التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 20- الشيخ الأمي يسلب المريد العالم 3/3

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

 

لقد كانت الثلاثة أيام التي لقى فيها علي شيخه كافية إذن لكي تتوطد العلاقة بين الطرفين وتذهب إلى درجة الجذب. كانت لهذه الواقعة آثار سلبية على الأهل وأحباب علي، فكيف بعلي الذي كان الجميع يتنبأ له بمستقبل زاهر في علم الظاهر أن ينخرط مع درقاوة الذين يوصفون في الأوساط الشعبية ب”هداوة” أو المجانين على حد تعبير أهل إلغ. لقد بذل الأب كل ما في وسعه كي ينقذ الابن من مخاطر الطريق الذي سلكه لكن هيهات هيهات فالابن لم يعد يرى سوى شيخه متناسيا أهله وذويه، وتروي هذه الشهادة التاريخية الجهد الكبير الذي بدله الأهل في استعادة ابنهم من خلد الشيخن يقول السوسي واصفا هذه المرحلة الحرجة في مسار الأب: ” تأنى والده حتى عرف أين مستقر أولئك الذين طاروا بولده، فركب بغلته ولحق بالشيخ المعدري، وهو مع أصحابه بماسة، فطلب منه أن يأمر ولده بالرجوع معه بعد أن تكلم مع ولده، فما أحار؟ جوابا فقال الشيخ للولد لا بأس إرجع مع والدك فلا خير إلا في ذلك، ثم قال الوالد إني لا أريده إلا للعلم… فرجع الوالد والولد مترادفين على البغلة” (السوسي، المعسول ج 1، ص،193). يتضح مما سبق ومن خلال الشهادات التي قدمها المختار السوسي والمراسلات التي تبادلها الشيخ مع مريديه في جميع أنحاء سوس، أن انخراط علي بن أحمد الإلغي في الدرقاوية تحكمت فيه عوامل روحانية عجز الإلغي على فهمها واكتفى باعتبارها جذب من شيخه، ولم يكن في وسعه إلا الارتماء في أحضانه، وبالتالي سيبدأ مسار جديد في حياته. إذ انتقل الرجل من علاقة المريد بالشيخ إلى أخرى لا يمكن استيعابها وفهمها إلا بالإبحار في عوالم التصوف. إنها علاقة الشيخ بالمريد والتي تلزم هذا الأخير بالاستسلام والسكون في خلد الأول، وهذه العلاقة تختلف باختلاف الطرق، إذ لكل واحدة أدبياتها التي تميزها عن غيرها والمريد هو الذي يشق طريقه باختياره طريقة دون أخرى، وهنا نعيب على الانثربولوجين “تأنيثهم” لعلاقة المريد بشيخه، وتشبيهها بعلاقة الرجل بالمرأة (حمودي عبد الله، الشيخ والمريد الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة 2003، ص 129.)، فحمودي الانتربولوجي بجامعة برينستون الأمريكية والمتسرع في أحكامه، بنى رأيه هذا من خلال خاصية مميزة للتصوف الدرقاوي وهي قيام مريدي درقاوة بأشغال البيت (التصبين- الغسيل- الطبخ- تحضير ماء وضوء الفجر…) لهذا فبنيانه هذا هش في حاجة إلى الترميم، وهو ما جر عليه انتقادات لاذعة من داخل المغرب وخارجه، وفي نظرنا لو عاد الرجل لمؤلفات رجالات سوس وحلل مظانها تحليلا تاريخيا، ولو جال سوس وكان ضالعا بظواهره السوسيوثقافية وعاداته وتقاليده حتى يتقصى الأخبار عن هذه الظاهرة، لما سقط في مثل هذه الأحكام الجاهزة. إنه رأي لا يمكن قبوله أو التسليم بصحته أو حتى إسقاطه على الظاهرة الصوفية نظرا لخصوصياتها السوسيو ثقافية. فالمريد باعتباره أداة صاغية للشيخ لم يتخلَّ عن رجولته في سبيل خدمته، وإنما هي حالة الحياة الصوفية التي تتكرر في جميع أنحاء سوس تلزم المريد بفعل المستحيل للوصول إلى خلد شيخه. فنتائج الدراسات الأنتربولوجية تبقى مؤقتة وغير جاهزة في غياب الوثيقة التاريخية المكتوبة، ومن خلال تحليل مضان المراسلات الإخوانية سيتضح لحمودي أن التريث والصبر وفهم واقع سوس عوامل تساهم في إنتاج دراسة انتربولوجية موفقة ومحايدة وان الكتابة تحت الطلب تجهز على المشاريع التاريخية-الأنتربولوجية الكبرى تلك التي في حجم كتاب “الشيخ والمريد” .
حاول عبد الله حمودي أن يرد على منتقديه مصنفا إياهم بمعيار معرفي صرف، أولهما المؤرخ المغربي “العدناني الجيلالي” الذي يظهر من خلال الرد انه مخضرما بين حقلين معرفيين، هما التاريخ و الأنتربولوجيا وثانيهما :”آلان ماهي” ونور الدين الزاهي اللذان أدرجهما في حقل الأنتربولوجيا. يظهر عبد الله حمودي في حالة هستيرية وهو يواجه من جامعة برينستون الأمريكية خصمه العدناني الجيلالي الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، ويحاول أن يكشف عيوب نتائج دراسته حول “القداسة” لكن دون أن يقدم تفسيرا شافيا لنتائج دراسته وللعناصر التي اعتمدها في خطاطاته (الشيخ والمريد) والتي حاول أن يبرهن عليها من خلال نموذج صوفي هو “الحاج علي الإلغي” الذي جرد مريديه من رجولتهم(على حد تعبير حمودي- حينا قاموا بأشغال الزاوية ومارسوا الأنشطة الفلاحية أشغال البيت. في حين نوه بعمل نور الدين الزاهي – الذي انطلق من مقولة “ألتوسير”Louis Pierre Althusser كقاعدة علمية لمواجهة حمودي (إذا لم تكن هناك قراءة بريئة فليعرض كل منا تهمته) – رغم أنه حاول أن يشكك في مصداقيته ما من مرة . إن الأسلوب المتبع من طرف حمودي في رده على منتقديه خال من روح المناظرة وقبول الرأي الأخر ومناقشته وفق ابستمولوجية معرفية صرفة، فلا خفى على الرجل أن المغربي الجيلالي العدناني مؤرخا قبل أن يكون انتربولوجيا وان اهتمامه بالانتربولوجيا راجع بالأساس إلى محاولة تنقية نظرياتها ونتائجها الجاهزة من الشوائب وتوجيهها وفق مسار علمي محض. بخصوص هذه النقطة راجع حمودي عبد الله ، الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، دار توبقال للنشر، ترجمة عبد المجيد جحفة، الطبعة الرابعة ،2010، صص،257-320.)


الكاتب : الدكتور ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 18/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *