سياسة الدولة في الجزائر، في صورة «عَرَنْسية» الرئيس

طالع السعود الأطلسي

لقاء السيد عبد المجيد تبون مع ثمانية عشر صحفيا وصحفيتين، من بلاده، وبصفته رئيسا للجزائر، والذي أُجْري يوم 3 ماي وبُثّ مساء 6 ماي الجاري، «مُمْتع» ومفيد بمخرجاته، حول وضعية الرئاسة والصحافة معا في «البلد القارة»، كما يصفه الرئيس، اللقاء ختمه السيد تبون، وكأن الحقّ أنطقه، بقوله إن «الجزائر كبيرة ونحن صغار…». فعلا الجزائر كبيرة بشعبها وبثرواتها، وتُدبّرها قيادة بقياس صغير، على ما تستحقه من مُنجزات وآمال، السيد تبون ردَّدَ، مرات عدة، كلمة «عيب» في اللقاء، كلما وصل الحديث إلى قطاع اجتماعي، «عيب» أن تستورد الجزائر، السكر، الزيت والحبوب، «عيب» أن لا تكون للجزائر خطوط طيران، مباشرة، مع بلدان إفريقية، أن لا يكون لها مكاتب صحفية في عواصم مُهمة، إفريقية وأوروبية، عيب أن لا يكون للصحافة هيئة، تُمثل مُمَارسيها، في علاقتهم بالدولة، وعيوب فرعية أخرى أفصح عنها السيّد تبون وهو يُكرّر، كلما أتيحت له الفرصة، بأن الجزائر دولة ذات شَأْن عالمي «فحيثُما تضع قدمها تقوم القيامة، والأحداث العالمية لا تقع بدون صلة ما بالجزائر…». واضح أن الرّجل مُتأثّر برصيد خدمته في الإدارة، كموظف وإلى أن بلغ درجة وزير، بحيث كان مُرتاحا وهو يتحدث في تفاصيل فلاحية من ذاكرته، حين كان مسؤولا في ولايات، وأيضا كان مُنْتَشيا وهو يستعرض «ثقافتَه» الصحفية، من بعض ما علق به من معرفته وهو وزير في القطاع، غير أن الأحداث العالمية، في وقائعها وفي اتجاهاتها، تبدو خارج اختصاصه، ولا أحد سيأخذ إثارته «للأحداث العالمية» مَأخَذَ الجدّ، فلا يبدو أنه يتابعها، ولا هي على صلة بالجزائر وبدور قيادتها العسكرية…
أثيرت في اللقاء «أزمة الذاكرة»، في علاقات الجزائر مع فرنسا، وكاد السيد تبون أن يقف وهو يُعلن صَرامته في الإصْرار على فتح كل أروقة «الذاكرة» الاستعمارية تلك، وكان منفعلا في ذلك، وهو يُعبِّر عن ذلك مرة بفرنسية مقبولة، ومرات «بعرنسية» مُضْطَربة، وهي اللغة التي سادت اللقاء، والعرنسية، هي ذلك الكلام الذي يَخْلط بين جمل بالعربية وأخرى بالفرنسية ليصبح الحاصل «لَخْبَطة» وَرَطَانة وإبْطَالا مُتَبادلا للمعنى بين اللغتين. وكان المغفور له الملك الحسن الثاني، في خطاب له في غشت 1994 قد حذّر من مفاسد ممارسة ذلك الخلط على التنشئة الثقافية، وقال إنه يُحبِّذ المَزْج بين اللغتين العربية والأمازيغية على الخلط بين العربية ولغة أجنبية أخرى، رُبّما أن الحظ لم يُسعف السيد تبون لسماع الخطاب الملكي، أيامها، ولعل العَتَب في ذلك على ذاكرة السيد المكلف برئاسة الجزائر، والمحشوة بلغة المستعمر، حتى وهو يتحدث أمام «أصدقائه» من صحافة بلاده، وأكثرهم تحدث بلغة عربية دقيقة وواضحة، وكلامُه كان مُوجّها لشعبه، والذي يعتز بلغتيه العربية والأمازيغية، ولعلّه يعرف أن مسألة اللغة سيادية وحمولتها قويّة حين ترتبط بممارسة وظيفة متصلة برئاسة الدولة، والذاكرة، كما أتصور أن السيد تبون يكون قد أفهم، هي وقائع، مسميات وأحداث في مسار طويل، وحصيلتها تُشكِّل مرجعية ثقافية، والثقافة، وسيلتها ومضمونها لغة، ولهذا فالعيب الذي لم يقله السيد تبون، هو استعارته للغة «المُستعمر» وارتياحُه فيها وهو يعبر عن مشاغل و»عيوب» بلده وأمام مواطنيه، واللهم لا شَماته، الذاكرة مع المُسْتعمر لن تَتَحرّر كُلِّية ما دامت لغته تسْري في اللِّسان مَسْرى اللغة المرجع، واضح أن الذاكرة لدى «نُخبة» القيادة الجزائرية مُثقلة بالترسُّبات النفسية… للعلاقة بين المستعمر وبين مستعمريه، وهي تولِّد حالات من التجاذبات النفسية، مابين النُّفور والتعلُّق، ما بين الرّفض والتشبُّه، ولعل ذلك ما «يفسر»، إلى جانب العوامل السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، أن القيادة الجزائرية، كلما استدعت سفيرها للتّشاور، انفعالا مع «جرأة» فرنسية على الدولة الجزائرية، إلا وأعادته إلى موقعه، دون توصُّلها باعتذار أو تراجع فرنسي، هي لا تقوى على طول «هَجْر» الدولة الفرنسية لها، ومع ذلك «تُخاصمها» وتُشَاكِس ضِدَّها، وهي الْتِباسات ووضعيات نفسية، واضح أن الجهات الفرنسية تفهمُها وتتفَهَّمُها، ولذلك لا تقطع صِلاتها مع الجزائر كلية، ولا تفتحها معها كلية…
يهمُّنا من موضوع الذاكرة الذي فتحه السيد تبون في لقائه مع صحافة بلاده، ذاكرة الكفاح التحرري الجزائري وموقع الإسْناد المغربي له، هل يَذْكُره السيد «الرئيس»، أليس لصمود الشعب الجزائري ولجبهة تحريره الوطني دعامة وطنية مغربية، تستحق أن يكون لها اعتبار مُضيء ومُقدَّر في الذاكرة الوطنية الجزائرية، ذلك المشترك الكفاحي، والذي اتَّسم بالآمال المغاربية العريضة، أفرَغَتْه القيادة الجزائرية من كلّ روابطه والمحفزات على استمراره وتجدده، و»فقست» في مستقبله «وَرَمًا» انفصاليا، أضْحى خطرُه عليها أقوى من خطره على من زُرِع ضِدَّه، وذلك من نتاج تضييع التَّفعيل الصحيح والقويم للذاكرة الوطنية الجزائرية…
السيد «الرئيس» في «دَرْدَشَتِهِ» مع أَصْدِقائه في الصحافة الجزائرية، أصرَّ على التعبير «بالعَرَنْسية» عن مَكْنوناته السياسية، ومن خلال تلك «العَجينة» اللّغوية كشف «اسْتقرار» الدولة في عدم اكتمال بناء مُقوماتها وهياكلها، بل إن الهَجَانَةَ مُمَيِّزةٌ لها، كل القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والديبلوماسية، التي وصلها نقاش الرَّئيس والزُّملاء، ناقصة أو معطوبة في تكوينها. هي «دولة قيد التشكُّل،» عصابة تُلْغي إرث العصابة السابقة عليها، وتقول إنها من سَتَبْني الجزائر الجديدة…

ولنأخذ مثالا بالصحافة، في اللِّقاء، توضح بأن الصحافة تحتاج إلى إعادة ترتيب وبناء في بِنْياتها القانونية، المُقاولاتية، الاقتصادية وحتى في مناهجها التحريرية، وجهت لها انتقادات بالجملة، الرئيس نفسُه قال عنْها إنها لا تُواكب إصلاحات العهد الجديد، وذهبت جل المُداخلات، أمام الرئيس، إلى ضرورة تقوية حماية الدَّولة للصحافة، واستمرار احتضانها، وأيضا، مساعدتها على التخلُّص من مَحَلِّيَتِها، نحو إعدادها للحضور المُؤثِّر عالميا، وكالة الأنباء الجزائرية، وهي «الأَعْرَفُ» بِحال صحافة بَلدها، سَتُعلِّق على مُخْرَجات اللقاء مع الرئيس مُبشِّرة بعهد جديد لممارسة الصحافة «خلافا لِمَاضٍ ليس بالبعيد، كانت الصحافة مُهَمَّشة ودورُها محصور في مُجرد أداة بيد السُّلطة»، يَبْدو لي بأن ذلك الماضي القريب، سيبقى هو الحاضر المعيش، لا بل إن قانون الإعلام الجديد، الذي شرح الرئيس أنه أوْقَف المداولات حولَه داخل مجلس الوزراء ثلاث مرات لإعادة صياغته، هو اليوم محطّ خلاف، عجيب ودال، في البرلمان، استدعى تشكيل لجنة برلمانية خاصّة، نادرا ما تُشَكّل، بين غرفتي البرلمان، للحسْم في خلاف حول مضمون مادة واحدة، المادة 22، بسبب «الآجال المقترحة للبت في اعتماد الصحافة الأجنبية»، خلافٌ من منطلق أمني، بين من يقترح ثلاثين يوما، وبين من يراها أجلا قصيرا لا يسمح للأجهزة بالتأكد من هُوّية الصحفي الأجنبي، وهو خلاف يُبَيّن نوعية الهواجس التي تَتَحَكّم في قانون لتنظيم المهنة. مهنةٌ يُفترض أن تكون من روافع الديمقراطية في البلد، ولكن هيهات، القيادة العسكرية الجزائرية لن تَدَعَهَا وشَأنُها، هي تُريدها في خدمة شأنها هي، ولا شأن لتلك القيادة ولا مَشْغَلَةَ ولا عَدوّا سوى المغرب، وإذا كانت في تدبير الشأن الجزائري العام مُطْمَئِنَّة لفائض عائدات الطاقة الأحفورية، لتتمكن من إطفاء الحرائق التنموية، فلا تُبالي وتَخلط وتَخبط و» تُعرنس»، كما تشاء ولِما يُفيد مصالح الجنرالات النافذين، فهي في عداوَتها للمغرب على أتَمّ الوُضوح وتزن تلك العداوَة بميزان استراتيجي بعيد المدى. عداوة المغرب في جِذْر وُجودِها، وواحدة من ساحات حربها ضد المغرب الساحة الإعلامية وخاصة منها الصحافة الجزائرية، لأن أكثرَها يُطاوِعُها في تلك البَغْضَاء، ومنها مَن «يُبْدِع» في تلك الخدمة للجنرالات، بل أدْمَنَها وبَات لا يُطيق سواها، في عديد وسائل الإعلام الجزائرية، وأبرزها مُؤَسَّسة «الشروق».
صحيفة «الشروق»، وهي المُوَجَّهة بالمغناطيس العسكري الجزائري، من فَرْطِ مُمَارَسَتِها للْعَداء ضِدّ المغرب، ولافْتعال مُوَاجهته، باتت تتوسل بالمجهر للتنقيب على ما يُشفي غَليل غَيْضِها ضد المغرب، ذهبت إلى أبعد مدى وبالتحديد، إلى البطولة الفرنسية لكرة القدم، إلى مُقابلة نيس ضدّ رين، والتي انتهت بفوز نيس بإصابتين لواحدة، من تلك المقابلة، حتى وفيها لاعبين جزائريين، اهتَمَّت، جريدة «الشروق»، بمراوغة يوسف عطال الجزائري للمهاجم المغربي إبراهيم صلاح، وكتبت عنها، «لمَّا يُهين مدافع جزائري مهاجما مغربيا،» هي مراوغة، تحدث منها في كل المقابلات العشرات، ولا أحد يُمَيِّزها في تحليل المقابلات، وحدها جريدة «الشروق» الجزائرية، المشحونة بالعداء ضد المغرب، من يُنَقِّب عن أي مادة للقول إن الجزائري يتفوق على المغربي، ولِيَتَلَذّذ «بتسجيل إهانة» ضد المغرب، حتى ولو كان ذلك في مُراوغات كروية، تعرّض لمثيلاتها اللاعبون الجزائريون آلاف المرات، داخل وخارج الجزائر… إنها مجرد عينة على الدرجة الدُّنْيَا من السّخافة، وهي في الآن نفسه، عطش مرضي لأي انتصار ضد المغرب، مهما كان عاديا وعابرا وعرضيا ومُفتعلا ومُضَخّما، حالة مرضية تعكس فقر تلك الصحافة، ومَن يُوَجِّهُها للانتصارات الحقيقية، فتُعَوِّضُها بهِجَاء سَخيف، للمنتصر الحقيقي، يسكن بعض أوجاع حقدها …
بخَلْط لغوي أو بدونه، القيادة العسكرية الجزائرية تقود بلادها بغموض والْتِباسات سياسية، على شاكلة خليط «العرنسية»، ولهذا لا يتحقق التّراكُم التنموي المفروض أن تتمتع به بلاد عائدات الطاقة فيها هائلةُ، وهي فعلا بلاد كبيرة، وقيادتها مُصابة بالهُزال، داء مُسْتَفْحِل فيها ويُفاقم منه انْشغالها بمصالحها وبسُعار حقدها على الأخ والجار المغربي، للأسف…
عن صحيفة «العرب»، في لندن

الكاتب : طالع السعود الأطلسي - بتاريخ : 12/05/2023

التعليقات مغلقة.