التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 9- الحاج علي الالغي الدرقاوي بين التزام المحيط القبلي وتطلعات السلطة السياسية

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

 

إن اختلاط الجاه بالثروة جعل شيوخ الزوايا يتطلعون غلى ممارسة ادوارا سياسية فشل فيها المخزن المحلي وهذا ماحدث مع شيوخ زوايا سوس فأغلبيتهم مارس دور التحكيم لفض النزاعات بين القبائل والأشخاص من عامة وخاصة المجتمع بل ان بعضهم كما رأينا في الحلقات السابقة تدخل لدى السلطة المركزية من أجل العطف على قواد عاقبهم المخزن وأحيانا ينحاز الشيوخ للوقوف إلى المخزن من أجل تهدئة القبائل الثائرة ضده كما حدث مع قواد التجانيون في حاحا الذين عبروا عن غضبهم وسخطهم إزاء الافعال التي صدرت منهم ضد الحسن الأول في أثناء حركته إلى إداوتنان (أنظر دراستنا البحثية حول إداوتنان منشورة في العدد 5 من مجلة أسطور القطرية). ورغم ان الساكنة كانت تولي اهتماما كبيرا للضريح على حساب الشيخ الذي قد يكون منحرفا أخلاقيا كما هو الحال بالنسبة لجميع الشيوخ الذين احتموا بالاجانب خلال فترة الفراغ السياسي فالزاوية والوزانية ظلت محافظة على حرمها رغم ماقيل عن الشيخ عبد السلام الوزاني ونفس الشيء حدث مع الزاوية الدرقاوية الالغية رغم ماقيل عن محمد الخليفة ابن الحاج علي الدرقاوي الإلغي زمن الحماية الفرنسية. غن كثرة الزوايا الفروع أو الزوايا الام اضطر شيوخها للدخول في صراعات من اجل الاستئثار ببعض الامتيازات كالتصرف في الضرائب الشرعية كما حدث مثلا في مزوضة بين القائد وشيخ تامصلوحت الجابي (محمد زرهوني، مرجع سابق، ص، 257) وبالعودة إلى تاريخ منطقة تمصلوحت سواء في الكتابات التاريخية المغربية (محمد المازوني، زاوية تمصلوحت، دكتوراه دولة) والكتابات السوسيولوجية (بول باسكون، حوز مراكش) ستتضح اوجه الصراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية أي بين القائد الجابي وشيخ الزاوية الملاك أو بالأحرى صراع حول الاختصاصات بمن هو أولى لجباية الضرائب الشرعية وهو ما سيضطر السلطان غلى التدخل للحسم في القضية وفق قاعدة “ماجرى به العمل” أي ترك الأمور على عوائدها ولعل الاستدلال بقضية المصلوحي وقائد مزوضة ليسري على عموم سوس
لعل ظهور هذه الطريقة على يد الشيخ العربي الدرقاوي (1737-1823) كان واضح الدلالة، حيث أراد الرجل أن يعطي للتصوف حقه ببعث الحياة في التصوف الشاذلي، ومرده في ذلك أن الذين أوكلت لهم أمور الدين انحرفوا إلى طريق الدنيا وملذاتها، وبعد عقدين من الزمن ونظرا لأن الشيخ ينتسب إلى آل البيت النبوي الشريف، ستصبح أصداؤها تدوي في كل من المغرب والجزائر.(المنصور محمد، المغرب قبل الاستعمار: المجتمع والدولة والدين: 1792 -1822 ترجمة محمد أحبيدة، الطبعة الأولى المركز الثقافي العربي. الطبعة الأولى 2006، ص: 280). تقوم هذه الطريقة على الزهد في الدنيا عن طريق لبس المرقعة والمشي بالحفا والتسول، وهو ما جر عليها انتقادات العلماء لهذه الممارسات، وهو نفس الشيء الذي اعترض الدرقاوية الإلغية في بداياتها الأولى. ويعتبر السلطان المولى سليمان ومن خلال مراسلاته وخطبه أول من ندد بهذه الممارسات واعتبرها خارجة عن نطاق الشريعة الإسلامية التي ترفض مثل هذه السلوكات: (نفس المرجع السابق أنظر الفصل الرابع من الكتاب).
وبخصوص الطريقة الدرقاوية في مجال سوس فقد كان هذا المجال آخر نقطة جغرافية وصلتها الطريقة الدرقاوية، ويمكن أن نفسر هذه الوضعية ببعدها الجغرافي عن مصدر القرار الصوفي (الزاوية الأم بالريف) وتمت عوامل أخرى تفسر هذه الوضعية يمكن إجمالها في ثلاث نقط رئيسية هي:
كون سوس كان ناصريا بامتياز، وأن الكل كان مدينا لهذه الطريقة التي اعتبرتها ساكنة سوس طريقة للعامة وللفقراء، بعدما كانت الطريقة التجانية الأحمدية حكرا على نخبة المجتمع،، أما الطريقة الدرقاوية فقد رأى فيها أهل سوس طريقة ارتبطت بطقوس مشوبة بالبدع لا وجود لمثيل لها في أدبيات الطرق الصوفية الأخرى (لبس المرقعة وخرق العادة وحمل السبحة الغليظة. يفسر المختار السوسي هذه الحالة بكون الدرقاوية “ظهرت بمظهرين غريبين: احدهما نوع من التعبد بحركات وأعمال لم تكن مألوفة قبلهم عند الناس في (سوس) وثانيهما الحرص الشديد في سياحتهم التي يتبعونها في القرى على استتابة الناس بمواعظهم” (السوسي محمد المختار، المعسول، مطبعة النجاح البيضاء 1960. ج11، صص:155- 156.).
خصوصيات التربية والتعليم بالمنطقة: ذلك أن سوس كان نموذجا يحتذى به في التربية والتعليم من خلال نموذج تقليدي هو، المدارس العتيقة (خاصة المدرسة التيمكديشتية والمدرسة الجشتيمية والمدرسة الأدوزية…) التي انتشرت بشكل كبير وغير متناهي في ربوع سوس (المهدي السعيدي، المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي بالمغرب، المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة المحمدية، الطبعة الأولى،1427هـ -2006م.).
كون الطريقة الناصرية ظهرت بالجنوب الشرقي(بزاوية تامكروت التابعة الآن لإقليم زاكورة. ليست الطريقة الناصرية هي الوحيدة التي انطلقت من الجنوب وصمدت أمام المد التجاني والدرقاوي فهناك طرق أخرى صمدت في وجه الطرق الجديدة كالقادرية الكنتية التي واجهت التجانية، أنظر على سبيل المثال كتاب “الجواب المسكت في الرد على من تكلم في طريقة الإمام التجاني بلا تثبت” لمحمد اكنسوس، والكتاب في الأصل جواب عن سؤال تقدم به الشيخ أحمد البكاي الذي انتقص من قيمة احمد التجاني. أو الطريقة المعينية التي واجهت الطرق الاتية من الشمال المغربي بحزم، بل أن شيخها سوف يؤاخي بين جميع الطرق الصوفية وسيوزع أورادها رغم أن التجانية “لا تقبل الجمع بين الأوراد” فالطريقة المعينية ضربت بعرض الحائط هذه المسلمة التجانية لضرورة اقتضتها المصلحة الوقتية (لم الصف الصوفي لمواجهة الاستعمار الفرنسي في معركة سيدي بوعثمان (6 شتنبر1912). فارتبطت به ارتباطا وثيقا عكس الطرق الصوفية الأخرى التي ظهرت ونمت في الشمال المغربي فظلت حبيسة ذلك المجال، فوجد شيوخها صعوبة كبيرة في اختراق المجال الجنوبي إلا من خلال مريديهم من طينة أبناء سوس.
وجدت كل من الدرقاوية و التجانية صعوبة في زحزحة الناصرية عن المجال السوسي، فجميع الذين انسلخوا عن الناصرية وأخذوا وردي التجانية والدرقاوية ظلوا مخلصين لأدبيات التصوف الناصري الذي لا يخرج عن دائرة الكتاب والسنة وكمثال عن ذلك انقسام التيار الدرقاوي المعدري إلى قسمين: تيار درقاوي بجوهر ناصري يمثله وراث سر سيدي سعيد بن همو المعدري ويتعلق الأمر بالحسن التاموديزتي، يرفض التجديد (جص القبور- العمارة) مما يفسر أن الناصرية ظلت مؤثرة في التيار الدرقاوي الجديد، وتيار آخر تجديدي يؤمن باستقلالية الطريقة الدرقاوية عن الناصرية ويضع معها قطيعة ثقافية وهذا التيار يمثله الحاج علي الدرقاوي الالغي واتباعه.


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 05/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *