في التغيير والتنوير والشبكات 20 : التنوير والتراث (4)

 

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

نتصوَّر أن التراث الإسلامي مثله في ذلك، مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حَمَّال أوجه لا حصر لها. وهو خزّان قابل اليوم، لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار. أما أن يُواصل التأويل المحافظ والجامد للظواهر التراثية، حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا وبصورة مدعومة بشبكات التواصل الاجتماعي، فإن في النتائج التي يمكن أن تترتَّب عن الفيض التراثي المحافظ، ستكرس خيارات متحجِّرة في النظر إلى موروثنا، وتبعدنا عن مزايا التعامل الخلاَّق والمبدع مع ماضينا.
1
اعتبر مارسيا إلياد في كتابه تاريخ الأديان (1989)، أن مجال الروح والروحانيات ليس حكراً على ثقافة بعينها أو عقيدة بعينها، إنه مجال مفتوح على ممكنات في النظر لا حصر لها. وقد وضح في العمل الذي ذكرنا، أن الدهريات مُغْرِيَّةٌ وفاتنةٌ، وهي تتجلى اليوم في مظاهر عديدة، حيث أصبح بإمكاننا أن نقيم تبادلا خلاقاً بين الدنيوي والروحي، المتناهي واللامتناهي، الحاضر والغائب، الشك واليقين.. ولم يعد بمقدور الإنسان في ضوء ثورات وكشوف المعرفة المعاصرة، الركون بسهولة إلى نظام في التصوُّرات والمبادئ المغلقة، كما تبلورت في العقائد القديمة دينية كانت أم فلسفية.

2
تستوعب التصوُّرات الحداثية كثيراً من المعطيات التي يمكن إدراجها في باب الروحانيات، فنحن عندما نفكر مثلاً في موضوع الجمال وفي المباحث والقيم الأخلاقية، يمكننا أن نعيد بناء الروحانية لتصبح مفهوماً دنيوياً مرتبطاً بأخلاق الحداثة، وأنظمتها في الحياة، وذلك بحكم أن الورع الديني كما يعرف الجميع ليس طهرانيا دائما، وهو لا يتضمن بالضرورة الزهد عن الماديات إلا في الأذهان، التي تختزل المفاهيم وتربطها بتصورات قاطعة وثابتة.

3
لا نجازف إذا ما اعتبرنا أن الروحاني يعود في المشروع الحداثي ليرادف الدنيوي، وإذا كان وَضْع المفردة في الأصل قد تَمَّ في مجال اللغة والتداول، وتَمَّ رَفْعُه في دائرة التصوُّرات بعد ذلك، ليقترب من عالم ما فوق العبارة، فإن المفردة تُسْتَعَادُ اليوم في الرؤية الحداثية، لاسترجاع ما أُنْشِئَت من أجله ومُطَابَقَتِهِ مع مجراه المجتمعي. إن روحانية الحداثة تبنيها اليوم في عالمنا، جسور المعرفة والحرية والجمال، وهي تتجه لرد الاعتبار للأمور السامية والأمور الحميمية في نظام الأشياء، حيث تتم العناية بنداءات الحياة ومفاتنها، إغراءاتها وَصَبَوَاتٍهَا.

4
ساهمت الحداثة في رفع الغُلالات السحرية عن العالم، الأمر الذي سمح بميلاد الرواية ونشأة العلم الحديث وفتوحاته، كما سمح بالتمييز الخلاَّق بين المقدَّس والسياسي بهدف علمنة المجال العام. وضمن هذا الأفق، يمكن أن نرسم الملامح الكبرى لروحانية يشتغل فيها الإنسان على ذاته وجسده، وأنماط حركته وعيشه، حيث يحضر الجميل والفاتن في حُلَلٍ جديدة، ويحتلاَّ فضاءات أكبر في الحياة.

5
نتصوَّر أن التراث الإسلامي مثله في ذلك، مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حَمَّال أوجه لا حصر لها. وهو خزّان قابل اليوم، لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار. أما أن يُواصل التأويل المحافظ والجامد للظواهر التراثية، حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا وبصورة مدعومة بشبكات التواصل الاجتماعي، فإن في النتائج التي يمكن أن تترتَّب عن الفيض التراثي المحافظ، ستكرس خيارات متحجِّرة في النظر إلى موروثنا، وتبعدنا عن مزايا التعامل الخلاَّق والمبدع مع ماضينا.

6
لا علاقة لقيم الإسلام كما تبلورت في التاريخ، بما هو شائع اليوم من الأفكار المتداولَة عنها، في كثير من الوسائط الاجتماعية. وأقل ما يمكن أن توصف به أفكار دعاة الوسائط في أغلبها، هو غربتها عن التاريخ وعن الإسلام في التاريخ. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي، أكبر من الأحكام والفتاوى المحافظة، إنه في روحه العامة، عبارة عن جهد في التاريخ مشدود إلى المطلق، لهذا السبب نحن لا نتصور استمرار حيوية الإسلام، من دون تجديد.

7
ارتبط وصول الإسلاميين إلى السلطة بالترويج لمشروع دَمْج الحركات الإسلامية في حركية دَمَقْرَطَةِ المجتمعات العربية، كما ارتبط بمحاولات الفصل بينها وبين الأنوية والأخويات السلفية والجهادية والخيرية وأخويات الزوايا. إلا أن حسابات الذين رَتَّبوا هذه الخطوة، أغفلت عمق وسُمْك الروابط الجامعة بين التيارات المذكورة، كما أغفلت السياقات العامة لأوضاع المجتمع والثقافة في عالمنا، وحاجة مجتمعاتنا أولاً وقبل أي شيء، لأفق في التنوير والتقدُّم، يَقْطَعُ مع منطق في الفكر ورؤية للتاريخ لم تعد مناسبة لزماننا، ولروح التطلُّعات الإصلاحية التي نروم إنجازها في مجتمعاتنا.

8
لم تحصل الثورات العربية لتحقق صحوة دينية، كما يحلو للبعض أن يتصور في ضوء وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة. بل إن صور الاحتجاج التي كانت تعبر عن تطلعات المتظاهرين في الساحات والميادين العمومية، كانت تروم أولاً وقبل كل شيء، التخلص من الأنظمة الاستبدادية، أنظمة الحزب الواحد التي تُحَوِّل الدول بمختلف مواردها وأرصدتها المادية والرمزية إلى ممتلكات خاصة، وأنظمة التعددية الحزبية المصنوعة بالمساحيق قصد التمويه. قامت الثورات لتخاصم هذه الأنظمة مجتمعة، ما سقط منها ومن لا زال يواصل الممانعة، كما قامت لتواجه الاستبداد المسلح بالدين أو بالعقائد الشمولية.

9
لم تتمكَّن المجتمعات العربية من إنجاز المراجعات النقدية المطلوبة لتجديد وتطوير إرثها التاريخي، حيث ما فتئت تستعيد هذا الميراث بطرق ومناهج تقليدية، مُغْفِلةً مقتضيات التحوُّل الجارية في مجتمعاتها وفي العالم، ومغفلة الثورات المنهجية المرتبط بتطوُّر العلوم والمعارف الإنسانية. إن السطوة الذهنية التي يواصِل ممارستها تأويل معين للتراث الإسلامي في حاضرنا، تكاد تحولنا إلى كائنات تراثية.

(انتهى)


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 18/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *