الرحلة المراكشية« وكتاب »الجيوش الجرارة».. هذا المشروع، المبني على وفاء أسري، لا يخلو من عبر ذات حمولة سحرية (دوما).
يحكي عبدو مقيت ابن الراحل الفقيه العلامة أنه شاهد كيفية تسابق الناس على اقتناء كتاب أبيه المذكور، والمزايدة على الثمن، حتى بلغ أسعارا تفوق طاقة الناس، مما دفعه إلى أن يوفر نسخة في المتناول بما لا يثقل كاهل القارئ، والدرس هنا، في الزهد في الاتجار بالعلم وعدم التسابق لتسليعه.
. ومن الأشياء الساحرة كذلك، كون الوالدة رفضت منه أن يأتيهم بدرهم واحد من بيع الكتب، لأن تلك سنة الوالد وقد رعتها بعد وفاته.
وهو مما يزيد من الطابع المتميز لسيرة ابن الموقت نفسه..
وهذا المشروع في إعادة تملك التراث الإصلاحي للراحل جعل منه السيد المريني، المتخصص في النحو العبري، مدخلا لما له من تقارب مع سير ونهج فقهاء سابقين في تقفي أصحاب الفضل التاريخيين على الأمة. وما لذلك من ارتباط بقضية الإصلاح في التاريخ الحديث والمستقبل للأمة. ومن ذلك مميزات تولي الأبناء لتراث الآباء كما هو حال قادة وطنيين مصلحين آخرين، منهم المختار السوسي وعبد الله إبراهيم ومحمد داوود والدفالي.ونزيد عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي و.. لعل عبد الله العروي قد طرحهما في كتابه عن المغرب والحسن الثاني رحمه الله من زاوية «خوصصة التاريخ». وتمت مناقشته أيضا من طرف الحضور بعد اللقاء، أي كيفية تجاوز الطابع الخاص في الحفاظ على ميراث الأمة وتثمين مجهودات نابغيها ونخبتها وبناة ثقافتها في المجالات المتشابكة.. وكان المتحدث محقا في الدفاع عن الفكرة، وحجته في الدفاع عن ما تمثله سيرة ابن الموقت، مع وضع سياق الإسهامات التي جاء بها، وهي سياقات إصلاحية في العالم العربي الإسلامي وقبله تركيا العثمانية، ومحمد علي في مصر، وتجربة تونس في التحديث وإصلاح القرويين، وهو ما يقدمه الأستاذ المريني عن ابن الموقت باعتباره الامتداد الوفي لهذا الإرث الإصلاحي الليبرالي. وهذه المبادئ/ الليبرالية في الإصلاح، حسب المتحدث، تتجلى في التعرف على تحصين وجود الوطن وبناء مقومات النخوة الوطنية..، ومن علامات الإغراء في سيرته أن نعرف بأن المصلح كان قد اختار له مقاما في غرفة فوق سطح المسجد اليوسفي في مراكش، جعله مقام خلوة تبعده عن الناس وتقربه من نفسه ومن الروحانية التي عضَّد بها نزعته الإصلاحية.. . ولعل من مبادئ التميز هو قول الأستاذ المريني بأن »الإصلاح باسم الدين جاء متواريا خلف القيم الإنسانية» عندما نقرأ ما ينافح عنه ابن الموقت وما نسمعه اليوم على حد قوله… وقد وضع المحاضر سياقا إقليميا جامعا، هو سياق الحركة الإصلاحية التي عبرت مغارب العالم الإسلامي العربي ومشارقه، ليضع التجربة الإصلاحية عند ابن الموقت في قلبها وفي تقاطعاتها. وهو ما يتطلبه الارتقاء بها، إلى تجربة جماعية من خلال عقل أحد الأعلام المراكشيين.
ومن العلامات الجديرة بالاهتمام، والتي طرحت نفسها بإلحاح على كاتب هاته السطور وعلى بعض من حضروا، هو هذا التشابك الكبير، بين اللغز الساحر في حياة ابن الموقت وبين الأثر البين فيها، بين رجل يتمادى في الحفر عن أسرار الحروف، ورياضي يجتهد في البحث في المواقيت، وصوفي يصرف خلوته العلمية في الدهشة بين علوم الإنس وعلوم الغيب.. وهي تجربة ذاتية فريدة!
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 06/07/2024