في التغيير والتنوير والشبكات في الذكرى العاشرة لرحيل الجابري 18 : الجابري وتحديات الحاضر (2)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

نفترض أن مجمل التركة النظرية لمحمد عابد الجابري، ما تزال في قلب معترك الصراع الثقافي المغربي والعربي، وكثير من التجليات الثقافية التي تملأ المشهد الثقافي والسياسي في مجتمعنا، ترتبط بالتحديات التي كان يواجه وهو يركِّب مفاصل ومحاور مشروعه في نقد العقل العربي. كما ترتبط بمعاركه السياسية والتربوية في المغرب، حيث كان منخرطاً في العمل السياسي ومهتماً بتطوير تعليم الفلسفة في المدرسة والجامعة المغربية.

ماذا بقي من صاحب رباعية
نقد العقل العربي؟
نعرف صعوبة اختزال المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري في أحكام عامة ومختزلة، ولهذا نتجه بمناسبة الذكرى العاشرة لغيابه، لاستحضار ما نَعدُّه روحه الجامعة وعَقْلَه الناظم، أي استراتيجيته في الموقف من التراث، حيث يتعلق الأمر بالدعوة إلى الانفصال عن التراث، عن طريق الاتصال به، ذلك أن الجابري يرى استحالة الفصل دون وصل، فنحن لا نستطيع في نظره النهوض ولا التقدم، باستعارة النماذج واللغات والأزمنة، التي تأسست خارج تاريخنا. كما أننا لا نستطيع في نظره تطوير ذاتنا إلا بالانخراط النقدي في تاريخها الخاص، قصد خلخلته وإحداث شقوق داخلية فيه، بالصورة التي تمكِّنُنا من تجاوزه، بفعل مفعول الشقوق التي أحدثنا أثناء نقده.
لم يكن الجابري يتردد في نقد من كانوا يرون أن مواقفه تتوخَّى بناء توافقات في الفكر وفي التاريخ بمعايير سياسية، معتبراً أن أصحاب المواقف الجذرية من التراث المطالبين بالقطيعة والقطع مع الماضي، يمارسون بموقفهم هذا نوعاً من الهروب إلى الأمام، وهذا الأمر يستبطن في نظره عملية استسهال للمسألة.
لابد من التوضيح هنا، أن مغامرة التأويل في أطروحة الجابري وفي موقفه من التراث، مرتَّبة ومُعدَّة في المجال السياسي التاريخي، في مجال المعارك الأيديولوجية، لكنها تثير أسئلة متعددة في المستوى المعرفي، وفي المستوى الأيديولوجي أيضاً. إنها تثير اليوم كما أثارت زمن صدورها، تحفُّظات واستفهامات وخلافات، لكنها تمكِّن في الآن نفسه، وفي مستوى الصراع السياسي والثقافي الدائر في مجتمعنا، من تحقيق استثمارات رمزية وتوازنات. وقد تدفع إلى إمكانية إعادة بناء كثير من المُسلَّمات المعرفية والمنهجية، وتصبح مُسلَّمة قابلة للاستعارة والنقل عندما يتم الاقتناع بها. كما يمكن أن يُعاد النظر فيها اليوم، في ضوء المتغيرات الجديدة الناشئة في مجتمعاتنا، ونحن نواجه تداعيات ما بعد انفجارات 2011، المتمثلة في كثير من التراجع والانكفاء.
تحضر في مشروع النقد الذي أنجزه الجابري كثير من الحسابات السياسية، كما تحضر حسابات توسيع دائرة المتنورين، وذلك باستعمال اللغة الشارحة والموجَّهة لأكبر قدر ممكن من الجمهور. ولعله كان على بينة من أن معركة التحديث تتطلب مواصلة الجهد النقدي وتنويعه، وهو الأمر الذي يفيد أن الرجل راهن طيلة حياته على المدى الزمني المتوسط والطويل.
ينتقد الجابري المواقف الراديكالية من التراث ويعتبرها كما قلنا مواقف سهلة وحماسية، كما ينتقد سَدَنَة التراث وحراسه، الذين يكتفون بحفظه وتقعيده، ثم حفظه ونظمه، ثم حفظه وذكره. الأمر الذي يحوِّل الذهن إلى ذاكرة، والفهم إلى حفيظة، والمعرفة إلى طقس تذكُّر واستظهار، طقس يجعل الأقدمين ينطقون بلسان المتأخرين، والخلف نسخة من السلف، والأحياء ينطقون بلسان الأموات… فهؤلاء وأولئك في نظر الجابري يشتركون في خاصية الهروب إلى الوراء، إلى لحظة دائرية مغلقة، أو الهروب إلى الأمام، حيث يمكن أن ينجح في هذا الخيار الفرد المتفرد، فيظل غريباً وسط جموع لا تستطيع مغادرة زمانها بالعمليات القيصرية وأدوات القطع الحادة، التي تترك في الذات أمارات لا تنمحي.
تكشف مكوِّنات الأثر النظري الذي أنجز الجابري خلال مساره الفكري، أنماط التواصل التي بنى وهو يواجه إشكالات وتحدِّيات الواقع العربي، كما تمظهرت وتطوَّرت في النصف الثاني من القرن العشرين. وعندما نعود إلى هذا الأثر اليوم، لنتساءل عن الأدوار التي يمكن أن يمارسها في إضاءة أسئلة ومآلات الراهن العربي، فنحن نتجه لإبراز ما هو قوي في أعماله ومصنفاته. وما هو قوي في مساره وإنتاجه الفكري، يتمثَّل في نظرنا فيما نطلق عليه الهاجس السياسي التحديثي، الذي شكَّل أسَّ المنطلقات والمبادئ الجامعة لمختلف أعماله في قضايا الفكر العربي وفي جوابه على سؤال الموقف من التراث.
كان الجابري في مختلف آثاره الفكرية والسياسية والتراثية، ينظر إلى الظواهر الفكرية من منظور سياسي، لم يشتغل يوماً بالبحث في قضايا التراث من أجل البحث التراثي الخالص، بل واجه مجالات بحثه مصوِّباً نظره نحو النجاعة والمردودية التاريخية. ولهذا الأمر خاصمه البعض ودخلوا معه في حسابات أكاديمية ضيقة، مغفلين مقدمات مواقفه المعلنة، وخاصمه البعض الآخر على إيمانه القوي بلزوم الحداثة والتحديث. ونحن نعتبر أن استحضاره للبعد السياسي يشكِّل مصدر قوة أعماله، سواء في نقده للعقل العربي أو في دفاعه عن العقلانية النقدية، أثناء مواجهته لإشكالات السياسة والتاريخ في مجتمعنا. وضمن هذا السياق، يمكن تفعيل وتطوير بعض نتائج أبحاثه اليوم وغداً لخدمة الأفق التاريخي الذي كان يتطلع إليه.
لا يجب أن نغفل الإشارة هنا، إلى أن كثيراً من المعطيات التي بنى في مشروعه ما تزال تمارس أشكالاً من التفاعل مع متغيرات الواقع، كما لا يجب أن نغفل أن القوة التي تحدثنا عنها في المقدمات الموجهة لخياراته، تعد في الآن نفسه ومن منظور آخر للفكر والتقدم، مصدر حصار لمقومات الإبداع والتقدم، وبين هذين الموقفين واصل الجابري تطلعه للتحديث دون أن يتخلى عن التدرج باعتباره الخيار الأقرب إلى متطلبات وطموحات الواقع المغربي العربي، وربما لهذا السبب عاد إلى موضوع ترتيب آيات القرآن.
عود على بدء
ما تزال التحديات والمعارك التي ركَّب الجابري مشروعه الفكري وخياراته السياسية والثقافية انطلاقاً من أسئلتها وفي تفاعل معها، نقول إنها ما تزال قائمة، هذا إذا لم يكن بإمكاننا أن نتحدث عن تراجعات جديدة في الراهن العربي، فنحن نعي جيداً أن إشكالات تأخرنا التاريخي في مستواها السياسي والثقافي، لا يمكن رفعها بمنازلة واحدة أو منازلتين، إنها تتطلب منازلات ومقاومات عديدة، كما تتطلب جهود أجيال من المفكرين، لنتمكن بعد ذلك من بناء بدائلها التاريخية المناسبة. وضمن هذا الإطار، نشير إلى الأدوار الكبرى التي أنجزها الفكر العربي النهضوي في مغالبة تحديات المرحلة الاستعمارية وما تلاها. وضمن الأفق نفسه، تُقْرأ المساهمة التي أنتج الجابري محاولاً إتمام صرح المشروع العربي النهضوي، المنفتح على الفكر التاريخي ومكاسب الثقافة المعاصرة، بالصورة التي تسعف في نظره بمزيد من خلخلة التقليد وزحزحته من مختلف مجالات الحياة في مجتمعنا.
تبرز قوة مشروع الجابري في نقده لآليات عمل العقل العربي، كما تبرز في تعزيزه لجبهة الفكر النقدي في ثقافتنا وجبهة التحديث في مجتمعنا، حيث انخرط في بناء مواقف وخيارات تروم تحرير مجتمعنا وثقافتنا، من كل ما هو نمطي وتكراري. نتبين ملامح هذه القوة في أشكال التفاعل التي واكبت مشروعه في فكرنا المعاصر، كما نتبينها في صور التوظيف الإيجابي والسلبي الذي أنتجته وما تزال تنتجه هذه الأعمال، بصور وأشكال قد لا تستند مباشرة إلى أعماله إلا أنها تلتقي بها وتتقاطع مع جوانب عديدة في ثقافتنا.
تستطيع أعماله مواصلة أشكال من التفاعل مع التحديات الجديدة التي تملأ الراهن العربي، وعندما يحصل ذلك، نتصوَّر أنه لن يتم بالأدوات التي استعمل الجابري في أعماله، بحكم أن المستجدات التاريخية والمنهجية المتواصلة، تتيح للباحثين اليوم آليات منهجية أمضى في تشخيص ونقد الفكر والواقع العربيين.


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 15/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *