قصة تقليدية سلطة الممنوع

يتحول المنع في «قصة تقليدية» للقاص الأمين الخمليشي إلى صيغة من صيغ البناء الحكائي ذاته. وهذا معناه أنها قصة تروى أحداثها استنادا إلى فعل المنع، تماما كما يحدث في الكثير من الأساطير والحكايات الشعبية والدينية التي تحيل على حالة التحريم الأولى وخرقها.
إن المنع هنا يرتبط بالوعي (الضبط الذاتي)، أي ما يطلق عليه في التحليل النفسي: الرقابة. فالممنوع ينمو ويتطور مع هذا الوعي، ليصبح طاعة لنظام خارجي استنادا إلى مبررات مستوحاة من الانتماء العفوي لقانون ما. فالرقابة لا تفرضها الإكراهات الاجتماعية، ولا العادة ولا الخوف؛ إنها موجودة لأنها تحولت إلى قانون أخلاقي مثواه الوعي الفردي. فالطفل خيرون يعيش صراعا محتدما بين خيالاته وبين المحظور (عصيان الوصية- إحراج الأب- الخروج عن الحزب)، بل إنه يعيش صراعا مع حاجة بيولوجية (التبول).
إن السلطة تعمل في تقابل مع الرغبة. وهذا هو «التأزيم» الذي يعمل، في هذه القصة، على تعقيد الخطاطة السردية البسيطة التي يحتويها كل تقابل ثنائي: من النفي إلى الإثبات أو من الإثبات إلى النفي.
إنه تقابل يكتفي بوصف القيم ضمن نسق لا يستقيم وجوده إلا من خلال حالات التحريك. والتحريك، بما هو فعل محوِّل، يقتضي صب العلاقات داخل عمليات تتم داخل الزمن الذي يتحدد داخله مضمون هذه العلاقات. فالرغبة في التبول تسحب وراءها رغبة في معانقة الخارج والتلذذ. «نهره أبوه بنظرة قاسية فعاد يهمس: «أريد أن أبول»، أذعن أبوه لطلبه فنهض واقفا وغادر الحجرة ولغطهم يلاحقه إلى أن عبر الفناء ووجد نفسه وحيدا في الخارج. مشى بحذاء حائط وعندما بلغ نهايته انعطف مع الحائط الآخر ثم رفع جلبابه إلى وسطه وأخذ يبول على حجر بلذة». ثم مثلما يحدث، في أساطير الخلق، تقدم لنا القصة أشجار اللوز والصبار والتين. «إلى الأمام منه كانت تقوم مجموعة من أشجار اللوز توشك رؤوسها أن تتلامس محشورة وسط صبار منتشر بكثافة. لمح من خلال الصبار صبيا صغيرا ينظر إليه وهو واقف تحت تينة».
وهي إحالة، تأسيسا على التقابل الذي تنبني عليه «قصة تقليدية «(الأب/ خيرون، المباح/ الممنوع)، على بؤرة التحريم وشكله الأول، فالشجرة هي المنبع الأساس لكل المضامين الرمزية التي تفسر الانتقال من الخلود اللازمني إلى حالات الفناء الزمنية. إنها تشكل، من خلال موقعها داخل فضاء يوصف بالجنة ويحيل على النعيم والرغد، حالة فريدة يحيطها النص القرآني بحالة من الغموض الدلالي والهشاشة الوجودية. إنها « كيان دال في سياقات بالغة التنوع، ولها موقع خاص في كل الثقافات، كما تشير إلى ذلك الحكايات الشعبية والأساطير والأمثال والطقوس الاجتماعية. فقد نُظِر إليها دائما باعتبارها خزانا لرموز بالغة الغنى. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى أن ميرسيا إلياد يبوِّئُها مكانة خاصة في أغلب كتاباته، فهو يرى أن الشجرة كانت وماتزال بؤرة للعديد من الدلالات التي تحيل جميعها على «الشكل الحي للحياة». فأولى دلالات الشجرة وأكثرها تداولا في الاستعمال العام هي دلالتها على الحياة والخصوبة. فهي «من خلال شكل وجودها وتنوع ألوان أوراقها تشير إلى الانبعاث الدائم: تخضر الأوراق ثم تصفر وتسقط لتبرعم من جديد معلنة عن ميلاد فصل جديد. إنها من هذه الزاوية، تشكل الرمز الحي للتعاقب الزمني، أو هي الوعاء الذي نقيس من خلاله الكم الزمني المنقرض والكم الزمني الآتي».
إن تقليدية « قصة تقليدية « تستمدها من صيغة البناء الحكائي التي اعتمده الأمين الخمليشي. وهي صيغة مستمدة من فعل المنع الذي تبنى عليه الأساطير والحكايات الشعبية. ذلك أن الكثير من النصوص الحكائية تستند، من أجل تسريب الدفق الزمني، إلى إقامة ممنوع لا يتردد البطل أو الضحية في خرقه. وهو ما يطلق عليه فلاديمير بروب بالممنوع وخرقه، ويعين « الممنوع « و « الخرق « بالتتابع الوظيفة الثانية والثالثة داخل النظام الوظيفي الذي يميز بنية الحكاية العجيبة .


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 27/09/2019