لماذا تعديل مدونة الأسرة؟

بعد مرور ما يقارب عن 19 سنة من دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق ،وبعد خطاب العرش لصاحب الجلالة الملك محمد السادس بتاريخ 30/07/2022 الذي أكد من خلاله على ضرورة تجاوز السلبيات والاختلالات التي أبانت عنها تجربة تطبيق مدونة الاسرة ، مع إمكانية مراجعة بعض البنود ، التي تم الانحراف بها عن أهدافها،يطفو من جديد النقاش بين مختلف الفاعلين والمهتمين بمقتضيات مدونة الأسرة بغية تعديلها ،فعلى الرغم من أن مدونة الأسرة جاءت بمقتضيات استجابت لحاجيات كانت تفرضها الظروف وقت ذاك حيث ساهمت في تبني صياغة حديثة، كالزواج عوض النكاح، والبناء عوض الدخول والوطء،ومؤخر الصداق عوض كالئ الصداق، والزواج الباطل عوض الزواج المجمع على فساده، والزواج الفاسد عوض الزواج المختلف في فساده، كما عالجت اختلال موازن القوى بين الرجل و المرأة من خلال سنها لمقتضيات أقرت لأول مرة المسؤولية المشتركة للزوجين على الأسرة، وهو الأمر الذي يعطينا مؤشر قوي على النظرة الجديدة للمشرع في موضوع المساواة بين الرجل والمرأة ،كما أقرت الولاية كحق للمرأة الرشيدة تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها، مع اعتبارها أهلا لأن تبرم الزواج بنفسها أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها ،وجعل الطلاق والتطليق حقا يمارسه الزوج والزوجة كل بحسب شروطه وتحت مراقبة القضاء، و اعتبار النيابة العامة طرف أصليا في جميع قضايا تطبيق أحكام مدونه الأسرة،وذلك للحرص على احترام النظام العام وعدم مخالفته.
لكن رغم كل هذه المقتضيات التي جاءت بها مدونة الأسرة وكما أسلفت الذكر أن الساحة تعيش هذه الآونة على إيقاع نقاش حاد منصب حول تعديل بنود مدونة الأسرة، وأمام هذا الحراك والتدافع في الأفكار ،نتساءل كما يتساءل معظم المهتمين لماذا تعديل مدونة الأسرة ؟ثم إن كان الكل مجمع على ضرورة التعديل ،فهل الأمر يتعلق بتعديل جزئي أم إصلاح شمولي ؟ثم هل بتعديل المدونة سيتم تحقيق مطالب الجمعيات النسائية؟ أم أن تحقيق هذه المطالب يجب البحث عنه بعيدا عن تعديل مدونة الأسرة؟ هي أسئلة اظافة إلى أسئلة أخرى تطرح، لكن الجواب عنها يظل معلقا ويحتاج إلى جرأة فكرية وإرادة سياسية .
إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة يجرنا بالضرورة إلى الوقوف عند ابرز الاختلالات التي تعاني منها المدونة بعد مرور أكثر من 19 سنة من التطبيق،وبالنظر إلى حصيلة التطبيق يمكن أن نخلص إلى أن المدونة تعاني من عدة اختلالات والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين؛ اختلالات غير مرتبطة بالنص القانوني، وأخرى مرتبطة بالنص القانوني .
فبالنسبة للنوع الأول من الاختلالات يمكن إجمالها في اختلالين :
الأول :ضعف الجانب الإعلامي والتحسيسي المواكب لتنزيل مدونة الأسرة، وذلك من اجل شرح مقتضياتها حيث تم تداول بعض الشروحات المغلوطة فعلى سبيل المثال لا الحصر ان الذي كان متداول في بداية تطبيق بنود المدونة، استحقاق المطلقة نصف ثروة الزوج والحال ان مستحقاتها محددة،في حين ان هذا المعنى ما هو إلا تطبيق لمقتضيات المادة 49 من المدونة والمتعلق باكتساب الأموال المشتركة بين الزوجين خلال فترة الزواج .
الثاني :عدم الارتقاء بأقسام قضاء الأسرة إلى محاكم متخصصة للأسرة تكون لها موارد بشرية مستقلة من قضاة وكتابة الضبط وكتابة النيابة العامة ،هذا المعطى اثر بشكل كبير على عدم تحقيق أهداف المدونة خاصة على مستوى إجراءات الصلح التي تحتاج إلى وقت كبير والى تفرغ تام من قبل الأجهزة القضائية المكلفة بتطبيق مقتضيات المدونة .
أما بالنسبة للاختلالات المرتبطة بالنص القانوني،فان اولها مرتبط بالمادة 400 من المدونة هذه الأخيرة تشكل بمفردها مدونة، إذ تحيل على المذهب المالكي والاجتهاد في كل ما لم يرد فيه نص، وهو ما أدى إلى تزاحم مدونتين على أرض الواقع؛ مدونة تتكون من 399 مادة مقننة ، ومدونة “عرفية” موزعة على كتب ومصنفات الفقه المالكي لا تستعمل بالضرورة نفس اللغة القانونية، اما ثاني هذه الاختلالات مرتبط بالتوسع في منح السلطة التقديرية للقضاء في بعض الأمور التي كان على المشرع التدخل صراحة و منع إعمال القاضي للسلطة التقديرية بخصوصها ومن ذلك :
ـ تقدير المتعة وإن كان القاضي يسترشد ببعض العناصر التي جاء بها المشرع ،الأمر الذي جعل هذا التقدير يختلف من محكمة لأخرى، حتى وان كانت عناصر التقدير واحدة او متشابهة الأمر الذي خلق نوع من التذمر و زعزعة الثقة لدى النساء المتقاضيات في القضاء.
ـ تقدير مبلغ النفقة وسكنى المحضون وواجبات الأعياد والمناسبات للسلطة التقدير أمر غير مرغوب فيه.
ـ عدم توحيد المحاكم في تطبيق بعض المقتضيات،إذ اختلفت في تفسيرها ومن ذلك المبرر الاستثنائي أو الموضوعي لمنح التعدد، حيث ذهبت بعض الأحكام إلى اعتبار إصابة المرأة بداء السكري مبررا موضوعيا وأخرى إلى عدم إنجابها الذكور يعتبر مبررا موضوعيا.
وإذا كانت الاختلالات السابقة ناجمة عن سماح المدونة للقاضي لإعمال سلطته التقديرية، في حالة تفسير النص إذا كان غامضا أو مبهما، أو في حالة عدم وجود النص، لكن محكمة النقض ذهبت ابعد من ذلك حيث لم تستعمل سلطتها التقديرية في الحالات السابق ذكرها التي يسمح فيها المشرع بإعمال السلطة التقديرية، وإنما خرجت عن صراحة النص وأقرت اجتهادا أصبح هو القاعدة المعمول به من قبل كل محاكم المملكة، هو حرمان الزوجة المدعية التي تطلب تطليقها للشقاق من حقها في المتعة،على الرغم من أن النص القانوني صريحا يعطيها الحق في الحصول على المتعة سواء كانت طالبة للتطليق للشقاق أو مطلوبة.
ومجمل القول كثيرة هي الاعطاب التي تعاني منها المدونة، سواء اعطاب مرتبطة بصياغة النص أو في تنزيله ويضيق بنا المقام في تعدادها،هذه الاعطاب أو الاختلالات تعتبر سندا مشروعا وحجة قطعية ومبرر للمطالبة بفتح ورش الإصلاح بغية تجويد المدونة وجعلها مسايرة لمتطلبات العصر لتوطيد الاستقرار الاجتماعي، والنهوض بوضعية المرأة والأسرة؛ وتعزيز قدرات الاقتصاد الوطني، وهو أمر ممكن التحقيق الآن ودون المساس بخصوصية النظام العام المغربي، وذلك من خلال فتح نقاش هادئ وعميق ومسؤول يسمح بإيجاد نصوص قانونية من شأنها تحقيق التوازن الأسري المنشود في كافة المجالات، من زواج وطلاق ونفقة وغيرها.
وإسهاما منا في هذا النقاش العمومي، وبعد استعراض الاعطاب التي تشوب المدونة ومن موقعنا كممارس وباحث اقترح بعض الاقتراحات حول الإصلاح؛
ـ ضرورة توحيد إجراءات الطلاق والتطليق و وضع بعض العناصر الثابتة التي يسترشد بها القاضي في تحديد المستحقات المالية المترتبة عن إنهاء لعلاقة الزوجية وذلك لتلافي ذلك الاختلاف الحاصل بين المحاكم في كيفية تحديد المستحقات.
ـ إقرار المساواة بين الأم والأب في كل ما يتعلق بتدبير مصالح الأطفال المعنوية والمادية من دون تمييز أو أولوية لأحد منهما وتحت مراقبة القضاء.
ـ توحيد سن الزواج في 18 سنة مع حذف الاستثناء.
ـ خلق مؤسسات ترصد لها موارد مالية من أجل المواكبة والمصاحبة المادية والمعنوية للنساء المطلقات مع إعطاء الحق لهذه المؤسسات استرجاع المبالغ المالية التي أدتها من بين يدي الزوج وذلك حماية وحفاظا على الأسرة من التفكك والانحراف، وأيضا لتجنيب الزوجة أو المطلقة الحاضنة سلوك مساطر قضائية قد ستغرق وقتا طويلا وتكاليف مالية ومن دون الوصول إلى الحصول على المستحقات المالية المتخلذة في ذمة الزوج بسبب تهرب أو تماطل هذا الأخير عن الأداء وذلك تفعيلا للفصل 32 من الدستور حيث حسب هذا الفصل تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة.
تلكم بعض الاقتراحات التي نعتبرها من منظورنا الشخصي ذات الأهمية،والتي يمكن من خلالها اغناء النقاش،على أمل الوصول في نهاية المطاف إلى مجموعة من الاقتراحات بغية تجويد وملائمة النص القانوني مع الاتفاقية الدولية التي صادق عليها المغرب خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان،وأيضا لوضع نص قانون يواكب التغيرات السريعة الحاصلة داخل المجتمع المغربي عامة و الأسرة المغربية خاصة.
إن إصلاح مدونة الأسرة باعتبارها نصا شرعيا، لن يتأتى إلا من خلال خلق نقاش هادئ وهادف يكون منطلقه الأساسي هو حماية الأسرة المغربية وتحقيق المصلحة الفضلى للطفل، واعتقد أن مبادرة الإصلاح لا يمكن أن تخرج عن السيناريوهات ،أو الخيارات التالية:
فقد يتم تفعيلها من خلال تدخل ملكي بتكوين لجنة استشارية لاقتراح مراجعة  المدونة ، تفعيلا لدور المؤسسة الملكية كجهة يبقى لها الاختصاص الفعلي في تحريك المبادرة التشريعية في هذا الموضوع تفعيلا لمؤسسة إمارة المؤمنين،أو قد تأتي المبادرة من طرف البرلمان أو الحكومة،أو قد تأتي المبادرة أيضا من خلال تفعيل مؤسستين دستوريتين جاء بهما دستور 2011 وهي فرصة ومناسبة لتفعيل دورهما على ارض الواقع في اغناء القرار العمومي، ويتعلق الأمر بالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة المنصوص عليه في الفصل 169 من الدستور ،وهيئة المناصفة ومكافحة كلّ أشكال التمييز خاصة وأن القانون يجعل من بين اختصاصاتهما تتبّع ملائمة التشريعات والبرامج الوطنية التي تهمّ الأسرة والطفولة و تقديم الاقتراحات أو التوصيات للحكومة أو البرلمان.
مجمل القول، لا يختلف اثنان حول أن المجتمع المغربي راكم رصيدا محترما من تدبير الحوار المجتمعي وتدبير الاختلاف، مما يجعله يدبر لحظات النقاش العمومي بشكل يخدم مصلحة هذا الوطن ،لان الهدف في نهاية المطاف، هو البحث عن الحلول والمقاربات الأسلم والأقرب إلى الصواب في ظل مجتمع له خصوصياته التاريخية والثقافية والحضارية.

المحامي بهيئة سطات
دكتور في الحقوق
أستاذ زائر بكلية الحقوق سطات


الكاتب : من إعداد:الأستاذ نشاط محمد *

  

بتاريخ : 08/03/2023