في التغيير والتنوير والشبكات 8- الوعي بالذات، الطريق العربي نحو التنوير (3)

 

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

تلتقي الراديكالية النقدية لعبد الله العروي بجذرية العقل النقدي في أعمال أركون والجابري، كما تلتقي بالنزعة الريبية التي تسكن كثيراً من منطوق وبياضات أعمال هشام جعيط، لا يهمنا هنا بحث أوجُه الاختلاف أو الالتقاء والتتام في أعمال من ذكرنا على سبيل التمثيل لا الإحاطة، فقد قمنا بذلك في أعمال أخرى أنجزناها عن أطروحاتهم، إن سياق هذا العمل معني بالمشترك بينهم، أي بالعقلانية والتنوير في فكرهم ومساعيهم الهادفة إلى تطوير كيفيات أداء الفكر العربي والمجتمع العربي في العالم المعاصر.
3 – تحمل أعمال المفكر التونسي هشام جعيط خيارات في الفكر ليست بعيدة عن روح خيارات عبد لله العروي، وإذا كنا نعرف أن الجامع الأكبر بينهما يتمثل في تخصصهما معاً في البحث التاريخي، فإنه لا يجب أن نغفل جامعاً آخر بينهما،يتعلق الأمر بانخراطهما الجاد معاً، في مواجهة أسئلة التأخر التاريخي العربي، وعنايتهما بسؤال النهضة العربية، وحرصهما داخل هذا الأفق، على الانحياز لروح الأنوار كل بطريقته الخاصة، سواء في اختيار مجالات البحث أو في لغة البحث وأسئلته.
تتمتع أعمال جعيط بكثير من الكثافة النصية وبكثير من الشجاعة في الرأي، يتجلى ذلك في مصنفه الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي (1974)، كما يتجلى في كتابه أوروبا والإسلام (1978)، وتزداد خياراته وضوحاً في محاضراته التي جمع في مصنفه أزمة الثقافة الإسلامية. وقد شكَّلت ثلاثيته في الوحي والسيرة النبوية، عملاً ينفتح على قضايا وإشكالات نظرية وتاريخية وعقائدية، نقصد بذلك موضوع الوحي والنبوة في التاريخ الإسلامي.
تبني أعمال جعيط حواراً مع فلسفة الأنوار، وهو بالرغم من محاصرته النقدية للتصورات الغربية المغرضة عن التاريخ الإسلامي، لحظة معالجته لأنماط العداء المتبادلة بين بعض التصورات الإسلامية للغرب، وتصورات المركزية الغربية للإسلام وللآخرين، وفي أزمنة محددة، إلا أنه مقتنع تماماً بأن الطريق الذي يجمعنا بالغرب وأنواره واحد، وأن مصيرنا واحد، وذلك رغم كل العوامل المولِّدة للاختلاف والتباعد. وبناء عليه،لا مفر في نظره من الانخراط في أزمنة الحداثة والتنوير، كما تبلورت وما فتئت تتبلور في التاريخ، ليس في أوروبا موطنه الأول، بل في كل أنحاء العالم، حيث انخرط الجميع منذ القرن التاسع عشر في عمليات من التفاعل الإيجابي والسلبي مع منتوج الثقافة الغربية، وعملت على امتحانه ثم توسيعه وتطويره، فأصبح مشروع التنوير مشروعاً للجميع..
تعلم جعيط من الروح النقدية الأنوارية لزوم المغامرة وضرورتها في التاريخ. إنه يعانق قدره، وهو يقبل الخلاص التاريخي الممكن، لكنه لا ينسى عذابات الروح، لا ينسى التناقض الأكبر بين لله والعالم، بين الأبدية والعدم، يبني تصوراته الفكرية والتاريخية بكثير من الاحتياط، يستوعب لغة المطلق الدينية باعتبارها جزءاً من التاريخ العام، الذي يُفْتَرَض فيه حصول المساعي الإنسانية، الرامية بلغاتها وحساسياتها المختلفة إلى فهم الإنسان والعالم في أبعادهما المختلفة.
تسمح لنا المعطيات التي قدمنا من خلالها عينة من كيفيات امتحان وإبداع الأنوار في ثقافتنا، إدراك الصعوبات والعوائق التي ما تزال تواجه أنماط وعينا الجديد بقيم التنوير في حاضرنا، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التنوير صيرورة، وإن واجهته اليوم مفتوحة على معارك، بعضها قائم وبعضها يتحين الفرص للقيام بما يمهد الطريق لمزيد من توطين قِيَّمه وتأصيلها داخل ثقافتنا. فنحن بلغة عزمي بشارة “نعيش في زمن يتجه لرفع غلالة السحر عن العالم، سحر الأقدمين وسحر المحدثين، من أجل المساهمة في بناء عالم بدون أسرار”..
نقف في المعطيات التي اختزلنا في الفقرات السابقة، على عينة من أنماط التطور التي لحقت صوَّر انخراطنا في امتحان قيم ومبادئ التنوير في ثقافتنا المعاصرة. وقد حرصنا على توضيح وإبراز أن التفاعل الحاصل اليوم في ثقافتنا ومجتمعنا، يتوخى إنجاز حوار مُنتج مع المشترك الإنساني، حيث يمكن أن يسعفنا التفاعل القائم والمتواصل بتهييئ ثقافتنا لحوار أكثر مردودية مع المقدس في التاريخ. ولأننا نتصور أن التحولات الهامة في التاريخ، من قبيل استيعاب وتمثل مقدمات التنوير ومكاسب عصر الأنوار، ومحاولة إبداع ما يكافئ روحها داخل نسيج حياتنا في الفكر وفي المجتمع، تتطلب منا مواصلة الجهد والعمل دون كلل، لعلنا نتمكَّن من تجاوُز العوائق التي حالت وما فتئت تحول بيننا وبين انخراط فاعل في العالم.
يكشف التنافر المتواصل في ثقافتنا بين تيارات التقليد وتيارات الحداثة والتحديث، أحد أوجُه الصراع المتمكِّن من مجتمعاتنا في الوعي وفي السلوك. وهو يعكس أزمات مجتمعاتنا في مجالات التربية والتعليم، ولا يمكن تجاوز التنافر القائم دون عملية تاريخية،نحقق فيها توطين آليات في النظر تقرِّبنا من متطلبات الوعي التاريخي الحديث والمعاصر، وما يترتَّب عنه من وعي جديد ومجتمع جديد نتطلَّع إليهما منذ عقود. ودون ذلك، سنظل سجناء وعي غير قادر على إدراك متطلبات التغيير الحاصل اليوم بيننا وأمامنا في عالم سمته الأساس التغير والتغيير.


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 04/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *