الشعر ذاك النهر المتجدد

(1)

الشعر ليس في حاجة إلى آذان، رغم أنها طريق العشق، بلغة بشار الذي فضل السمع على البصر في مقام العشق، وعشق الشعر لن يتحقق إلا بالبصيرة والحدس، فبهما نروم التقاط الذبذبات الجوانية، والقبض على الأشياء التي لا تدرك إلا بخرق المألوف عن طريق المجازات والاستعارات، فبدونهما لن تستقيم حياة الشعر، لذا ففي زمن مختلف، وعصي على الفهم والمحاورة، المجاورة والمسايرة، على الشاعر أن يصوغ العالم لا بواسطة الاتباع الذي يقتل روح الخيال، ويضعه في ثلاجة الأشكال الجامدة، فيكون مصيره النسيان. عن طريق الإنصات لما يأتي من الغامض والبعيد ، والنابع من نهر هراقليطسي يحفر مجاريه بتؤدة، دون جلبة، يقودها إلى المدهش والغريب، ناصبا فخاخ اللغة.
(2)
الشعر يرسم ويمحو، يمحو ويطمس، يكتب سيرة الماء، مقاوما رمل الحقيقة، حيث هشاشة الذات والعالم تنسج كينونة الخلق والإبداع. وليس يسيراً على الشاعر أن يشحذ حواسه وحدوساته ويصقلها، إذا كان غياب التجربة والوعي بقيمة الكتابة المبتكرة لنواميسها المنبثقة من وجودها النصي ، والتي تبتغي مرضاة المفاجئ والرغبة في اقتحام الأدغال الموغلة في الارتباك والضاجة بالحياة والأسرار.
إن من يقول لاحاجة للإنسانية بالشعر، لا يعي جوهره ولا يدرك وظيفة الخيال في تجسير العلاقة بين الروح والوجود، لعلّة واحدة ووحيدة أنه يكتفي بالسطح ويخاف الشعر الغامق والعميق المربك والمحير، كما يمكن أن تكون معرفته ناقصة الإحاطة بدهاليزه المعتمة التي تبقى في حكم الالتباس، والتي تأبى المسكوك والمتداول، لغة تكتب وتمحو، قوامها الإشارة والكشف، ناحتة كيانها الجمالي والفني باختيار الترحال والتيه والعزلة، باحثة عن سيرورة الماء في تبدّلاته، وعن ما يجعل الحياة أكثر تحررا من الفوضى والعبث . لغة تؤسس شعريتها من تجاوز الجاهز، والذهاب بعيدا إلى المستقبل، لا تنبذ الماضي، وإنما تنظر إليه انطلاقا من وعي هوياتي يحفّز على الاختراق والتجاوز قصد ابتداع الجميل والجليل في الذات والعالم. لغة الشعر ترتضي مطاردة المشرق والمشع في الذات والوجود. فكل وجود لا يحتفي بالجمال وجود ناقص المناعة الإبداعية، ذابل العبور إلى تخوم تحتاج القدرة على الإصغاء، ومشلول جماليا لا يرتاد الآفاق المجهولة.
(3)
الشعر يختار طريقا آخر مختلفا، مناوئا للمألوف، يصنع وجوده عبر المغايرة والمخالفة، عصي على الانقياد والخضوع لإرادة الكائن، في الشكل يختنق ويفقد طاقة التجدّد، فهو متمرد على التحديد، يختار هويته من ذاته، يدحض القوالب السارية المفعول في جسد القصيدة، فهو دائم البحث عن شكله المتخلق منه، لا من غيره، متجردا من أسئلة الراهن، ينبذ النكوص إلى الخلق، متوثبا ومارقا، مبدأه العقوق والعصيان، يراهن على المستقبل، لكونه نقيض الأساليب المتوارثة، لايحاكي بقدر ما يجادل ويشاكس التقليد، هو ضد الشكل، لأن الأشكال لانهائية، فكل شكل يعبرعن لحظته الحضارية، بمجرد انتفاء شروط اللحظة ينقبر الشكل القديم ويتلاشى بخلق القالب الشعري المعبّر عنها. وتلك صيرورة الشعر الذي لا تصنعه الألفاظ، وإنما الألفاظ تكون استجابة منطقية للمعاني الجديدة، والأسئلة الراهنة التي تلبي نداء الواقع المتحول والمغاير. فالطريق في الشعر غير الطريق في النثر، في النثر واضح جليّ، لكنه في الشعر يتميز بالانعطافات والمنحدرات المفضية إلى المجهول الممتد في اللازمن. راهنية الشعر في لازمنيته، وفي قدرته على التحويل، ومن غير هذا لا يمكن الحديث عن الإبداع المفجّر للعلاقات بنسج علاقات جديدة ناجمة عن ابتكار كتابة شعرية لا تقف عند حدود اللفظ، بل تتجاوزه إلى اللامحدود، وفي هذا التجاوز يفتح المعنى على التأويل وتكمن سيرة الدلالة اللانهائية.
(4)
الشاعرلا يستورد اللغة، ولا يتكلمها، وإنما يخلقها ويعجنها بالخيال المبتكر، وبملح التجربة، وذلك بإفراغ الألفاظ من معانيها القائمة وشحنها بأبعاد دلالية جديدة، تعبّر عن صوت الداخل، متنائية عن صدى الخارج، وفي هذا تتجلى علاقة الشاعر باللغة وبالعالم وبالذات، ومن ثم نجد هذه اللغة تبدع كيانها الرمزي المنبثق من منظومة تأويلات مستمدة من رؤية الشاعر إلى الواقع وتصوره لعناصر النظم المتداخلة والمتشابكة، وهي رؤية تختلف عن المرجعيات المؤثثة للغة الموروثة، بل تقترب من نبض المغامرة ونسغ المغايرة.
في الشعر تكون اللغة متخفّفة من التماثل والتطابق، مثقلة بالانزياحات ومشرعة على الاتساع الدلالي، مما يخلق نوعا من الدهشة بالنسبة للذائقة الشعرية المسيجة بالثبات، ونقيضة التحول. وبالتالي فإن الشعر ماهية اللغة في أرقى مراتبها الانزياحية، تنماز بالنسيج الخاص بها، وذات نسق يمثلها لوحدها، تذيب العناصر في حدوس متواشجة الرؤى .الشاعر خالق لغته وصانعها، لا يؤمن بقداسة اللغة، التي تمّ إسباغها بها من لدن حراس التوابيت. وبجعلها أداة لصب الأفكار في القوالب الميتة، وهذا يتنافى مع لغة الشعر ذات الانسيابية التركيبية والتشكيل التصويري التي تليق بالشكل الحاضن لارتجاجاتها وعنفوان جلالها الإبداعي. إن شعرية اللغة تتجلى في قدرتها على ابتكار العالم بصيغ جديدة. مع الابتعاد عن التقليد والاقتراب من المناطق الغامضة ، فغاية الشاعر من اللغة هي صناعة الدهشة والمفارقة، والتعبير عن القيم الجديدة واكتشاف المهول والبهي.
(5)
الشعر، في اللحظة الراهنة، لم يعد مقترنا بسؤال الواقع، ولم يبق ملتصقا بهوية الشكل، ولا يقيم أي قيمة للوزن ، بل يخلق إيقاعه بكتابة قادمة من جمال وجلال الحكمة، والاغتراف من ينابيع الذاكرة الحية، إنه إيقاع يروم الاحتفاء بالكارثة والهشاشة. كتابة الكارثة والهشاشة تؤرخ لهذا المبهم الناسف لكل اليقينيات، المتولد من رحم القيامة الجديدة … قيامة اللامعنى حيث العالم يوجد في حالة الفوضى المتربصة بوجود الذات، وانهيار القيم الإنسانية، وتعلن حربها على التخوم الفاصلة بين الحياة والعدم. إن هشاشة الكائن كامنة في الغياب واجتراح الفتوحات والمغامرة، والانهمام بالعابر، أي الآني الزائل، وهنا جوهر شعر المحاكاة والنسخ، والمُنافي للإبداع.
إن راهنية الشعر مرتبطة بهشاشة الكائن الذي غيّب الجوهر، واجتهد في صناعة الابتذال، وإشاعة ثقافة الضحالة، والشعر عدوّ السطح وصديق الأعماق والأغوار السحيقة، ويحارب الخوف من الطبيعة والهزات المزلزلة للقناعات.
(6)
إن الإنسان، منذ البدايات، وهو يسعى إلى تخليد عبوره بالرسم والحفر في الكهوف وعلى الجلد، وبعدها باللغة فحقق وجوده إشاريا ورسما وحفرا، غير أن الكتابة أخرجته من واقع الصمت والشفاهية إلى عالم جديد يقوم على الكتابة ونحت الجمال، آنذاك بدأ التفكير في تحويل الأشياء الصامتة إلى صور تثير المتواري والمحجوب، عن طريق المجاز، فتولّد الشعر من رحم العبور الوجودي. لكن هذا العبور له أثره في الذاكرة الإنسانية، فجاءت الأساطير والملاحم والرموز للتعبير عن الرغبة في تخليد العبور من اللاشيء إلى الشيء، وخلق كتابة لا تقول، بقدر ما تشير وتومئ، تخصّب اللفظ وتثوّر المعنى، لذا جاءت القصيدة متوشحة بجزالة الثابت والجِرس المقيم في الأذن، واعتبار العالم محدودا وغير قابل للتفكيك، وكان صوت العالم حاضرا بقوة في الخطاب الشعري، وصداه مرآة لما تنقله الطبيعة والجغرافيا المحيطة بذات الشاعر، الأمر الذي جعل الشاعر خارج التجربة، بعيدا عن نداء الأعماق، ومنغمسا في المعيار المفضّل لأولوية الواقع. فواقع الشعر منصرف إلى العناية بواحدية المعنى. وهذا ليس انتقاصا من تجربة القصيدة، وإنما تجسيد منطقي لنداء الواقع، وتعبير عن الحادثة. لكن شعرالحاضر مستقبلي، لا يستعيد ذاكرة القصيدة، وإنما يجنح إلى ذاكرة الذات وامتدادات الوجود المجهولة، خالقا بذلك ذاكرته النصية المختلفة رؤية وأسلوبا، مخترقا الحدود المرسومة مسبقا، بالغا التخوم القصية والملغومة، مما يجعل النص الشعري صعب القبض على مفاصله الدلالية .

(7)
أفكر في كتابة التشظي المحيط بالذات والوجود، حيث يبدو الوجود غارقا في قيود تكبّل الخيال، وتفضي به إلى العقم، فتقف اللغة عاجزة عن التقاط هذا الإحساس إذا ظلت متشبثة بطبيعة الشكل الجاهز الجامد، منا يفرض على الشاعر ضرورة خلق اللغة الخلاقة والمبتدعة لصوتها المتفرد في تشكلاته التركيبية، وصانعة لهوية شعرية لا تعترف بالحدود، ولا تردد ما قيل، بل عليها أن تصوغ العالم والأشياء بطريقة جديدة تتسم بالإضافات وببناء يتسع لإبداعية الرؤى. هذه الهوية تشرع أفق الاحتمال وتمنح للكتابة إمكانات لامحدودة، تستمد حيويتها من تخوم اللانهائي وتخلق كينونتها من الاختلاف بدل الائتلاف، وفي هذا يكمن الفرق بين واحدية القصيدة وتعددية الكتابة. وجوهر الاختلاف الإتيان بما يخلخل وما يطرح السؤال المفضي إلى تناسل الأسئلة، فالتشظي سيرة كتابة تتأمل وتمحو الحدود بين الأجناس الأخرى. وتخلق الجمال المتغيّر والمتحوّل . كتابة شعرية تتحرر من أغلال التكرير لتعانق رحابة الاستثناء، الاستثناء في الشكل والتركيب.

(8)
إن ديمومة الشعر لا تكمن في تجاوز الماضي، وإنما في تلك القدرة الخلّاقة على التجديد واكتشاف جوهره. فبدون الوعي بالماضي يستحيل على الشاعر ابتداع كتابة تنتصر للتشظي والمفكك والمتحول، كتابة تجترح كيانها بلغة لا تقول العالم وأشياءه، بل تبدع العالم باعتباره صيغة كينونة والأشياء بداية لتشكيل جمالي مختلف عن جماليات القصيدة، وهنا تحقق الكتابة الشعرية عمقها وإبداعيتها .

(9)
الشعر عربة خيال تقودها خيول الإيقاع إلى باحة الكتابة الأكثر تجردا من الصدى، مبدعة صوتها الآتي من أشكال تعبيرية مفتوحة على الاتساع الدلالي والتأويل غير المتناهي .
هي عربة للحياة لا للموتى، عربة مكللة بورد الانزياح، ومتوهجة بأشعة الجمال، عربة النثر التي تخفي وهج النص وغوامضه، والمحتفي بانثيالات اللغة.
ذاك تاريخ الكتابة الجديدة الحافل ليس بالحادثة، ولكن المكتنز لأسرار اللغة وعوالم المتخيل . والمقيم في ذاكرة التحديق المتوج بغلالة الفراغ. تلك كتابة تنسج فخاخ المعنى وتعانق مقامات التحليق خارج الذاكرة.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 19/03/2021