في التغيير والتنوير والشبكات : 7 .. الوعي بالذات، الطريق العربي نحو التنوير (2)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

نتبين بعض قيم التنوير في المساعي الفكرية لعبد لله العروي، منذ كتاباته الأولى في العرب والفكر التاريخي (1973)، وأزمة المثقفين العرب (1974)، وهي مساع تتوخى تمثُّل مكاسب ومنجزات الحداثة والتحديث. وإذا كان البعض قد قرأ في أعمال عبد لله العروي الأخيرة من قبيل السنَّة والإصلاح (2008) نوعاً من التراجع عن خياراته الفكرية الكبرى، فقد تبينا ونحن نراجع أعماله ونراجع ترجماته الأخيرة لبعض كتابات روسو ومنتسكيو، قدرته على تطوير وتعزيز خياراته الفكرية والسياسية، المستندة إلى مبادئ الأنوار. ولو توقفنا أمام بعض جهوده الفكرية قصد التوضيح،لوجدنا أنفسنا أمام محاولة يتجه صاحبها للإقرار بأن بلوغ عتبة النهضة يتطلب التعلم من الآخرين، التعلم مما يسميه في كتابه مفهوم العقل (1996) “المتاح اليوم للبشرية جمعاء”، أي محاولة الاستفادة من مختلف مكاسب الحضارة المعاصرة في المعرفة والسياسة والتاريخ. ولتوضيح ما نحن بصدده، سنتوقف أمام محتويات مقدمته للترجمة التي أنجز لنص روسو دين الفطرة.
تتيح لنا المقدمة التي كتب لهذا النص أن نقف على صوَّر تمثله لفلسفة الأنوار، حيث يشير العروي إلى أن أعمال روسو تندرج ضمن منظور مفكري عصر الأنوار للمجتمع الجديد، ويُقدِّم موقفه من الدين الطبيعي مبرزاً انخراطه أيضاً في النقاش حول حرية العقيدة، وهذا النقاش يجري اليوم بأشكال مختلفة بيننا وداخل مجتمعنا. ونقف في مقدمة العروي المُعَدَّة بتركيز شديد، على أبرز الخلاصات التي ركَّبها التصور الفلسفي الأنواري في موضوع الدين الطبيعي، يتعلق الأمر بإعطاء الأولوية للعقل من جهة، وإيلاء مبدأي الوضوح والبساطة الأهمية اللازمة لحصول الاقتناع بمسألة الإيمان. وإذا كان بعض دعاة الدين الطبيعي ينكرون الوحي، فإن روسو منح في تصوراته الدينية مكانة خاصة للضمير الأخلاقي عند الإنسان.
لا يتوقف العروي سواء في هوامش الترجمة أو في متنها عن تسجيل ملاحظاته المرتبطة بسياقنا التاريخي، الذي يحتاج اليوم بدوره إلى مفاهيم روسو، من أجل تفكيك منظومة العقائد والتقاليد السائدة. وسواء في الترجمة أو في الهوامش والتعليقات، نجد أنفسنا أمام جهد نظري لا يمارس صاحبه عملية تخندق ناسخة لمبادئ وقيم التنوير، بل يقوم بعمليات تَفَكُّرٍ في جملة من المعطيات النظرية والتاريخية، المرتبطة بأسئلة التنوير وسياقاته في مجتمعنا، ويعمل في الآن نفسه،على تجنب معطيات أخرى في النص، يرى أنها مرتبطة بقضايا لم تعد مطروحة بالصورة التي تفاعل معها صاحب النص المُتَرْجَم في زمنه، وهو ما يترتب عنه القول بأهمية ما يتجه العروي لإبرازه في موقف روسو من الدين، في علاقته بجوانب من القضايا التي يمكن أن تساعد مجتمعاتنا، في بناء كيفيات أخرى في النظر إلى الدين والتدين والسياسة والمجتمع، كيفيات تسعفنا ببناء مواقف وخيارات مكافئة لطموحاتنا النهضوية ولمقتضيات حاضرنا وتاريخنا.
تحضر روح التنوير في أعمال العروي في صورة مركبة، والمقصود بالتركيز هنا، أن أعماله تضيف إلى مزايا القرن الثامن عشر في الفلسفة، منجزات التنوير كما تطورت في بعض فلسفات القرنين الأخيرين، ووهي لا تغفل تطلعاته المعلنة إلى تجاوُز تأخرنا التاريخي، وكل هذا يعزز نوعية العلاقة التي رسمت أعماله مع فكر الأنوار والأدوار المنتظرة منه في موضوع تحديث المجتمعات العربية.
2 – نشأ في الثقافة العربية بجانب مشروع العروي وبمحاذاته مجموعة من المشاريع الفكرية الأخرى، التي استعان أصحابها بدورهم بمكاسب الأنوار، وخاصة في مستوى الدروس التي خلف الموسوعيون في الموقف من الدين ومن التراث الديني والتقاليد الدينية.
وقد صدرت في الثلث الأخير من القرن الماضي، مصنفات هامة في باب العناية بنقد التراث ونقد القراءات المحافظة للتراث الإسلامي. ومن أبرز هذه الأعمال نذكر أعمال كل من محمد عابد الجابري (1936-2010) ومحمد أركون (1926-2010)، وقد استعانا في مصنفاتهما المخصَّصة لنقد الموروث الثقافي الإسلامي بعُدَّة منهجية جديدة، إضافة إلى اعتمادهما على كثير من مفاهيم التنوير. كما صوَّب نظرهما بالذات، نحو بناء قراءة تتيح لنا تجاوز القراءات التمجيدية للماضي، من أجل بناء ثقافة جديدة متصالحة مع ذاتها ومع العالم.
لا يتعلق الأمر في مشروع نقد العقل التراثي بأبحاث معنية بالرصيد التراثي في بنياته النصية لذاتها، قدر ما يتعلق بمقاربات يهمها الانخراط في فهم الواقع العربي، وذلك بالعمل على تفتيت الأصول والمرجعيات الفكرية، التي لا تزال تَحُدُّ من قدراته على الانطلاق في التفكير والإبداع، في ضوء مستجدات المعرفة، وبناءً على أسئلة مرتبطة بتحديات التقليد، التي تمثلها في فكرنا اليوم تَرِكَةُ العقائد والنصوص المطلقة، التي لم يستطع الذين يقومون بمواصلة الترويج لها، إدراك نتائج الهزات التاريخية والمعرفية والسياسية، التي صنعت الملامح العامة للفكر الإنساني في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
يفسر كل من الجابري وأركون كيفيات انخراطهما في نقد تجليات العقل العربي الإسلامي في عصورنا الوسطى، ويؤكدان علاقة مشروعيهما في النقد بمسألة التحرر من قيود الماضي. إنهما مقتنعان بأن استمرار سطوة آليات تقليدية محددة في التفكير على نظام النظر في عالمنا اليوم، تعد من أهم عوامل استمرار التأخر الحاصل في مجتمعاتنا وثقافتنا. ولهذا السبب ينبغي في نظرهما استخدام مِعْوَلِ النقد الأنواري، ومختلف المكاسب المعرفية والمنهجية في الفكر المعاصر، لكسر مختلف اليقينيات القاطعة التي ورثناها من عصورنا الوسطى.
النقد في آثارهما، موقف من الوثوقية، وموقف من اليقينيات المتعالية، والعقلانية في نصوصهما تتخذ طابعاً تجريبياً، حيث تتم محاصرة النصوص والمفاهيم والتصورات والكلمات، ضمن دلالتها المبنية في إطار نظري محكومٍ بنظام في المعرفة لا يمكن تجاوزه إلا بتكسيره، وتركيب نظام جديد بديل له، نظام مرتبط كما قلنا بالمكاسب المعرفية والمنهجية الجديدة. إن وظيفة النقد في أعمالهما تَقويضيةٌ. وتاريخ الأفكار في البداية والنهاية عبارة عن تاريخ تقويض متواصل لأسقف عِمارات النظر، حيث يتجه التطور لبناء أنظمة معرفية جديدة، مرتبطة بالشروط التاريخية والعلمية، الصانعةِ لأنماط وأنظمة المعرفة في التاريخ .


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 02/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *