كيف تعلّمنا الكلمات الصغيرة وترصّعنا بالكِبرياء

أحمد المديني

نحن الذين وُلدنا في زمن قديم، ومنّا في زمن أقلّ قِدماً، تعلّمنا كلَّ شيء مرّةً، كَرّةً واحدة ًونسِينا أنّا تعلمنا. دخلنا، أُدخلنا إلى(الجامع/لمسيد/ الكُتّاب القرآني) رُمينا فيه فُرادى والتقينا بالعرَمْرَم.وسط هرْج ومرْج سمعنا وكتبنا اللوح، وحفظناه ومحوناه ثم عُدنا خطَطناه. كما وُشِمت على جلودنا قضبانُ زيتون الفقيه كي نحفظ على الغيب السورَ القصارَ ومنها نتدرّج إلى «تبارك الذي بيده المُلك»، فعلا، بيده الملك، تعلّمنا أنه يوتي العلمَ والمُلك من يشاء، إذ (تخرّجنا)، منّا من يحمل في صدره شلالاً يتدفّق بالذِّكر الحكيم، وبعضُنا يهدِر منه آيٌ غزير وكثيرٌ نزْرٌ يسير: كلماتٌ، أسماءٌ، صورٌ، أشكالٌ، ألوانٌ، أصوات، تُصاحبنا من تلك الطفولة البعيدة إلى أن ترافقنا تُنحتَ ذاتَ أجلٍ على شاهدةِ قبر. وحدَها دليلٌ مؤقتٌ على أنّنا وُجدنا.. بعد إذ ينسانا الجميع.
انتقلنا إلى المدرسة الابتدائية ونحن نعرف الأبجدية شكلاً، طبعاً، قبل عهد مقررات المغفور له بوكماخ، سبق لنا أن تعلمنا أن (اللّيف ما يَنقُط)، وفي مدرسة Jules Ferry اللائكية المزدوجة الفرنسية منها كذلك كاللعب، لكنا اكتشفناها الكلمات تُكتب أمامنا في سبورة سوداءَ نظيفةٍ ونحن نظيفون أيضا نجلس خلف طاولات خشبيةٍ متينة الخشب بها ثُقبٌ في زاوية أمامية محبرةٌ نغمس فيها الرّيشةَ فتخرج قد غُطست في حبر بنفسجي ونشرَع في نقل الكلمات من السّبورة هي نفسُها التي حفظناها وتسري في سمعنا ذكّرني بها مروان ابن حبيبنا الرّاحل إدريس الخوري عاد ذات يوم من المدرسة وأنا برفقة أبيه ولمّا سأله ابّا ادريس آش قريت اليوم أجاب:» تبّت يدا»، مثله حفظت الآية ذات عُمر واحتجت إلى سنواتٍ كي أدرك بنيتَها المسجوعة مع سبب النزول.
ذات صباح مدرسي حدث لنا ما أدهشنا وهزّ ثقلَ وركودَ ذُخْرِ الكلمات التي حفظنا من اللّوح تلو اللّوح وبين نسيان واستظهار. دخل معلم العربية وكتب على السبورة ـ بالمناسبة، أمضيت أقوى سنوات عمري في التدريس، ليس أمتعَ وأوسعَ عالماً من الكتابة والشرح على السّبورةـ: تركيب الجمل. مثله كتب معلم الفرنسية: Construction de phraseلنكتشف ونعلم شيئاً فشيئاً لِم تصلُح الكلمة، كيف تمشي وتطيرُ وتلعبُ وترقصُ وتنامُ وتحلمُ وتستيقظُ وتغضب. لنتمرّن أننا ونحن نضُمُّ كلمةً إلى أخرى نجعلهما يتعانقان أو يتخاصمان، أو نصوغ ما يدور في الرأس ويتلجلج في الصدر، وبقدرتنا على حسن التركيب يأتي المعنى واضحاً والشعورُ فصيحاً، في الأخير الجملةُ هي الوجود والذات، البيوت التي نسكن والأسواق التي نمشي فيها، كذلك ما يراودنا من الأحلام بأن نكون غداً، والأسى الأسف أن أمس فات، وهذه أيضاً جملة.
تراثُ الإنسانية العظيم بجميع أجناسها ولغاتها المكتوب منه مجتمِعٌ في جُملٍ محدودةٍ يتنوّع استخدامُها وفق شعائرَ ومُثُلٍ ومبادئَ وأفكارٍ؛ ومشاعرُ الأنبياء والفلاسفة والشعراء والوُعّاظ، والحكواتيون اليوم الروائيون ما انفكّوا يتنافسون في تأليفها بصياغاتٍ وأساليبَ شتّى وهم إنما يبحثون عن الجملة المُثلى تتأتّى بالتركيب المُحكَم للكلمات بدونه تفتقر إلى المعنى الذي يحتاج بدءاً إلى عالم بنُظُمٍ وأنساقٍ وقابليةٍ للفهم واتِّضاحٍ للرؤية بخرائطَ وعلاماتٍ ومنطقٍ كيفما كان. إذا افتقدنا هذه الشروط في حَدِّها الأدنى يتعذّر تركيبُ أيِّ شيء وإمّا فهو تلفيق. انظروا كم من الكتب تصدر في أرجاء الدنيا بآلاف الأطنان يحسب بعضُ واضعيها أنهم يأتون بالنبوءة الأولى ومنهم من يتنابز بالألقاب عن الأسبقية والعبقرية واكتشافه لقانون الجاذبية قبل صدفة وقوع التفاحة على رأس نيوتن، وهي كلّها فسادٌ وركاكةٌ وانتحالٌ لا معنى لا أسلوبَ، لا جُملة.
هذا واحدٌ من أسباب تجعلني أفكّر للعودة إلى البراءات الأولى، لأشرب من النبع، « ما أحلى الرجوعَ إليه»، إلى الكلمة. أريد أن أتوقف عن الكتابة التي تستعمل الجملة، أي تجمع في نسق نحويّ وبلاغي وفكري وعاطفي الكلمات، لأني ما عدت أجد المعنى، وتتشوّش عليّ الرؤية، ولا تغشاني في المنام الرُّؤيا، آخرُها طيف نبّهني إلى ضلالي وخاطبني بلسان عمرو بن معدي كرب(ت 642م):» لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً/ ولكن لا حياة لمن تنادي/ ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت/ ولكن أنت تنفُخُ في رماد». أقول، الرجوعُ إلى الكلمة المفردة، للاختصارِ والرّشقِ مباشرة: رصاصةٌ؛ سجنٌ؛ طاغيةٌ، أرَقٌ؛ قلقٌ؛ غرَقٌ؛ شبقٌ؛ وردةٌ، حُبٌّ، حُلم، فرحٌ؛ حزنٌ؛ خبزٌ، نبيذٌ، لصوصٌ، حريقٌ، غابةٌ، مطرٌ، بحرٌ، عصفورٌ، عشبٌ، خريفٌ، ربيعٌ، مطلقٌ. كفى. ضع هذه الكلمات زناداً وأرسِلها في الهواء وستنهمرُ السماء بالصّور، بطوفان الجُمل.
يقيناً سيرتاح كُتّاب العربية مثلا، يصبحون في حِلٍّ من التعبير، سيرتاحون من الضّمير المتكلم المخاطَب الغائبِ المستترِ، حَطّوا الرّحال، غادروا زمنهم، في بلدانهم وهاجروا منها، سواء أغدقوا أو أسفّوا في القول وكما قال شاعر عراقي(فيصل جاسم) بحق:» كلامٌ كثيرٌ وشعرٌ قليل/ وكلُّ ما قد يقال وما هو من هذا القبيل/ كلامٌ كثير/ كثير/ كثير/ وما هو من هذا القبيل». تقوم الدنيا هنا. يعمُّ الخرابُ هناك. البشر سواءً في عراك، فهم مع أنفسهم وحدها في اشتباك. يضحكون علينا، يستهزؤون إذا سمعوا أنّا كنا، ولم نبرَح، مثقفين عضويين، ما هذا يتساءلون؟ هل هي بطاقات للجنة والنعيم، لركوب طائرات فنحضر مؤتمراتٍ وننزل في فنادق النجوم، ونشحذ، نصفق للعبد قبل السيد ما دام سيدفع؟! اشرَبوا التزامكم في حساء الندم، سُرَّ من غَنِم!
أيها الشامتون، هذا قطارُنا ونحن ركّابُه، وأنتم مهرّجون تبيعون الضحك على الأرصفة تنتظرون الصدقات، ماضٍ بطاقةِ أنفاسنا الساخنة يَغدُّ الطريق، ذاك شهيدٌ، وهذا رفيقٌ، وغدٌ لنا لن يحجبه نعيبُكم جديد. أنتم لا أحد، فابقوا بضاعةً في المزاد، أما البلاد فلها شامخون مثل إرم ذات العماد. ثمّة آخرون يحبون التصفيق لهم في الصباح والمساء، حتى ولو اجتاح البلاء: نحن الحكومة، نحن الدولة، نحن الأمّة، نحن العمران وإلا هو الخلاء، لم يبق إلا أن يزيدوا: نحن نُحيي ونميت. ينتظرون أن ننزل من القطار ونستقيل من الكلام بعد أن عمّ الظلام، وضاعت النخوةُ وبيعوا همُ الأغنام، قد فقدوا القدرة على الكلام، أو بحساب الضّرب تحت الحزام، وما يصِلهم من مال حرام. في سنين البراءة والشجاعة والعنفوان تعلمنا الكلمات الصحيحةَ وكتبنا المعاني الجليلةَ ورصّعنا سماءَ المغرب بالكبرياء؛ أنّى لهم أولاد الحرام!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 10/05/2023

التعليقات مغلقة.