على موعد مع الشعر والإزهار

للكون، للكائنات، للوجود، وللموجودات، موعد مع الشعر، إذ أن الطبيعة بكل ما فيها وما عليها، باطنا وظاهرا، من عناصر ومكونات، وأُسْطُقْسات، تناديه، ملحاحة، إلى عرسها ليشرفها ويدغدغها بعذب الأناشيد، وجميل الأوصاف، وفادح النعوت الغَزِلَة، ومثير الغمزات العاشقة، والهمزات المدنفة، وبديع التشبيب، والنظرات الناعسة.
فالشعر لا يختال ويميس، ويتهادى تيها، ويجرر أذياله عُجْبا وتفاخرا إلا في حضرة عرسها، عرس الطبيعة، ونداء الربيع، وتسابيح الشجر والبشر والحجر والطيور حيث تعود الروح إلى الجسد المقرور، والماء إلى اليباس المنذور، والهواء إلى الصدر المنخور، والشمس إلى النَّفَس المكسور.
يرتدي الشعر أبهى الحلل، وينطق بأبدع الكَلِم، ويمتطي، مزهوا، سرج المجاز ليجتاز الأسوار، ويتخطى الكلس والدنس، والمبتذل اليومي المكرور، والمعاش الضروري الخام. فيُصَوْرِنُ أشياء الكون كما يشتهي، وكما تتبدى وقد حل فيها ما غاب منذ أشهر، وسكنها بالنداوة والبلل كله ما تركها، من قبلُ، عرضة للعري والجوع والغياب.
لذلك وقع اختيار العارفين الممسوسين المنذورين للنار والخطف والإشراق والاستغراق، على فصل الربيع موعدا سامقا وساحرا للشعر، للاحتفال بسيد الكلام، وأمير البيان واللسان، ومنقذ اللغة من السقم والضلال والمَلاَل. فاللغة تَضْجَرُ وتتبرم من إقامتها الدائمة في حضن المعجم، ومحبس القاموس. عروقها تجف، وعنفوانها يضمر، وحروفها، بما هي أرواح ومباطن وبروج وعروج وأفلاك دوَّارة، تنكمش وتندثر. ومن ثَمَّ، فالشعر طبيبها ودواؤها، وروحها وريحانها ونعيمها. والشاعر، ترتيبا عليه، وهو الخالق وما خلق، بهلوان حاذق متمرس في سيرك الكلمات يلاعبها، ويداعبها، ويُجَمِّش آباطها لتضحك وتهتز منتشية جذلى متقافزة من فرط التجميش والدغدغة. وما التجميش، مجازا، سوى ضخ الأنساغ الحية المنسابة في خفَرٍ بين اللحاء والأوردة، والعروق، والجذوع. ما يعني فرك عيون اللغة المسدلة التي أعشاها ظلام القواميس، واستعمال الفقهاء المزمن المرتبط بعروةٍ إلى « سدرة المنتهى». فرك عيونها لترى ثانيةً، وتبصر، وتقول ما تراه وتبصره، وتستبصره، وتتغنى به ممشوقة مقدودة، مُندّاة، مُوشّاة، عليها مطرٌ ووترٌ وعطر وقمرٌ.
فإذا كان الربيع فصلَ الحب والجمال والصحو، وزمن الخروج إلى الشمس والبراري المزهرة المعشبة حيث المهاري الراكضة في طلاقة كأن في حوافرها ريحا دافعة، والطيور مشقشقة مزقزقةً محلقة في الأجواء والأجواز كأنها تسبح حامدة شاكرة ومتضرعة، والناس بين الغابات والأشجار والجبال، هائمة مستمتعة، تجدل من الزهر عقيقا بديعا أنيقاً، وتوَيْجاتِ عشق ملونة، فإن الشعر هو مجال اللغة المستبطنة، والقول الرفيع الغائص في تلك المجالي، والمتسامي المجذور، في آن، تصويرا وتخييلا، ورقصا، وبناء معنى ودلالة.
إن العارفين الذين اقترحوا آذار شهرا، والحادي والعشرين منه يوما عالميا للشعر، لم يحيدوا عن جوهر وعمق وطبيعة معنى الشعر. إذ هو شعورٌ صافٍ، وإحساسٌ متوثب وافٍ، وصحوٌ يكاد من الغَضارة يمطر كما عبر ذات قصيد، الشاهق أبو تمام. ثم هو لغة سامية عالية تتهيأ وتتجمَّل في الفصل إياه كما لم تتهيأ ولم تتجمل من قبلُ. بل إن الحب الذي ينبثق ويفيض، بعدئذ، مدراراً في آذار.. في الربيع، وجمال الطبيعة التي يزدهي بها الكون أيما ازدهاء فيه تحديدا، هو الحب والجمال عينهما اللذان تفيض بهما الأقاويل الشعرية، والبوح الوجداني الجواني والبراني. وهذا يقتضي أن تمشط اللغة شعرها وتصففه، وتغتسل عند مساقط الينابيع وعيون الأنهار في الآصال والأسحار بعد أن تخلع نعليها، وتضمخ أمشاط قدميها بالشذا والأريج الذي ينتشر ويضوع خفيفا لطيفا كما الشعاع بأعالي الأشجار وأسافلها، ومرايا الوديان وأغوارها.
جاء الشعر من طفولة الإنسان، وتحدر إلينا من أفجار وليالي وصلصال الحضارات البعيدة، والثقافات السحيقة. وبما أن الطفولة، في منطوقها ودلالتها، هناءةٌ وجمال، وطيش محبوب، ولهو ولعب بالماء والحصى، والدُّمى والأعشاش، والنار، فإن الشعر والربيع كذلك، طفلان لعوبان فتْنَانانِ، مِرْنانَانِ، وإنْ حمَّلَتْه العصور التاليات ( أقصد الشعر ) ما لا يحتمل، ما ناءَ به وبَرَكَ بدعوى التطور والتقدم والتحول، وعناد البشر، وتقسيم العمل، واستشراء الظلم والطغيان والرَّهبوت.
ففي القديم، كانت بعض الشعوب والأمم، تؤرخ لبداية العام بالربيع من آذار أو نيسان. ولا تزال مناطق متفرقة من العالم، تعتمد في ثقافتها الموروثة، وأعرافها وعاداتها، فصلَ الربيع بداية السنة، ومفتتح الزمن لأنه يرتبط بالحياة والتجدد، والانطلاق، وتمدد الضوء في قماش النهار العريض. مع العلم أن الربيع، وفقا لمنطق تالٍ، ما هو إلا ثمرة وحصيلة أمطار وبرد وثلج، وعواصف عاتية، لقحت الطبيعة بعد أن وضعت في رحمها نطفة الخلق والحياة، وبذرة التوالد والاستمرار غِبَّ يباس ونعاس تسبب فيهما صيفٌ جافٌّ، وخريفٌ حافٌّ. وبما أن الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن اختيار آذار عيدا للشعر، هو اختيار موفق وناجح لأنه راعى معنى وفلسفة الحياة والجمال والحب بما هي أقانيم مركوزة متغلغلة مُتَبَدّاة ملحوظة ومقروءة في الفصل كزمن ناجز متبرج جذاب وغاوٍ، ومُغْرٍ، وساحر وأخاذ، وفي الشعر كتعبير لغوي نفسي أنوي وصفي تصويري حي، دائم الاخضرار والتجدد والشبوب لأنه طفل ميثيٌّ طفولي القاع والمنزع والأفق حتى وإن طوقناه برسالة إنسانية اجتماعية، كما أسلفت، لأنه يسعى، وهذا دأبه، وهو يحملها، إلى قرع أجراس الأمل، ودَوْس أزهار الشر بقدميه الحافيتين الحانيتين الرؤومتين البلوريتين.
في فم الشعر: ربيع دائم، ولو خَذَلَ المطرُ. في فمه عصفور دائم الرفرفة والتحليق والنشيد.
وفي فم الربيع: شعر أخضر زاهي الريش، فاتن الألوان. في فمه اخضلالٌ ونداوة وإيراقٌ، وحياة وأعراس وأجراس، ولو نَغَّصَتْ لا زورديةَ سمائه، طائراتُ الموت، وأسرابُ وطاويطَ سوداء بشعة ومُنْكَرة.
وإذاً، هما معاً: حفيف أشجار وحفيف لغة. حفيفان يشتبكان في لحظة حب لا تنقضي.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 19/03/2021