الغرب والقرآن 8- الحفر في الإشارات

 

 

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
حاول هاوتينغ على طول مؤلقه “فكرة الوثنية وظهور الإسلام” أن يوضح “ما معنى الجدال؟”، وخاصة في السياقات الدينية، وبالأخص أكثر: الجدل بين الطوائف الدينية، سواء داخل الدين الواحد أو دين في مقابل دين آخر، وتأثير ذلك على/ وفي نشوء الطوائف والديانات (ومن ضمنها الديانة المحمدية)، كما يقول حمود حمود.
وثمن الباحث جهود هاوتينغ في إيضاح المعنى وملاحقته، بقوله: “بالفعل أثمر في تقصيها سواء بإيراد الكم الهائل من الأمثلة سواء في الديانة اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية أو بتوضيح طبيعة اللغة الدينية بحد ذاتها”. غير أنه يعود لانتقاده من خلال وضع شكوكه الراديكالية والمبالغ فيها على المحك. فهو بأن نصل إلى تكوين صورة تاريخية، إلا أنه للأسف لا يوضح لنا في أي مكان يضع معنى التاريخ الذي في ذهنه، أو على الأقل الصورة التاريخية التي يريد هاوتينغ تأكيدها في مقاربة السياق القرآني، هذا فضلاً عن إفلاس الكتاب وعجزه عن تقديم أي مفهوم دقيق لمعنى المصدر التاريخي (سواء نقش أو كتاب…).
يقول الباحث: “بصراحة، إن الأهم عند هاوتينغ ليس تقديم صورة تاريخية (رغم عنوان الكتاب)، وليس الوقوف عند مشاكل مفاهيمية مثل هذه، ولا حتى كيف تأصلت كتب التراث الإسلامي. إن الأهم عنده هو تخريب أي طريق لتكوين صورة تاريخية”.
ويواصل: “إن عداء هاوتينغ للتاريخ لا نجد له ما يبرره سوى الإدانة لكتب التراث: بجرة قلم، كتب التراث مشكوك بها، كتبت في وقت لاحق، ليس في منطقة الحجاز، وحتى القرآن نفسه –كما يؤكد وانسبرو- ما هو إلا تجميع من مواد مختلفة في سوريا والعراق…الخ. حتى كتاب مثل كتاب الأصنام لابن الكلبي (206 ⁄ 821) يشكك به وبالروايات التي أتى بها (والتي روي الكثير منها في معجم البلدان لـ ياقوت)، لا بل بنسبة الكتاب له!!. إن عمل ابن الكلبي لا يعدو أن يكون إلا نتاجاً لاحقاً، لكن ربما زوراً نُسب لابن الكلبي. حتى أسماء الأصنام التي اكتشفت في نقوش نبطية: هبل؛ ذو الشراة؛ مناة، كل هذه يحاول هاوتينغ تجاوزها والقفز فوقها، بسبب مثلاً أن الفجوة الزمنية كبيرة بينها وبين تكون القرآن فضلاً عن الخطأ بقراءتها (ربما نعود إلى هذه النقطة المهمة في بحوث لاحقة ومسألة التشكيك في قراءة النقش).
ويذهب حمود حمود إلى أنه توجد في القرآن إشارات للسياق العربي (السياق الذي نشأ فيه القرآن) كما هو الحال في إشارته إلى وأد البنات عند العرب [التكوير: 8-9]، وإلى أننا لا نستطيع أن نفهم ذلك إلا في موضعة هذه الإشارات القرآنية في سياقها التاريخي مع استيعابه بشروطه هو؛ كأن نفهم مثلاً أن محمداً من أجل أن يرفع من مكانة أفكاره، سيحط من شأن خصومه إلى الأسفل. هذه المماحكة في القرآن كثيرة بين محمد والعرب. كل طرف يريد أن يشوه من سمعة الآخر، وبالتالي سيستخدم كل طرف عناصر نجاح الجدال على الآخر سواء من ناحية البلاغة اللغوية أو بالاستعانة بكائنات ما: محمد يتشبث بالسماء، وخصومه يتشبثون بالأسلاف….الخ.
“لكن ما لذي يحدث مع هاوتينغ؟”، يقول الباحث. إنه يقوم بإلغاء الطرفين بالكامل!! فالقرآن لا يشير لا إلى محمد ولا إلى العرب المعنيين لا من قريب ولا من بعيد!
ويتابع حمود حمود: “ما أود التأكيد عليه أن أسلوب المماحكة، وخاصة في النصوص الدينية لا يمكن أن تفهم، إلا من خلال تأصيلها في الجو اللغوي العام وحوامله التاريخية (اجتماعياً، سياسياً، اقتصادياً…الخ). وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل نص ديني معبئ بالإيديولوجية والأحلام وتطلعات الكاتب ونفسانيات أتباعه وهمومهم….الخ. لا بد مثلاً أن نراقب بدقة متى يتدخل ربّ محمد، ومتى يغيب عن المشهد أو الحدث. متى يكون محمد هو المتكلم بشكل مباشر إلى خصومه أو أتباعه من خلال القرآن (في هذه الحالة تكون الآلهة غائبة خلف صوت محمد المباشر)، ومتى يستخدم ضمائر المتكلم…. وبالطبع لا يمكن أن نقارب هذه النقاط إلا من خلال الحفر في لغة النص نفسه، ولكن بعين النقد التاريخي”.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 04/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *