نصوص : الأرض

 

صباحا. إن الأرض تعطي لمن يعطيها. قال أبي ذلك بنفس النبرة التي قالها له أبوه. إننا نتوارث الكلام. أبول على الأرض الجافة. لن يرويها شيء. لقد توقفت عن منحي غلتها منذ سنوات. أحمل حجرا وأضرب به بعيدا محولا اتجاه قطيع الغنم إلى جانب الشاطئ. لنشعر جميعا بذلك الرذاذ على الأقل. الماء المالح الذي سال فوق وجه أبي وهو يودع أرضه. كان اليوم يوم أربعاء. حاولت أن أقلم أظافره مثلما أفعل منذ فقد بصره، لكنه طلب مني أن أرافقه إلى الأرض مشى بخطوات العارف بكل تجاعيدها. لقد زرعها عاما بعد عام، واسها كلما أنّت، أطعمها السماد، ربّتَ على نباتها، كتب لها تعاويذا، وفقط عندما كان مزاجه رائقا غنى لها. أبي الآن بأصابع طويلة ودقيقة وممتلئة بآثار صراعه مع الأرض، بأظافر خشنة وصفراء. يسألني عن شجرة التين، «إنها بخير» أكذب. يتوقف أمامها ويتمتم «تنوين الرحيل إذن؟». لم يخض أبي صراعا إلا لأجل الأرض. حمل معوله في وجه المقاول الذي أتى ليحصد حجر الأرض. الرخام مرتفع الثمن. لم ينتبه أحد في قريتنا إليه. كانوا منشغلين بالزرع. يسمحون للتلال أن تعري صدرها للريح. يزورنها بقطيع غنم، يزورنها لتقديم قربان حب للأرض وللسماء وللأشياء. ولكن اتضح أن للحجارة ثمن مرتفع. وذهبَ ذهبُ الأرض إلى رجل لا لا يعرف الأرض ولا طيبها. قال أبي «باعوا كلي شيء، بقي ماء البحر فقط». مسح ظهر البقرة وتحسس عشورها. إنها ولود وحلوب. إنها سليلة فصيلة رباها والده، حتى عندما اشترينا بقرات جلبناها من وراء البحر، ظل لونها الذهبي يجذبنا جميعا، وتقسم أمي إن ليس هناك من لبن أفضل من لبنها وأنه يداوي ألم الحياة كيفما كان. لم تلبس أمي ثوب الحداد الأبيض. من يحلب البقر ويحفر جوف الأرض ليزرعها، لا يقبل البياض. تلبس أمي ألوانها الفاقعة، تفرح بها وتحزن. قالت لي «لا تحمل ضغينة لنبات الله، رزق الله»، وحملت رغم ظهرها المنحني، سطلا من الماء ودارت به على الشتلات الصغيرة تبللها. وعندما اقتربتُ أحمل إليها قطعة خبز ساخن أعدته زوجتي، اقتسمتها معي، وجلسنا نأكل ونراقب رقص السنونوات قبل المغيب. «لا يضيقن قلبك، لا بد أن لله حكمة فيما يفعله بعباده». كنت أفكر بزوجتي تركض من مكان إلى آخر، قالت منذ يومين، عندما وضعت أخيرا رأسها على وسادة الليل، «إنهم أربعة وفتاة، ماذا نفعل بهم ولهم؟» كانت قد كحلت عينيها مثلما تفعل كل مساء قبل النوم، أنظر إليها وأشتهيها، يجعلني الحزن الذي يسكن قلبها أضمها قريبا إلى قلبي. إنني مثلك خائف، أريد أن أقول لها. ولكنني حجر بلا ثمن. أصمت فقط. أسمع وأصمت. أحيانا أخبر البحر أنني غاضب ومتعب وخائف. ظهرا. إن الظهيرة ليل الرعاة، وإذ لا يفي الماء بعطش الأرض ولم تعد بي حاجة إلى زرع أكثر من حقلين متوسطين بخضار لا تكفي طاولتنا، أحمل كسرة خبز وأرافق قطيع الغنم في رحلة بحثه عن القوت. لا أسمع صوت مفاصلي وهي تئن. أسمع أبنائي يحفظون دروسهم ويتناقلون بينهم العلم. «سيجدون حلا» قلت لزوجتي في المساء. «إنهم يتعلمون». مساءً. كنتُ أحب كل مواقيت اليوم. ولكن منذ أصابني الكبر، صرت أفضل المساء. نعود أنا والقطيع بخطوات متعبة إلى البيت. نمر بالشاطئ، ننظر قليلا إلى المغيب ثم نسرع الخطى. إيابنا اليومي يشعرني بالثقل. أحمل أحيانا شاة آلمت ساقها. أحيانا أحمل حملا ولد قبل قليل. إنه قطيع ضعيف البنية. مر الطبيب البيطري وحقنه بالأدوية. لم يمر طبيب ليحقن مرض أمي بالدواء فماتت. قالت زوجتي «إنهم أربعة وفتاة». في ركن الغرفة الرئيسية للبيت، في الدولاب الخشبي حيث يعلقون ملابسهم، وضعوا شهاداتهم الواحد تلو الآخر. خمسة أوراق محفوظة هناك بكامل العناية. عندما ذهبت إلى التل في الأسبوع الماضي كانوا قد وضعوا حوله سياجا. والتل الذي كان يبدو مهيبا صار منقوص الجناح، رث المظهر ومغبر الغطاء. صباحا. إنها دورة الحياة قلت للشاة التي يبدو أنها فقدت حليبها. لم يرغب أحد بشرائها. وزوجتي قالت إنها لن تأكل لحم أم. إننا رفيقان الآن، شاة عجوز وشيخ. أحيانا تعاندني وتزيغ بعيدا. «عودي يا مجنونة»، صرخت بها. ولكنها اقتربت من الماء. «إنه مالح»، ولكنها ظلت واقفة هناك. «فهل يؤرقك الرحيل أيضا؟». واقتربت. كنت متعبا لذا خطوت بمهل. لم أنم جيدا منذ أسبوع. تجلس زوجتي على السرير وتقول «لقد رحلا، غادرا هذه الأرض››. اقتربتُ فأتت إلي الشاة واحتكت بساقي. «لابأس» قلتُ. لاااا… الماء المالح الميتُ المميتُ لفظ أجسادا. «لا بأس أيتها الأرض»، قلتُ وأنا أنحني وألتهم التراب.


الكاتب : فاطمة الزهراء الرغيوي

  

بتاريخ : 04/10/2019

أخبار مرتبطة

  “لا معنى لمكان دون هوية “. هكذا اختتم عبد الرحمان شكيب سيرته الروائية في رحلة امتدت عبر دروب الفضاء الضيق

  (باحثة بماستر الإعلام الجديد ، والتسويق الرقمي -جامعة ابن طفيل – القنيطرة) حدد الأستاذ عبد الإله براكسا، عميد كلية

  في إطار أنشطتها المتعلقة بضيف الشهر، تستضيف جامعة المبدعين المغاربة، الشاعر محمد بوجبيري في لقاء مفتوح حول تجربيته الشعرية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *