المشهد الصوفـي -21- المديح النبوي في ديوان عبد القادر العلمي

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

يكاد فن المديح النبوي في فترة ازدهار الزجل المغربي الملحون، وذلك خلال القرن الثامن عشر الميلادي، يكون موضوعا لا يختلف عنه شاعر من شعراء الملحون ؛ نعم، فمنهم المُقِلّ، ومنهم المُكثِر، ومنهم من كانوا يفردون له دواوين كاملة، وقد أعان على ذلك ما كان منتشرا في ربوع المغرب من زوايا المتصوفة، والقبول العظيم الذي لقيته – أيضا – دروس الفقهاء التي تقدم للعامة بين العشائين، وكذلك محافل التجمعات الدينية التي كانت حلقاتها – على وجه الخصوص – يعمل القائمون بها على إثارة المَواجد بإنشاد «السماع» وما يعقبه من قصائد لبعض شعراء الملحون، وألوان أخرى من البراول، والمقطعات الزجلية وغيرها من الإنشادات الفنية التي كان يقوم عليها نظام السماع بالمغرب. وطبيعي – أيضا- أن يكون الكثير من هذا الفن الجميل في المَديح النبوي بارزا في ديوان العلمي – رحمه الله -، ضمن أغراض القصائد التي يحويها بين دفتيه، والذي يستحق منا اليوم، وغدا وقفة خاصة لعمق تأثيره في سيرة صاحب هذا الديوان الذي أبدع فيه وأجاد ؛ نعم، فلشاعرنا – رحمه الله
– قصائد عديدة في هذا النبع الثري الذي تفيض به قرائح الشعراء في كثير من المناسبات، ومنها مناسبة الاحتفال السنوي بذكرى ميلاد الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -، فإلى هذا الفن اطمأنت نفوسهم، مستنيرة في قرضه بهدي العقل والدين؛ ومن أروع قصائد المديح للعلمي : قصيدة الشافي التي يقول في مطلعها :
يَالشَّافِي بَحْكَمْتَكْ حَالْ كـُــــــــلْ مَضْـــرُور*
اشْفِي عْلايَلْ ذاتِي مَـــن ذا الوْجَاعَ تـَبـْرا
طَهَّرْ ادْوَخَلْ قـَـــــــلْبِ مَنْ جْمِيعْ الكْـــــدُورْ *
كْمَا اطْهـَارْتْ قـلـُوبْ الصَّادْقِينْ اهْلَ البُشْرَة
امْحَسَنْ الدُّنيا هـَجْــــــــــــرُوهَا بغايَة النـُّورْ*
امْنِينْ غـَنـْمُوا في وَجْهْ سِيدِي الرّْسُولْ نـَظْرَة
مَنْ ادْعِيتْنـَا لَصْلاتُه في كـُلْ مَسْطُورْ *
اعـْلِيهْ ألفْ اصْلاة والرَّضْوَانْ على العَشْرَة
والعْمَامْ والأنصارْ معَ الازْواجْ البْدُورْ *
واهْلْ البيتْ اوْلادْ المْشَرْفـَة الزَّهْرَة
الـحـربــَـة :
الصْلاة وَالسَّلامْ علـَى النَّبي المَبْرُورْ
اعـْدادْ مَا خـَلـْقْ الله امْيَاتْ ألف مرَّة
* * *
وقصيدة «الشمائل» التي يقول في مطلعها :
الصْلاة علَى مَنْ جـَانـَا بصُوم رَمْضَانْ* كـُلْ مَا خْلَقْ الله مَــنْ انـْــــــــــوَارُه
وَاللِّي جـَا بالدِّينْ احْقِيقْ دُونْ بُهْـتـَانْ * الصّْلاة والزَّكاة وَالحجْ في انـْهَــارُه
الحربـَــــة :
الصْلاة والسَّلامْ على النبي العَدنـَانْ
سيدنا محمد والرْضَا على انْصَارُه
* * *
وقصيدة «صلوْا على الـْهـَادي» تقول حربتها ما يلي :
صَلـِّوْا علـَى الـْهَادِي ** مَصْبَاحْ الانْبيَا نـُورْ الـْحَقّْ اشْفِيعْنـَا
مُولاي مُحمَّــــــدِي ** مَنْ بـِهْ اسْعَـــدْنـَا وَمَنْ النَّـارْ يْفُكـْنـَا
وفي قصيدة «الجيلانية» أن الصلاة على النبي الكريم، هي حرزه، وحفظه، وسلواه، وهي ورده الدائم – كما يقول الدكتور عباس الجراري –
هِيَ حَــــرْزِي وارقيتي هــــي الأمَانْ ** هِيَ حَفْظِي وصُونْ دِيني وايمانِي
هي زَهْوِي وانـْزاهْــتـِي هِي السَّلوَانْ ** هِيَ عـَزّي وحرمتي هِـــيَ شـَانِي
هِيَ ورْدِي اعلـَى الدّْوَامْ في كـُلْ احْيَانْ ** إنْ شاء الله مَا فِي لحياة ابْقـَانِي
* * *
* – جمهور الأولياء، ومدحهم في شعر العلمي :
لم يعد خفيا على أي متتبع لما حواه ديوان العلمي من دُرر شعرية غالية، وروائع خالدة بخلود هذا البلد الآمن، لما جاء في أغراض المديح بأنواعه الثلاثة : مَدح الرسول – عليه السلام – ومدح الأولياء والصالحين – رضوان الله عليهم ، ومدح آل البيت، عترة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – ؛ نعم، ففي هذا اللون من المديح، ما كان يشكل نوعا جميلا من البعد الجمالي، والروحي، والفني بوصفه أداة أدبية تواصلية فعالة بين الشاعر، والمتلقي (أي بين المنشد، والمستمع في آن واحد) ؛ ففي هذا السياق، تجري محاور القصائد التي تمت الإشارة إليها سابقا، وعلى منوالها – أيضا- ما خاطب به سيدي قدور العلمي – رحمه الله – الولي «سيدي بوزكْري»، – رضي الله عنه – تقول حربة القصيدة :
أيا ضَامَــــنْ مَكـْــــنَـــاسْ * جيتَكْ شـَاكي بَعْلالِي
دَاونِي نَبْرَا بصُرْخَتـَكْ يـَا وَلِيَّ اللهْ * يَا سِيدي بوزَكْري
إن من عادات شعراء الملحون، إذا مدحوا سبعة من الأولياء، يطلقون اسم «الجمهور» على هذه القصائد؛ وقد قسموا هذا اللون إلى قسمين رئيسيين: جمهور الأولياء، وجمهور البنات؛ وقد أحصَى الراحل الأستاذ محمد الفاسي – رحمه الله – القصائد المسماة بـ «الجمهور» فقال – بالحرف الواحد – ما نصه :
«وقد أحصيت من القصائد المسماة جمهور الأولياء عشرا، وجمهورا واحداً للأنبياء، وتسع قصائد في جمهور البنات»؛ وفي نفس السياق، يقول الدكتور عباس الجراري ما نصُّه :
«جمهور الأولياء: مصطلح يطلق على بعض القصائد التي تمدح مجموعة من الأولياء، والصالحين، كمطولة عبد القادر العلمي التي أولها :
يَا مَنْ يَشْفِي اضْرارْ عَبْدُو بَعْد السُّقْمْ *
ويفرجْ مَنْ اقـْواتْ في الصَّدر احْزَانُه
وبفرجــــــــــه إيغيتْ ويحَنْ وِيَرْحـَمْ *
ويقـَابَلْ ذَنْبْ مَنْ اعْصَاهْ بغـُفـــــرَانـُه
ويغطي مَنْ اجْهَلْ يَـحْـلـَى لُه الحَلمْ *
هـذا الـْمَعْــــرُوفْ مَنْ المـُولـَى سُبْحَانـُه
وَالوَاحَلْ إينـقـْدُه وينجّيه مَن الغـَــمْ *
وَاضْعِيف المَنـْــــزْلـَة إيعظـَّم لُه شَانـُه
ويسَقـَّمْ سَعْدْ مَن اجْنَحْ بِه ازْمـَانـُه


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 26/04/2022