عائدٌ من فلسطين بيقين، أنه شعبٌ صامدٌ لا يُضام

 أحمد المديني

 

1
اسمُها ولاء، وهي لألاء. صوتُها سواء قالت نعم أو لا نَكهتُه زعترٌ بلديٌّ ونبرتُه ضياء، ومشيتهُا كما يمشي الوَجي الوحِلُ يقودها أنفها الشّمَمُ لِواء. سرت خلفها وأنا أستدعي مذ نطقت بالعربية الأسماء، فلم أجد لمثلها نظيراً وكيف بَعدها يكون لقلبي منها شفاء. كلاّ، ما أنا اليَقتفي السجعةَ أو يثغو مثل القطيع من الألف إلى الياء، لكنها لألاء، أُرسِلت لي، وحق جميع الأنبياء.
2
تلك هي المقدسيةُ لمّا قادتني خطوةً، خطوة، وطوتني من أول وهلة، في أريج نظرة، فحسِبت أنّي قد شُغِلت عنيّ، وهي تطوف بي بين نعيمها والفداء، ذلك أن القدس أجلّ من أن تباع أو تُشرى، هي كوكب في العلياء، هي بُشرى، لا يدخلها إلا المطهّرون، لن تكون بلاد صهيون. لعلّي أبالغ، ما الوفاءُ اليوم إلا قولٌ هراء، أمّا الخيانة فقد باتت خردة تالفة من بضاعة القدماء.
3
مِن زمنٍ لا اذكرُه تردّدَ وسمعتُ النداء، بحَّةٌ في الصوت، وحُرقةٌ في الصدر وحكايةُ ابتلاء. ربما في فاس حيث يُشرب أول كأس للعروبة، يُصرَع العشاق، وتوهَب الأندلس في لثغة حرف وعلى خدّ عذراء، قالت التي خطفتني برقصة الرّاء حسِبتها مرقى إلى السماء، أنا كنت وأهلي في القدس، وستبقى مَحجِّي إلى يوم رَمسي، عشقي كان أمس، اصعَد إليّ فأنا الجوزاء!
4
يشهد لله أني رَقِيت إليها وتحلّب ريقي حتى صار هواها رحيقي، أتنسّم خيالها من ألفِ فرسخٍ فأقول هذا طريقي، لا أفكر هل أمشي في واقع أم أسبح في خيال، كلُّ ما أذكر أني مستعذبٌ هذا العطش الجلال، أنا لمّا صليت في المسجد الأقصى، قالت، صرتُ فاطمة الزهراء ومريم العذراء، وأولئك لا اسم لهم، لا يعنيني تاريخُهم، تيهُهم، سأتيه بك لو أخرجتنا من هذه التّيْهاء.
5
ما كلُّ ما يتمنى العاشق يُدركه. خسرتُ الرهان. عُلِّقت مثل المسيح على خشبة، وطُفت بروحي تطرُق الأبواب التي سمَّتها لولوج رحاب الأقصى المبارك: باب الأسباط، باب العتم، باب القطّانين، باب السلسلة، إلى بلوغي باب المغاربة، قلت هنا سيُبعث الرجاء، سينشرح الخاطر أخيراً وأطير فرِحاً في الهواء، عبثاً، كان صرحا من خيال فهوى، طارت شعاعاً وعزّ اللقاء.
6
لما وصلنا من مكة، قالت، لا يكمُل حجُّنا إلا بالصلاة في أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومن صخرته في حرمه المقدس عرج النبي(ص) إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج. حجَجْنا إليه ونبضُ القلب ارتجاج، حططنا رِحلنا في أرض قيل لنا هذه أيها المغاربة أرضكُم بابُها مفتوح بلا رتاج، أقمنا فيها أزمنة وذات عام جعلونا كعَصْف مأكول، فغصبونا عُرباً ومغاربة.
7
احمِل لي حفنةَ ترابٍ من تلك الأرض المقدسة الفيحاء، وكما بشّر موسى أهله: « امكثوا إنّي آنست نارا لعلي آتيكم بها من قبَس أو أجد على النار هُدىً» اقبس لي من القبة ضوءا ينير لنا ديجورنا الطويل ولعله يكون لنا هادياً، وأمسح به صدري يغسلني طُهرا بين شَفعي ووِتري، هو ذا يا سِبط الرسول مَهري، أما لو حررت بابي أخذت لي ثأري، فأنت أهلي وسلافة عمري.
8
كنتُ ملءَ الطيش فلم أحترم وعدي، كان الرِّهانُ أصعبَ من وُكدي، وربِّ الكعبة كان وُدِّي. الكلماتُ التي سكنتني يومَها حرائق، ولا وطنٌ واحدٌ أعرفه بمناطق، العرَب أنا، والعربي أكبر من كل قطر، الرِّقاب فيه معلقةٌ والأوطان أسماؤها راياتُها متعددةٌ والأبوابُ مرصّعةٌ بالمشانق.
كانت فلسطين في البداية وطنا، نُكبت فاشتعلت ثورة، ثم تناهشها العربان استعاروها بيارق.
9
لم أنكث بعهدي، فقد بقيتِ رايةً خفاقةً في دمي، جيشا لا يرضى بالعودة إلا منتصراً، جبينكِ الثغرُجاثٍ صوب القبلة والإهابُ الشامخ فيك لا يسجد إلا للواحد القهار، العنق نحو الأفق مشرئبٌ، والكلم الحَرونُ مستتِبٌّ، وأنا بينهما بينكما ليلي نهاري أتقلّب على سرير من نار، أصنع من كيمياء العزلة والهزيمة تلو الهزيمة مجازات انتصار، صوتي مُدوٍّ وأنا الغضِبُ.
10
الإسم لألاء. كلّي لها ولاء. صوتُها، مشيتُها، أرفعُ الشِّيَم. تلك هي المقدسيةُ من حوّلت الحلم حقيقة، هي والقدس أختي الشقيقة. للمرة الرابعة أزورها وهذه الأولى أراها ملء البصر والبصيرة. في العام الأول انخطفت. هذَيت مثل مصروع، وبين الصخرة والمحراب تجلّى لي جلّ أن يُسمى تتبعه جحافل المؤمنين من كل الأبواب، من باب المغاربة تبدأ تُكتب سيرة.
11
ثم قادتني عبر دروب المدينة العربية، أرى المقدسيين في بيع وشراء، وقنوت ودعاء، قانعين بما آتاهم ربُّهم يكتُمون الشقاء، وأمام الغاصبين لديارهم يعُضّون على نواجد البقاء. «هل تقبل أن تُحتل فاس أو يُعقل أن ُتغصب مراكش، كذلك قدسنا؟!»، أوجعني ساقي عصير العرقسوس، «ولدنا فيها وهنا حتى آخر نطفة نموت»، لن يفنينا اليهود أبدا فأرواحنا تتناسل في السماء!
12
ذهبت إلى فلسطين للمرة الرابعة، إلى أريحا ورام لله والخليل والقدس وبيت لحم ونابلس وحيث كل حفنة تراب تشهق أنا فلسطينية، عنها أعتزّ بكتابي» أشواق الرحلة المغربية». أمس واليوم رأيتهم يعيشون ويكدحون ويحبون والقتل لهم بالمرصاد في كل زاوية وحين، يُشيَّعون بالزغاريد والمحتلون يدٌ على الزناد يَعجبون يروهم يخرجون من القبور ليستشهدوا من جديد.
13
أقول أخيراً وليس آخراً، ما فلسطين ورقة توت لسَتر عار. هي قضيةُ شعب غُصبت أرضُه فثار، ولن يُسلّمَ يستسلمَ حتى ولو خرقت جدران الفصل الإسرائيلي الأرض والصدور يموت الكبار ويتلوهم الصغار. أيقنت أنه شعب لا يضام له عقيدته ويحمل كفنه وهو يمشي ولن يبيع الدار. لنتركه إذن لشأنه، وراء حقه، لينفع القول إن لم ينفع الحال، فهذا آخر شعب من الأحرار.

الكاتب :  أحمد المديني - بتاريخ : 03/08/2022

التعليقات مغلقة.