كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ : تازة وأول مستشفى عسكري بها سنة 1914، وثاني طبيب مغربي بها الدكتور عبد المالك فراج سنة 1935

 

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

المدينة التي نحكي قصتها اليوم في ما يتعلق بدخول الطب الحديث إليها، ليست أبدا مدينة عادية في تاريخ المغرب. فهي “مدينة قفل”، كان احتلالها يجعل أمر التحكم في كل الشمال المغربي ممكنا ويسيرا، مثلما يسهل أمر السيادة على كل المعابر التجارية الكبرى من تمبكتو ببلاد السودان الغربي حتى سبتة والبحر الأبيض المتوسط، وبالإستتباع في كامل الدولة المغربية. إنها مدينة تازة، تلك القلعة النابتة بين ممر سلسلتي الأطلس المتوسط والريف، التي لا سبيل للعبور من وجدة إلى فاس، أو من فاس إلى وجدة، بدون المرور من شعابها الوعرة. لهذا السبب كانت في مراحل متعددة “عاصمة مؤقتة” للكثير من الأنظمة السياسية التي حكمت المغرب، من الموحدين حتى العلويين، مرورا بالمرينيين والوطاسيين. ما منحها أن تمتلك بعضا من المآثر التاريخية التي لا نظائر لها في كامل المدن المغربية، مثل المسجد الأعظم الموحدي (1147 ميلادية)، وقلعة البستيون السعدية التي بناها أعظم سلاطينهم أحمد المنصور الذهبي ما بين 1585 و 1593 ميلادية، ومنها انطلق الأمير مولاي رشيد العلوي لاحتلال فاس، هو الذي نقل دار المخزن بها من جوار المسجد الأعظم صوب قلعة البستيون. بل حتى بوحمارة الذي ادعى أحقيته بالملك في بداية القرن العشرين (1902)، قادما من الجزائر الفرنسية حينها، قد اتخذها عاصمة له لثماني سنوات كاملة.
هذه القلعة العسكرية الإستراتيجية، أو “رباط تازا” كما عرفت في كتب التاريخ المغربي، شكلت مطمحا كبيرا أيضا للماريشال ليوطي منذ 1912، معتبرا أن لا شئ ممكن التحقق بالنسبة للإستعمار الفرنسي ليس فقط بالمغرب بل بكل الشمال الإفريقي، إذا لم تسقط تازة بين يديه. وحين نجح في ذلك يوم 17 ماي 1914، كتب في مذكراته (التي ترجمت أجزاء كبيرة منها من قبل): “اليوم فقط امتلكت باريس كل الشمال الإفريقي من تونس العاصمة حتى الدار البيضاء”. لهذا السبب كانت تازة رهانا كبيرا للمعمر الفرنسي، خصها باهتمام تنموي مختلف ومتميز، على ثلاث مستويات: عسكريا/ شق السكة الحديدية/ الصحة.
لقد احتلت مدينة تازة من خلال خطة عسكرية مزدوجة، اعتمدت تقنية الكماشة، حيث جاءتها قوات جرارة من جهة الشرق نازلة من وجدة، بقيادة الجنرال بومغارتن، وجاءتها قوات جرارة أكبر من الجنوب صاعدة من فاس عبر بلدة تيسة بقيادة الجنرال غورو. وما أن وضعت تلك القوات يدها على المدينة ونصبت خيامها عند قلعة البستيون، حتى شرعت في أمرين هامين، الأول تخصيص فرقة كاملة من الجنود لشق طريق السكة الحديدية (حتى قبل شرق الطرق المعبدة) باتجاه مدينة فاس. ثانيها إنشاء أول مستشفى عسكري متنقل بتازة، اختيرت له قاعدة أولية قارة بقلعة البستيون التاريخية، في شهر يونيو من سنة 1914. ففي تقرير مفصل للطبيب العسكري (من القوات البحرية الفرنسية)، الدكتور جون بارنو، خريج كلية الطب بمونبولييه سنة 1924، والذي عين طبيبا رئيسيا للمدينة سنة 1926، يؤكد فيه أنه قد كان لتازة حظ الإستفادة من خلق بنية تحتية جديدة تكون إلزامية لكل مدينة حديثة، سمحت بها طبيعة جغرافيتها الحضرية العتيقة التي كانت موزعة بين جزئين كبيرين، هما حي الجامع الأعظم في سافلتها، وحي قلعة البستيون في الهضبة العلوية، أي أنها مدينة موزعة بين تجمعين سكنيين بينهما مساحات فراغ كبيرة وممتدة. فكان يسيرا، بالتالي، خلق المدينة الجديدة في ذلك الفضاء الفارغ بينهما، بالشروط الواجبة لحفظ الصحة العامة، من مجاري مياه صرف صحي، من شبكة مياه شروب يوفرها صبيب نبع الماء الطبيعي “عين النسا”، ومن مناطق بيئية خضراء دائمة، زرعت بها ألفا شجرة. ما جعلها، بساكنتها التي ظلت تتشكل أساسا من قبائل “تسول” و “بني وراين” و “البرانس”، تعرف تزايدا سكانيا سريعا مكنها في ظرف 15 سنة أن تنتقل إلى 12 ألف نسمة سنة 1929، ثم إلى 15 ألف نسمة في إحصاء 1936، ضمنهم 11 ألف مغربي مسلم، و250 مغربي يهودي، و3500 أروبي وجزائري.
سيتم إنجاز مستشفى حديث، إذن، بالمدينة الجديدة تلك ابتداء من سنة 1916، انطلق مركزا طبيا عسكريا يقدم خدمات طبية مستعجلة للجنود والضباط المصابين في معارك محيط تازة (خاصة بمنطقة بني واراين)، وكذا خدمات طبية للساكنة المدنية المغربية والأروبية. قبل أن يتم توسيعه إلى مستشفى جهوي كبير سنة 1919، يضم 56 سريرا، وبه أجنحة متعددة هي: جناح الطب العام، الذي يتم به التشخيص وكذا تقديم الإسعافات الأولية وإعطاء الحقن (خاصة ضد مرض السل، لأن المنطقة لم تطلها كثيرا جوائح الأوبئة التي كانت تجتاح باقي مناطق المغرب من ملاريا وجدري وتيفويد)، جناح أقسام الجراحة المتنوعة، جناح الإستشفاء بقاعاتها الجماعية والفردية، المقسم إلى قسمين كبيرين واحد للرجال والآخر للنساء (جزء منه خاص بالولادات)، مع حمامات دافئة في كل جناح. وكان الطاقم الطبي يتكون من طبيب رئيسي مديرا عاما، وطبيب مساعد وطبيب عسكري جراح، وممرض رئيسي فرنسي، وممرضين فرنسيين، وأربعة ممرضين مغاربة (تكونوا في المركز الطبي العسكري)، وعمال نظافة مغاربة.
لكن، ما ميز التجربة الطبية الحديثة بتازة، أمر آخر أهم (قيمة ومعنى)، هو تعيين فريق طبي متنقل بضواحي المدينة يجوب مستوصفاتها الجديدة وأسواقها الأسبوعية، سيرأسه في مرحلة الثلاثينات طبيب مغربي شاب من فاس، هو الدكتور عبد المالك فراج (من مواليد 27 مارس 1906)، خريج كلية الطب بباريس سنة 1935. كان ذلك حدثا هائلا غير مسبوق بالمغرب وبالمنطقة، كونه يعتبر ثاني طبيب مغربي متخرج من كليات الطب بفرنسا بعد الدكتور عبد الله منصوري بفاس المتخصص في الأمراض الصدرية وداء السل (الذي سبق وكتبنا عنه). وهو الطبيب المغربي الشاب الذي تمكن من نسج علاقات ثقة هامة مع الساكنة القروية بقبائل التسول وبني واراين والبرانس، مثلما كان مسؤولا عن المستوصف الجديد بمنطقة تاهلة ببلدة مطماطة، الذي أحدث سنة 1934، كان يضم ممرضين مقيمين وضعا جدادات خريطة طبية لكامل تلك المناطق القروية، وخريطة للتلقيحات المنجزة، مما جعل معدل عدد الزيارات الإستشفائية إليه يكون مرتفعا بلغ سنة 1936، ما مجموعه 26 ألف استشارة وتدخلا طبيا.
بينما تؤكد الأرقام الرسمية، في التقرير الذي أنجزه الدكتور جان بارنو، الخاص بالمستشفى الجهوي لمدينة تازة، أن معدل الإستشارات الطبية قد ظل يسجل ارتفاعا سنة بعد سنة، حيث انتقل من 18 ألف استشارة طبية سنة 1921، إلى 44 ألف استشارة سنة 1934، و 144 ألف استشارة طبية سنة 1936. مما يقدم الدليل على الإنفتاح الكبير للساكنة المحلية للمدينة على الخدمات الطبية الحديثة، عنوانا على تبدل في الوعي العمومي بالصحة وشروط المحافظة عليها. فيما بلغت أرقام التطبيب الإستشفائي سنة 1934 ما مجموعه 7 آلاف يوم استشفائي بعد 305 عملية جراحية، وفي سنة 1936، ما مجموعه 11 ألف و740 يوم استشفائي بعد 482 عملية جراحية.
مثلما تم افتتاح مركز رعاية للطفولة المحرومة “قطرة حليب” بتازة ابتداء من سنة 1928، وتطور تجهيزيا أكثر في سنة 1930، برئاسة الدكتور فاين (المتخصص في طب الأطفال)، ثم بعده السيد بيللو، مكن من توفير معدل 19 ألف قنينة رضاعة (بمقابل مادي بسيط) و 45 ألف قنينة حليب مجانية سنة 1929، وانتقل العدد في سنة 1935 إلى 75 ألف قنينة حليب مجانية للأطفال الرضع في وضعية اجتماعية أو إنسانية صعبة، حيث يتم رعاية بعضهم حتى سن الخامسة قبل انتقالهم إلى مصلحة رعاية الأطفال اليتامى أو المتخلى عنهم.
مما يسجل أيضا، أنه مع اتساع المدينة الجديدة ابتداء من سنة 1919، سيصبح لساكنة مدينة تازة أطباء خاصون بعيادات طبية مستقلة، وصل عددها سنة 1930، خمس عيادات طبية، وصيدليتان عصريتان منذ 1915 و 1916، هما صيدلية الدكتور فومي وصيدلية الدكتورة كروازي، وكلاهما خريج كلية الصيدلة بمدينة ليون الفرنسية. وعيادة لطب أسنان وحيدة، افتتحت سنة 1918، للدكتور بريشتو، الذي طورها في سنة 1930، لتصبح عيادة لتقويم الأسنان وتركيبها، عبر استقدامه من فرنسا آليات طبية حديثة تضاهي تلك المتوفرة في كبريات المدن الفرنسية، بشهادة تقرير الطبيب العسكري الدكتور جون بارنو.
كل ذلك، ساهم في خلق طبقة متوسطة جديدة بمدينة تازة، خاصة بعد اتساع نسب المتعلمين فيها ضمن النظام التعليمي الحديث (مؤسستان تربويتان افتتحتا بها منذ 1918)، أدى إلى بروز وعي تقدمي بها باكرا، ظل متواصلا جيلا بعد جيل إلى سنوات التسعينات من القرن الماضي. ولا يمكن تمثل تلك الخصوصية الإجتماعية بمدينة مثل تازة، بدون دراسة علمية رصينة من ضمن مباحث علم الإجتماع، تفكك سلسلة بناء الوعي المديني بها، الذي تأطر من خلال منظومة قيم حداثية برؤية تقدمية.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 18/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *