مغاربة ينظرون إلى صور ملكهم، فتتغير نظرتهم إلى…..أنفسهم!
عبد الحميد جماهري
= يتذكر المغاربة كلهم صورة العهد الأولى : البيعة في صيغتها البروتوكولية الجديدة..
التقشف الواضح في البروتوكول نفسه .. وتخفيف إجراءاته.
يتذكر المغاربة كلهم،أو بعضهم، الزيارات الأولى للملك وصورته وهو يصل إلى الريف أو يتوجه إلى أجدير أو يزور فجيج، كأول ملك يزورها منذ الحسن الأول.. باعتبار أنها مناطق من مناطق جبر الضرر والعلاقة العنيدة بين الدولة وبين التراب الوطني،
يتذكرون كلهم أو الحقوقيون منهم، والمناضلون وأفراد الضحايا الذين تراكموا بعشرات الآلاف في تاريخنا القسري وفي دهاليز لا شعورنا الوطني منهم، صورة الملك بعد ست سنوات تقريبا من وصوله إلى الحكم، وهو يعانق، بحرارة، أمهات الضحايا ..
أين؟
في القصر الملكي؟
الذي تحول إلى مرفأ آمن وقرينة على صدق الدولة في شخص. قائدها على مرحلة مغايرة:
كان لتأميم الفضاء دلالة أخرى غير دلالاته، يذكر المغاربة ملكهم وهو يخطو في الوحل والتربة المبللة في أنفكو، لما وصل سنة 2008 تلك القرية القابعة في جماعة تونفيت إقليم ميدلت،
ويؤرخ السكان بتلك الزيارة للما قبل وما بعد في حياتهم..
يذكر المغاربة أن صور الملك عند استقبال أمهات الرياضيين كانت قد وضعت لها مغزاها الذي يمكن أن يبقى..
في كل صورة، كنا كمن يجيب عن «سؤال عميق قد يبدو نشازا في دولة عمرها 12 قرنا: من نحن؟
نحن هذا الشعب وهاته الملكية وهذا التواشج العميق..
كان يحلو لغاستون باشلار، صاحب القطيعة الإبستمولوجية، أن يكتب، وهو يتحدث عن شاعرية الحلم، «لا يمكن دراسة الصورة إلا بواسطة الصورة». ويمكن أن تصدُق هذه المقولة في حالة صورتين واقعيتين أيضاً، عاشهما المغاربة، كما لو كانتا صورتين لحلم انبجس من بين الاستحالات، حلم في صورة اللاعبين يقبّلون رؤوس أمهاتهم بعد كلّ هدف يسجلونه في مونديال قطر، أو يرقصون معهنّ على العشب المخضرّ للملاعب، ثم في صورة أمهاتهم أنفسهنّ مع الملك محمد السادس بعد الاستقبال الكبير الذي خُصِّص للفريق، شعبياً ورسمياً، عند عودته من الدوحة.
احتل حضور المرأة المغربية، وقت المونديال، جزءاً كبيراً من الفضاء العمومي، والمشهد الفرجوي، حتى إنّ الحضور في المقاهي وفي الساحات العمومية طغت أنوثته على ذكورته. وخصّصت بعض المقاهي فضاءها حصرياً للنساء اللواتي اخترن المتابعة خارج البيت. وسيكون للمتابعة السوسيولوجية والسيمانتيقية (العلامات) ما تستخلصه من بعد من هذه الفورة في انفتاح المشهد العام، بيْدَ أنّ هناك ما يمكن الإحساس به آنًا، وهو روح الحرية التي تطغى على وضع المرأة في المغرب حالياً، والتي بدأت أولى تباشيرها منذ مجيء محمد السادس إلى الحكم.
وقبل العودة إلى ذلك، تجب الإشارة إلى أنّ جمال الصورة غطّى على عديدٍ من حقائقها العملية العميقة، بالرغم من تواريها خلف الصورة. وفي قلب المشهد، كانت أمّ اللاعب زكريا أبو خلال تشكل درساً فردياً فريداً، لأنّ ابنها من أب ليبي وعائلته كلّها ليبية، وقد نال الجنسية المغربية التي مكّنته من دخول لائحة «أسود الأطلس» بالاستفادة من قانون تعديلي بهذا الخصوص، ظل مطلباً للنساء المغربيات المتزوجات بأجانب عقوداً عديدة. وقد انتصرت الملكية لِحقِّ الأم في منح الجنسية لابنها من زوج أجنبي، وهو ما يعد تكسيراً لنمط قبائلي أو، في أحسن الأحوال، لنمط محافظ في المواطنة. وتقول المادة السادسة من قانون الجنسية المغربي المعدّل إنّ «الطفل المولود من أب مغربي، أو الطفل المولود من أم مغربية، هو مواطن مغربي». كذلك علت الأصوات لمنح الأم ـ الزوجة المغربية حقّ تجنيس زوجها الأجنبي على غرار المرأة الأجنبية المتزوجة مغربياً
كل من شاهد صورة استقبال ملك المغرب اللاعبين وأمهاتهم انتبه إلى تزامن الاستقبال مع دعوة موجّهة من الملك، باعتباره أعلى هرم السلطة في البلاد يتكلم من منبر إمارة المؤمنين، إلى تحديث مدوّنة الأسرة (استجابة للمستجدات)، التي تحكم العلاقات الاجتماعية في المغرب. .
في هذا السياق، تحيل دراسة الصورة على تحوُّل أكبر من الفرح الجماعي الذي يندرج في فورة المشاعر الطموحة الكبرى، إذ تجمع تمثيلية نسائية من المجتمع إلى جانب المدافع الأول عن المرأة، فقد ظهرت المرأة المغربية المنقّبة تماماً إلى جانب صاحبة الحجاب المتعارف عليه أصولياً، وذات الغطاء المغربي، إلى جانب سافرة الرأس، وهو أمر دقيق وفي غاية الأهمية، فلا يجب أن ننسى أن انطلاق تعديل المدوّنة في 2002، ثم استكماله في 2004 بعد رهان قوة شطر المجتمع إلى شطرين، حداثي ومحافظ، نزلا معاً إلى الشارع، كان من الممكن أن يكون (تعديل المدوّنة) مكلفاً.
ويذكر المغاربة قبلة الملك على رأس اليوسفي
انحناءة تواضع زادت الملك رفعة وسموا!
وكنت ممن تذكر ما قاله الراحل عندما تولى محمد السادس الحكم ،:هذا الشاب سيفاجئكم! وفاجأنا ولعله فاجأه أيضا وهو ينحني، بهامة الملوك التي لم تتعلم الانحناء على رأسه ليقبله! قد لا تحتاج الصورة إلى تحليل… حتى لو كان وسيلة العاطفة في نقل تجربة حكم إلى متناول الناس والأحاسيس.. تحتاج الصورة إلى قلب …إلى كهرباء يصعق عضلة الخيال لكي تترك الحقيقة تمر إلى متلقيها.. تحتاج إلى هامش من العاطفة، حيث الظل تنبت فيه القشعريرة كما نبتة تحت ندف الثلج في يوم مشمس يفاجئ طفولة القرى،… لا تحتاج الصورة إلى اللغة ربما تستكين إلي ما فيها من قوة، ومن رمزيات وما تستدرجه من تاريخ لجيل لجيلين .. لا تحتاج الصورة بين الملك واليوسفي إلى خيال ولا لغة لتفسر نفسها، تكتفي بنفسها في نقل كل المشاعر إلى لحظة واحدة تخلدها الكاميرا وترك الباقي للشعورالوطني العام! من الواضح، أنه لا تنحي الدولة على جبين رجل ، إلا إذا كان أكبر من رجل دولة رجل تاريخ مثلا … رجل رسالة ..لا تنتهي بتجربة واحدة في الحكم! قبلة الملك على رأس اليوسفي كانت تعني ، في قوتها، أكثر من أي صورة أخرى من قلب البروتوكول الملكي، تعني إنسانية الملك وتحرره من بروتوكولات الملكية وربما قد تعني، في تقدير عاطفة المغاربة، بمثابة إعلان فعلي ، جسدي فيزيقي عن إنهاء البروتوكول.. من قبيل تقبيل يده ..مثلا يتجاوز مفعولها أيضا رسالة السياسة إلى أخلاق رفيعة هزت كيان أمة! هل كان الملك في حاجة إلى هذا الفيض الإنساني، لتكون زيارته بمعنى أعلى من كل الزيارات التي يقوم بها للمرضى والمصابين ؟ لم يكن.. في حاجة، هو الذي ربى المخيلة الوطنية على كل صور البساطة لكنه أرادها أن تكون، لكي تأخذ إنسانيته كل مداها …
صور أخرى موجودة برسالة كيميائية تحمل دلالتها في نفسها، كمعانقة مهاجر، عائد في الصيف، أو إفريقي في الزلزال، ينظر المغربي والمغربية إلى صورة الملك وهو يمد ذراعه للتلقيح، وهو يعانق طفلا مريضا، وهو يقدم دمه لمن سقطوا في الزلزال، فيعيد تعريف نفسه: المغاربة رأوا أنفسهم في هذا التبرع: فالدم الملكي المحاط عادة بالسحر العتيق، بالقداسة ، يصبح دما مشاعا لكل من يحتاجه. المواطنة تعريف فعلي عبر صورة. هي رسالة مفادها : مغاربة ينظرون إلى صور ملكهم، فتتغير نظرتهم إلى…..أنفسهم!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 27/07/2024