الجسد المشتهى 12 : الجسد والكتابة

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟

 

في حالتي، وعيت هذا الأمر مبكرا جدا. في البداية لم أميز أي تعامل مختلف داخل المنزل بين أفراد الأسرة والعائلة، لكنني ما إن تخطيت باب البيت لألعب مع أترابي حتى وقفت على حقيقة أن جسدي لا يسعفني في مجاراة الأطفال في ما يقومون به. لا أتذكر أبي يقوم بشيء ما حيال هذا الحال. إلا أن صور أمي وهي تحملني إلى المعالجين لم تفارق ذاكرتي أبدا. ربما كانت عندي رخاوة في المفاصل مع الانتفاخ، وعدم نمو الأطراف. أتذكر رجلا بوجه قاس يكويني في بطني. وصاحبتني آثار الكي سنين طويلة. وأذكر امرأة شابة كدت أغفو في حنانها قبل أن تشرع في لسعي بمشرط في كل مفاصل جسدي. وحملت آثار ذلك الفصد إلى اليوم. وأتذكر أماكن أخرى غامضة حملتني إليها أمي في رحلة البحث عن الشفاء.
ولما انتهى كل شيء، وجدت الأطفال ينادوني enanito ، وبدأ صراع الوجود الطويل. ومع أن مجهوداتي الكبيرة أنجتني من تثبيت نعت enanito اسم مناداة، لكنه بقي يقال للدلالة علي في غيابي.
مع الوقت عرفت أن مسألة التقبل ليست مشكلتي أنا بقدر ما هي مشكلة الآخرين. فالناس هم الذين يقعون ضحية أحكام المقاييس المسبقة. أذكر مرة، في سن المراهقة، خرجت لسبب ما غاضبا من المنزل. صفقت الباب خلفي وأخذت أمشي بدون اتجاه. خطواتي عصبية، ووجهي محتقن، ومررت بأطفال يلعبون، إذا بطفل من بينهم يركز نظره علي، ولما مررت هتف بأصحابه انظروا انظروا هذا الرجل الصغير. ولم أستطع منع نفسي من الضحك. هذه أشياء لا تنسى. أما مشكلة الملابس فهي غير قابلة للنسيان بسبب أنها دائمة. فالمعاطف والقمصان والكنزات عادة ما تصنع وفق المقاييس المحددة: S، M، L، XL… وهي مقاييس لا تنطبق على جسدي، مما يفرض علي القبول بالتناسب التقريبي، أما السراويل فلابد دائما من تعديل طولها، وبما أن حرفيينا، والخياطين منهم، لا ينفع تناولهم بسوء، إلا أنني لا أنكر أنهم كبدوني خسائر أعجز عن عدها. مرة اشتريت ثوبا أسود عالي الجودة أعطيته لخياط ليصنع لي طقم بذلة، فأخذ قياساتي ونقذته نصف تكلفة الخياطة، وبعد عدة زيارات أخرج لي الجزء العلوي من البذلة كي أجربه علي، فلم يستقم على جدعي، وظل كلما سويت فتحته في الوسط تعود وتميل إلى الجانب، ولما سألته أجابني، أنت معوج.
فالسؤال وجب أن يكون كيف يتقبل الآخرون جسدك، وفي أي اعتبار يأخذونه. مرة أسرّت لي صديقة في عز جلسة جميلة، بأنها كانت لتتعلق بي لو أنني أطول بعشر سنتمترات. عشر سنتمترات فحسب. فكيف علي إذن أن أتمثل جسدي خارج الكيفية التي يتمثله بها الآخرون؟ بعد نهاية عرض مسرحية لعبت فيها دور بائع السجائر، جاء شاب ليهنئ الفرقة، وقال لي شكرا، لقد أضحكتنا. علما أن دور الشخصية الذي أديته كان مأساويا. وهناك كثيرون ظلوا على فكرتهم بأنني سأنجح في أداء الأدوار الكوميدية، لأنني قصير القامة.
وهذا يجر إلى الحديث عن كتابة الجسد. أنا أتفق مع ساراماغو في امتناعه عن وصف الشخصيات، باعتبار أن الأوصاف ليست هي المحددة في سلوك الناس. كما أن طوني موريسون ظلت تكافح باسمرار ضد عنصرية اللغة التي انبنت على شيطنة السود بسبب لون بشرتهم، حيث جرت التربية لقرون من الزمن على أن الأسود لا يحس ولا يفكر ولا يمتلك قيما كالحياء والكرامة. كما أن هناك من ذهب إلى حد التقعيد العلمي لربط الجريمة بتشوهات خلقية كما فعل لومبروزو. ولا زلنا نجد إلى الآن وبالجملة أعمالا سردية في الكتابة والسينما والمسرح تختار لشخصياتها الأقل أهمية، أو المكروهة أو التافهة أو الشريرة… شكل القصير أو السمين أو الأصلع أو الأعرج أو الأعور. وقد خصصت اللغة العربية للقصير مفردة تجمع بين صغر حجم جسمه وصغره في أعين الناس، ككلمة قميء، وهي تعني أيضا ذليل وحقير، ولا يوجد في القاموس ما يعادلها بالنسبة للطويل. وأذكر أيضا أن صنع الله ابراهيم أعطى لأحد أعضاء اللجنة في روايته اسم القصير وأسند إليه مهمة حقيرة، وهو الدور الذي أُسنِد إلي بدون منازع في فرقة أقواس للمسرح حين اشتغلت على هذا النص.
لا أعرف في الحقيقة إن كنت فهمت جيدا سؤال كيف أكتب الجسد. فالكتابة عندي هي سرد ووصف وتأمل وحوار، وأظن أنني حين أتعرض لجسد ما فإنني أتناوله كما أتناول أي شيء آخر بما يستلزمه من وصف أو سرد أو تأمل. وكما هي فكرتي، فأنا لا أسعى في كتابتي إلى ربط الشخص بجسده، دون أن يمنعني ذلك من الانجذاب إلى رسمه/وصفه، لما في ذلك من لذة جمالية أساسا، ومن مساعدة في بناء المعاني. أما إذا كان السؤال يقصد إلى كيفية التعامل مع الأعضاء الجنسية في الجسد، وأسمائها وأفعالها، فأنا لا أعتقد أن هذا الأمر يطرح مشكلة حقيقية في الكتابة الجادة، ولا أظن أن الجهر بأسماء الأعضاء الجنسية هو ما سيحقق لنا التحرر الجسدي. ولنا أن نلقي نظرة على خيرة ما يوجد في الأدب العالمي، وسنجد كتابا كبارا تطرقوا للعملية الجنسية، لأنها ركن أساس في الحياة التي يصورونها، ومنهم من أسهب في تفاصيل العملية. إلا أن أسماء أعضاء الجسد الجنسية نادرا ما يتم تناولها بالألفاظ المباشرة. نجد أمثلة في ألف ليلة وليلة وعند موراكامي، ومن الكتاب الغاضبين نجدها عند شكري وبوكوفسكي، وفي إطار نوع من التحدي نجدها عند سلوى النعيمي… لكن العالم كله بما فيه المتقدم والمتحرر والمتسامح والعقلاني وصل بالأدب إلى قمم شاهقة من الجمال، ما زال إلى الآن يخرج إلى الشارع بالتبان والصدرية على الأقل.

كاتب من المغرب


الكاتب : إعداد: فاطمة الزهراء الرغيوي

  

بتاريخ : 14/07/2020