التصوف المغربي ودوره في أسلمة دول افريقيا جنوب الصحراء -15-

أحكام الشيخ القضائية كانت لصالح الدار لا لصالح الجوار

 

لعبت اللغة العربية دورا كبيرا في أسلمة جزء كبير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتجلى ذلك في كون هذه البقاع انتشرت بها الكثير من الطرق الصوفية المبنية على الاعتدال الذي هو عماد المذهب المالكي المنتشر على نطاق أوسع في دول المغارب، والملاحظ أن اتصال العرب بإفريقيا جنوب الصحراء حدث منذ أقدم العهود، فاليمن القديمة وصل نفوذها السياسي إلى القرن الإفريقي والحبشة، كما كانت علاقة غرب إفريقيا بشمالها قديمة، ونظرا لأن إفريقيا تأسست بها دول و ممالك ذات جذور عربية إسلامية، فقد كان لذلك دور كبير في تطور اللغات الإفريقية كلغات هجينة عربية، وقد لعب في هذا أيضا دور التصاهر بين العرب و الأفارقة، أضف إلى ذلك الدور الحاسم للعلاقات التّجارية التي كانت وسيطا بين الدول العربية ونظيرتها الوثنية.
يعتبر ميلاد الإسلام، وتطوّر الحضارة المرتبطة به نقطة تحول حاسمة أعادت إلى الحساب ماضي التّأثير العربي لغة وثقافة؛ ليصل العمق الإفريقي وأقاصي الغرب منه.وعلى هذا الأساس فاللّغة العربية لم تكن مجهولة عند الأفارقة، وإن كان معظمهم لا يتقنونها، ولكنّها كانت فقط مجرد لغة للتّفاهم مثل اللغات الأخرى. غير أن ظهور الاسلام باللسان العربي انتقل بهذه اللغة من مجرد لغة للحديث إلى لغة مقدسة. ونتيجة لذلك ، تأثرت العديد من اللغات العالمية باللغة العربية ، وكان من بينها اللغات الإفريقية بصفة عامة. ويعتبر التصوف العنصر الأساسي الذي أشاع الثقافة العربية في هذه البقاع وبخاصة التصوف التجاني السني الذي وجد إقبالا لم يعهد له نظيرا مقارنة مع الطرق الصوفية الأخرى. تحاول هذه الدراسة البحثية الاجابة عن سؤال محوري؛ كيف ساهم التصوف التجاني في أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء؟ وكيف ساهم في نشر اللغة العربية على نطاق واسع خاصة وأنه اعتمد في متونه على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية؟

 

ويشكل أرشيف دار ايليغ مادة لا غنى لنا عنها في بناء موضوع اطروحتنا ومعالجة إشكاليتها، لما له من أهمية في محاولة فهم وضبط العلاقة التي ربطت التجانيين بالمخزن المركزي والهامشي، ورغم موقفنا من هذه المراسلات، حيث تبقى في نظرنا غير جاهزة لإصدار أحكام ليست في صالح المؤرخ، وفي ظل غياب تام للمراسلات الإخوانية والمراسلات التي صدرت من الحاج الحسين الإفراني لمحاولة قراءة الخطاب واللهجة التي كتبت بهما المراسلة، تبقى النتيجة غير مرضية للأسئلة التي طرحناها في الإشكالية، وقد اتضح لنا ذلك من خلال قراءة بعض مراسلات الحاج الحسين الإفراني مع القائد الحاج احمد التامنارتي، وهذه صعوبات يمكن أن يواجهها الباحث في ظل الحصار المفروض على هذه الذخيرة الوثائقية المحصورة في يد الحفدة والمقربين . تمكننا وثائق دار ايليغ من تتبع ادوار الحاج الحسين الإفراني ومساره :
الشيخ الفقيه المتمكن من خطة القضاء: يتضح أن الشيخ كان يعمل لصالح دار ايليغ (البيع والشراء) وان احكامه القضائية كانت لصالح الدار لا لصالح الجوار، وغالبا مايبررها الإفراني بنصوص الونشريسي او ابي سحنون. وللإشارة فإن معظم شيوخ التجانية في سوس كانوا متمكنين من خطة القضاء،واحيانا كانت شرطا في الإذن لهم بالطريقة، وهو شرط متغيب في شمال المغرب اللهم اذا كان من باب الصدفة.
الشيخ الموالي للمخزن : ظهرت أولى معالم علاقة الشيخ بالمخزن في اللحظة التي كان فيها الافراني مريدا عند كنسوس، بحيث كان يتردد على مراكش مرات كثيرة فكان يلتقي بالشيخ الذي لم يتوارى في تعريفه على رجالات المخزن بمراكش، وبعودته الى سوس وفي خضم الصراع الطرقي الذي اثارته الأسرة الادوزية، سينال الإفراني شهرة ذائعة السيط، هي التي قربته من الدور الكبرى لسوس ( دار ايليغ – دار بيروك- دار تمنارت) التي كانت متحدة تحت لواء حلف تاكوززلت. توضح وثائق دار ايليغ ان الافراني كان أُذنا صاغية للمخزن، وكان مؤيدا لجميع قراراته «لايريد إلا أن يكون دائما في كفة الحكومة».لقد أعلن الشيخ عن حميمية العلاقة بعد دعمه لمحمد بن الحسين اهاشم التازروالتي للأنتقام لأبيه من قبيلة الشيخ «تانكرت» التي تحالفت مع الاخصاص وحربيل وايت باعمران ومجاط، للفتك بالحسين اهاشم في حرب تارغنا التي ادت الى الخراب المعنوي لدار ايليغ خلال الحركة الحسنية الأولى.
الشيخ المحتضن من طرف المخزن: خلال هذه الفترة أصبحت الزاوية التجانية مخزنية بامتياز، بعدما وهب المولى عبد العزيز1900 -1908 ، دارا للشيخ بالمقربة من دار قيادة محمد انفلس بحي «المشور»بتزنيت . خلال هذه الفترة ذاع سيط الشيخ ومعه ثم اشعاع الطريقة التجانية بحاحا وأطراف كبرى من السوس. لقد انتقلت ادوار الشيخ خلال هذه المرحلة من تلقين الاوراد ومحاولة اقناع الاتباع من العباد والترويج لمشروع الافراني الرامي الى مساندة ودعم المخزن ضد القبائل والزعامات المحلية المناوئة له.
الشيخ المساند للثورة الحفيظية ضد المولى عبد العزيز: مباشرة بعد الاعلان عن قرارات الخزيرات التي مست السيادة المغربية، وفي الوقت الذي توغلت فيه الجيوش الفرنسية بوجدة عام1906 ، بدأت صيحات الجهاد تنادي بضرورة مواجهة المحتل. إن صفة الجهاد مرتبطة بالسلطان المولى عبد العزيز لكن هذه المرة عجز في تحقيق ذلك لما وافق على هذه القرارات المذلة «لرعاياه» المغاربة. إن خيار استبدال عبد العزيز باخيه عبد الحفيظ 1908-1912 كان مطروحا بين الزعامات المحلية، لكن لا احد استطاع ان يجهر بذلك إلا بعد ان حسم محمد بن عبد الكبير الكتاني في ذلك بعدما وضع لائحة بشروط نقل البيعة للاخ البكر المولى عبد الحفيظ «سلطان الجهاد»خلال هذه الفترة اتخذ الحاج الحسين الافراني قرارا جريئا يترجم عمله لصالح المخزن، مادام إشعاع الزاوية رهين بضمان أطراف مخزنية تتماشى مع متطلبات المرحلة، ومن خلال هذه المراسلات يتضح أن الرجل لعب دورا طلائعيا في دعم المولى عبد الحفيط السلطان الثائر ضد اخيه مولاي عبد العزيز و المبايع بشروط اهمها اقتناص المدعو بوحمارة. وقد تردد في مراسلات دار ايليغ تتبع الشيخ لمسلسل المخزن والمدعو بوحمارة،وكيف ساند هذا الأخير المخزن ضد هذا الثائر وكيف كان يلعب دورا دعائيا لترجيح كفة المخزن على كفة الثائر. وإذا ما أضفنا إلى هذه المراسلات نموذجا أخر صادر عن اكنسوس، سنجد ان مكانة الرجل لم تكن للتقوى لولا الدعم الذي قدمه اكنسوس للإفراني،والتزكية التي حظي بها منه. فالإفراني لمع نجمه بفضل الكنسوسي، ومن خلال متن المراسلات التي تبادلها الطرفان، فالإفراني لم يستسلم لشيخه إلا بعد أن أقنعه الشيخ بأدلة ذامغة. يمكن القول أن هذه المراسلات تلمح لمناظرة غير مكشوفة كانت بين الشيخ والمريد. وإذا ما أضفنا إلى هذا المعطى دور المختار السوسي في التعريف بالإفراني، فإن شهرة هذا الأخير رهينة بما دونه مؤرخ سوس عن الشيخ، بعدما خصه بترجمة كاملة في الجزء الرابع من معسوله . إن الإفراني لم يكن من الممكن تتبع أثره وترصد خطاه لولا كتابات السوسي ومراسلات اكنسوس ومراسلات دار ايليغ، وبالتالي لم يكن من الممكن أن ينال شهرة في الأوساط التجانية.

*أستاذ باحث في التاريخ الديني


الكاتب : ربيع رشيدي *

  

بتاريخ : 26/04/2022