الاشتراكية اليوم ضرورة حتمية لصيانة كرامة الضعفاء

عائشة زكري

 

منذ أن انبثقت فكرة الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي في القرن 19، وهي في صراع مع الرأسمالية باعتبار أن الاشتراكية تؤمن إيمانا راسخا بنهاية الرأسمالية واعتبارها مرحلة تاريخية سيتجاوزها الوعي البشري والفعل الإنساني لأن تلك هي حتمية التاريخ ، زيادة على كونها لا تحقق العدل والمساواة بين الناس .
هذا على الرغم من أننا نجد في عصرنا الحالي تعالي بعض الأصوات والأفكار التي تقدس الرأسمالية وتعتبرها تجسيدا لنهاية التاريخ ( ميشال فوكو ياما ) ، وذلك اعتمادا على الفلسفة الهيجيلية من جهة ، هذه الفلسفة التي رفضها ماركس كفكر وكمضمون وأخذ منها المنهج فقط ، ومن جهة أخرى استشهادا بفشل تجربة معينة .
لكن فشل تجربة ما لا يعني أبدا فشل الفكرة أو النظرية، ثم هل يمكن أن نتحدث عن نجاح ورخاء الرأسمالية ؟:
– إن الواقع الحالي يكذب ذلك .
فما المقصود بالاشتراكية ؟ وما هي تجلياتها داخل المجتمع ؟
– يمكن القول إن الاشتراكية هي تصور معين للمجتمع على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغيره ، انبثقت من صلب الواقع المجتمعي ، وبنظرة واقعية ودراسة علمية لهذا الواقع، وذلك على يد كل من كارل ماركس وفريديريك إنجلز في القرن 19 .( البعد العلمي للنظرية يكشف عنه إنجلز في كتاب :جدليات الطبيعة )
إنها تصور يقوم على الاقتصاد الموجه من طرف الدولة بهدف تقليص الفوارق الطبقية والحد من الحرية الفردية، ومن الملكية الخاصة، وإحلال التضامن والتآزر بدل المنافسة ، والسعي نحو الربح السريع على حساب استغلال الضعفاء وسحقهم .
إن الاشتراكية إذن كنظام اقتصادي واجتماعي له طابع إنساني يتجه نحو الجماعة وليس نحو الفرد .
ومن جهة أخرى هي جزء من الفلسفة الماركسية التي سطرها هؤلاء من خلال دراستهما للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للدول الغربية، وخاصة ألمانيا وانجلترا، ومن خلال نضالهما العملي إلى جانب الطبقات المسحوقة داخل هذه المجتمعات .
إن الماركسية فلسفة عامة شمولية ذات أساس علمي ( كما سبقت الإشارة )، وهي في نفس الوقت مشروع لخلاص البشرية من الظلم والاغتراب الممنهج من طرف الطبقات المسيطرة المالكة لوسائل الإنتاج .
هكذا فالماركسية تتكون من قسمين أساسيين هما : المادية الجدلية والمادية التاريخية .
– المادية الجدلية : وتشكل الجانب النظري من النظرية، والذي ينطلق من تصور مادي للطبيعة والفكر والمجتمع .
والمادة : هي كل موجود له وجود موضوعي قائم بذاته، ولها خاصية أساسية هي أنها دائمة الحركة والتغير، وهو تغير تطوري تقدمي أي إلى الأمام ، مثلا الطبيعة مادة ، المجتمع مادة ، الطبقات الاجتماعية مادة وهكذا .
أما الفكر : فهو ناتج عن المادة وانعكاس لها ، أي أنه معطى ثاني بينما المادة هي معطى أول . يقول ماركس « ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي بل بالعكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم .»
أما كونها جدلية : فمعناه أن العالم وحدة مترابطة وفي حركية دائمة ، ومصدر هذه الحركية والتطور نابع من التناقض الداخلي الموجود في هذه المادة أي في كل أجزاء ومكونات العالم .
أما المادية التاريخية : وهي الجزء الأهم من النظرية الماركسية فهي علم تغير المجتمع، والذي هو وحدة مترابطة وفي تغير دائم أيضا ويحتل فيه النشاط الإنساني والعلاقة مع الغير مكانة مهمة جدا .
ويتكون هذا المجتمع من بنيتين هما : البنية التحتية والبنية الفوقية .
البنية التحتية : وتتكون من مجموع عناصر الإنتاج الاقتصادي المادي وهي :
قوى الإنتاج : وهي كل الوسائل التي يتم الإنتاج بواسطتها ابتداء من الإنسان إلى الأرض إلى المعمل والمصنع والخبرة والآلات والمواد الخام وكل أدوات الإنتاج من أبسطها إلى أكثرها تطورا .
– علاقات الإنتاج :وهي مختلف العلاقات الاجتماعية الناشئة بين الناس خلال عملية الإنتاج، وأهم علاقة في علاقة الإنتاج هي علاقة الملكية، وهي إما علاقة ملكية خاصة أو ملكية جماعية، وعلى غرارها يتحدد شكل المجتمع، فإذا كانت علاقة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي المسيطرة يكون المجتمع طبقيا، وإذا كانت علاقة الملكية الجماعية يكون العكس .
وكيفما كانت قوى الإنتاج تكون علاقات الإنتاج، إذا كانت قوى الإنتاج بسيطة تكون علاقات الإنتاج كذلك، وإلا يكون العكس .
هكذا مثلا، وفي إطار النظام الرأسمالي يتحكم المالكون لوسائل الإنتاج في الأرباح على الرغم من أنهم لا يساهمون في عملية الإنتاج بشكل مباشر عكس الذين لا يملكون إلا قوة عملهم فلا يحصلون إلا قدر قليل منه .
-البنية الفوقية : وهي انعكاس للبنية التحتية، وهي كل أشكال المعرفة والثقافة الموجودة داخل المجتمع من علم وفن ودين وسياسة وفلسفة وأدب وقانون … وغيرها .
-أما المنهج الجدلي : الذي يسير عليه كل شيء في الوجود: الطبيعة والفكر والمجتمع فهو ما يسمى بالديالكتيك، ولقد أخذه ماركس عن هيجل وطرد الأفكار، ووضع المادة معطى أول والفكر معطى ثاني وبذلك قلب هذا الجدل وجعله يمشي على رجله بعدما كان يمشي على رأسه حيث أصبح هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك .
وينطلق الديالكتيك من فكرة أساسية هي : أن لكل شيء نقيض، النقيضان يتصارعان، الصراع يصل إلى تركيب، التركيب يصبح معطى جديدا، يتصارعان، وهكذا دواليك. إذن مراحل الديالكتيك هي : الأطروحة، النقيض، التركيب. هكذا ففكرة التغيير فكرة أساسية وتسير في إطار التطور والتقدم وليس العكس، ويخضع لها الوجود برمته فالحياة صيرورة .
فبالنسبة للمجتمعات الإنسانية انتقلت من المجتمع المشاعي البدائي إلى المجتمع العبيدي إلى المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي ،وحتما سينتقل إلى المجتمع الاشتراكي .
فبالنسبة للمجتمع المشاعي البدائي هو مجتمع شيوعي لكن بطريقة الفطرة لأنه لم تكن هناك وسائل الإنتاج وبذلك انعدمت الطبقات الاجتماعية، كان الإنسان يعيش على ما تعطيه الطبيعة، ولم يكن ينتج شيئا، ولذلك خلا هذا المجتمع من الملكية الخاصة ومن الطبقات الاجتماعية ومن الصراعات والحروب أيضا .
المجتمع العبيدي حيث استفاد الإنسان من خبرته اليومية فبدأ يصنع بعض الأدوات والآلات البسيطة ابتداء من الرمح والقوس مثلا، وبدأ ينتج بواسطتها، فبدأت الفروق تبرز شيئا فشيئا بين هذا الذي ينتج وذاك الذي لا ينتج، وتقوى المنتج بفضل الحنكة والتجربة، وبدأ يستولي على الآخر حيث حوله إلى عبد هذا الذي سيصبح أداة للإنتاج. هكذا أصبح هناك السيد والعبد وتحول المجتمع إلى المجتمع العبيدي.
إذن ظهور التناقضات أدى إلى فسخ النظام القديم ( المشاعية البدائية ) وتحوله إلى نظام جديد حيث أصبح الإنتاج بواسطة العبد الذي أصبح أداة للإنتاج يمكن أن يضرب أو يقتل ولا يثير ذلك أي وخز للضمير .
هذا النظام كان تقدميا بالنسبة للنظام السابق، لأنه حقق حاجيات أكبر للإنسان، لكن حينما تعمقت التناقضات الطبقية نشب الصراع، وأدى هذا الصراع إلى فسخ هذا النظام ( حسب قانون الجدل ) وظهور نظام جديد هو النظام الإقطاعي حيث تطورت الزراعة بشكل كبير، وتحول العبد إلى قن مرتبط بالأراضي الشاسعة يباع ويشترى معها. وتحول السيد إلى النبيل فأصبح هناك طبقتان جديدتان هما طبقة النبلاء وطبقة الأقنان (جمع القن )، ( المجتمع الفيودالي ) .
ونفس ما وقع للنظام السابق سيحدث لهذا النظام أيضا حيث ستتطور أدوات الإنتاج، وتظهر الصناعة والمعامل، ويصبح الإنتاج بواسطة العمال ليظهر النظام الرأسمالي ، وستبرز طبقتان رئيسيتان هما الرأسمالية ( البورجوازية ) وطبقة العمال ( البروليتارية )، وبالتالي سيسود فكر معين يعكس مصالح البورجوازية ويهدف إلى تجميد الواقع ضدا على الحتمية التاريخية .
وهكذا يسير التاريخ بنفس المنطق ونفس المنهج، كلما ظهر التناقض برز الصراع الذي يدفع حتما إلى وضع جديد .
ولكن من جهة أخرى فكل نظام يكون تقدميا بالنسبة للنظام السابق لأن التاريخ يسير دائما إلى الأمام .
وإذا توقف الصراع فإن ذلك راجع إلى تدخل الإيديولوجيا البورجوازية التي تعطي تصورا خاطئا عن الواقع وتؤدي إلى تجميده .
هذه هي الحتمية التاريخية، وهذا معناه أن الرأسمالية اليوم وصلت إلى مرحلة الانحطاط وأصبحت نظاما مضرا للإنسان، لأن التناقض بلغ ذروته، ولذلك لا يمكن أن تصلح أحوال المجتمع إلا بزوال الرأسمالية وإحلال النظام الاشتراكي محلها.
إذن ما هو منظور الاشتراكية إلى المجتمع ؟
أولا تنظر الاشتراكية إلى الإنسان كفاعل أساسي أي أنه هو صانع التاريخ، يصنع وضعيته، وجوده، يحافظ على كرامته، إذن هي توجه عملي يربط الفكر بالممارسة ويلح على المساواة، ومحاولة إلغاء الطبقية.
إنها عكس الرأسمالية التي تسعى وراء الربح السريع لصالح فئات محددة مطلقة العنان للحرية المطلقة في الكسب ( وهذا واضح من اسمها الليبرالية ) والذي يمكن فيه للقوي وحده ممارسته ( أي كسب الربح ) دون الضعيف مما يعمق الفروق الطبقية . فما يهمها هو الربح السريع بغض النظر عن كيفية الوصول إليه، وهي تحقق هذا الربح بواسطة استغلال العمال الضعفاء الذين لا يملكون سوى قوة عملهم ينتجون بواسطتها، لكن يتقاضون أجورا لا تساوي قوة هذا العمل والإنتاج الذي يقومون به، وهو ما يكون فائض القيمة الذي هو أساس ربح الرأسمالي. يقول ماركس «إن السلع التي ينتجها البروليتاري حينما تخرج إلى السوق تصبح شيئا غريبا عنه لأنه لا يستطيع شراءها على الرغم من أنه أنتجها، وبذلك يعيش حالة من الاستلاب والاغتراب و الألينة .»
وعلى العكس من ذلك تؤمن الاشتراكية بتدخل الدولة في الاقتصاد وتوجيهه وتحد من الحرية الفردية في الإنتاج، وبالتالي تحارب الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وتركز على المساواة والتضامن والتآزر لأن ما يهمها هو الإنسان في ذاته .
ثم إن الحرية عند الليبراليين مفهوم شمولي ينطبق على المستوى الاقتصادي والفكري والسياسي ( الديموقراطية ) .
وإذا كانت الليبرالية قد لعبت دورا في السابق وساعدت على تجاوز أفكار العصر الوسيط التي كانت تدور حول فكرة الحق الإلهي وسيطرة الكنيسة والملكية المطلقة ودعت إلى حرية الإنسان وفعاليته واستقلاليته وعلى الحق في الحياة والتملك وساعدت على قيام الثورة الفرنسية، ولذلك كانت تقدمية بالنسبة للنظام السابق عليها فإنها اليوم قد أصبحت متجاوزة لأن اقتصاد السوق يركز على اختيار الفرد، وليس على اختيار الجماعة فيعمق التفاوت بين القوي والضعيف. ويحقق بذلك الربح السريع والثروة لصالح فئة معينة فقط ويشيئ الباقي وبالأخص الطبقة العاملة .
إن النظام الرأسمالي يتميز بالاستغلال والاضطهاد، والدولة الرأسمالية هي تنظيم سياسي معبر عن نفوذ وسيطرة وتحكم الطبقة البورجوازية في الاقتصاد، إنها أداة أساسية في يد الطبقة المسيطرة للحفاظ عن امتيازاتها وأملاكها .
ولا شك أن الرأسمالية اليوم تعيش أزمات جمة بعدما كانت منتعشة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ما نجم من صفقات للأسلحة وتنشيط مصانع المعدات الحربية، وذلك مثل أزمة 2008 وأزمة 2020، والتي أحدثت هزات كبيرة على المستوى الاقتصادي، أزمات مالية توضح عدم متانة هذا النظام، خاصة وأن موارد الطاقة التي تعتمد عليها بدأت في الاستنزاف، وأهمها النفط، كما أن بدائل الطاقة الأخرى مثل الشمس ، الهواء، الماء … لم يتم لحد الآن التحكم في كيفية استغلالها مما يجعلها تبحث عن بدائل مثلا إما وقف النمو الاقتصادي، أو إشعال حروب استنزافية للبحث عن الطاقة، والتوسع، علما أن الأرض لم تعد تحتمل مزيدا من الاستنزاف .
هكذا نلاحظ اليوم أن الرأسمالية تخبط خبط عشواء وتحاول الانقضاض على كل المكاسب الاجتماعية للطبقات الفقيرة من مجانية التعليم والصحة والتقاعد بل إن الاستعمال المفرط للتقنية أدى إلى التقليل من فرص الشغل خاصة تلك التي تعتمد على الممارسة اليدوية .
كل هذا ينبئ بعودة قوية للاشتراكية اليوم .
الاشتراكية في العالم العربي :
عرف العالم العربي والإسلامي وضعا مزريا بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية على يد الحلفاء الغربيين في بداية القرن العشرين، وبالتالي اكتساحهم لهذه المنطقية وإخضاعها لسيطرتهم حيث عملوا على استغلال ثرواتها ونهب خيراتها لصالحهم دون احترام مصالح الشعوب الأصليين، هذا خلق، بطبيعة الحال، ردود أفعال للمقاومة ومحاربة أولئك المستعمرين، وكان لابد من سلاح فكري معين ومساعد للمقاومة المسلحة، من هذا الباب دخلت الماركسية عموما إلى العالم العربي والإسلامي (و بطبيعة الحال كانت هناك إيديولوجيات أخرى مخالفة متبناة من طرف جماعات مغايرة في التوجه ) .
إن دخول الماركسية كان على يد اليسار الذين اتخذوها كإيديولوجية رسمية في نضالهم ضد المستعمر، وتم النظر إليها كنظرية علمية معرفية تؤمن بالتغير المستمر أي بالصيرورة كحقيقة جوهرية للوجود بما فيه المجتمعات البشرية .
من هنا ستكون الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي ( منبثق عن الماركسية وجزء أساسي منها ) هي الخلاص الذي سيساعد على التحرر الشامل من كل مظاهر الاستعمار الأجنبي وكل مظاهر الاستغلال .
هكذا تأسست أحزاب اشتراكية في مصر وسوريا والعراق، وكانت مرتبطة بالماركسية السوفياتية بالدرجة الأولى، والتي حاربت الاستعمار الغربي بما فيه المشروع الصهيوني .
وسادت الفكرة في العالم العربي، وأخذ ينظر إلى الرأسمالية كمذهب قائم على استغلال الضعفاء والاستقواء عليهم لذلك لا بد من محاربتها ، والمطالبة بالتأميم والتعليم للجميع والتصنيع، والإصلاح الزراعي وبالتالي خلق علاقات إنتاج جديدة قائمة على أساس الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج من أجل تحقيق شروط الانتقال إلى النظام الاشتراكي .
ومن جهة أخرى الدعوة إلى إرساء معالم الحداثة بكل تجلياتها انطلاقا من تطوير الوعي البشري، وتحريره من كل مظاهر التفكير الغيبي والخرافي، وتعويضه بالفكر العلمي القائم على تعليل الظواهر بأسبابها الموضوعية، وبالتالي اعتبار الإنسان كائنا عاقلا وفاعلا يمكنه فهم الطبيعة واستخراج القوانين المتحكمة فيها، وبالتالي التأثير فيها وتسخيرها لصالحه .
وبالتالي فهو كائن حر، ومسؤول عن وضعيته، فهو الذي يحدد شكل وجوده داخل المجتمع بكل إرادته مهما كانت الصعوبات والعراقيل التي يمكن أن تعترض طريقه. يقول ماركس « إن من يتعلل بالظروف ينسى أنه هو الذي يصنع هذه الظروف « .
ويمكن أن أشير إلى بعض الماركسيين الاشتراكيين العرب الأوائل مثل سمير أمين، سلامة موسى، مهدي عامل، ياسين حافظ جورج حبش، جورج طرابيشي، والقائمة طويلة .
– الاشتراكية في المـــــــــغرب
– كما عرف المغرب أحزابا يسارية ذات مرجعية ماركسية منذ النصف الأول من القرن العشرين ومنها الحزب الشيوعي المغربي الذي أسسه RENé SULTAN سنة 1943 بالدار البيضاء، وكان أول أمين عام له ، وبعد وفاته سنة 1945 تولى علي يعته قيادة هذا الحزب، واضطر إلى تغيير اسمه سنة 1969 إلى حزب التحرر والاشتراكية، ثم أصبح حزب التقدم والاشتراكية سنة 1974، حيث تم الاعتراف به من طرف الدولة المغربية. وكان يتبنى في البداية الفكر الشيوعي كإيديولوجية ،لكنه تخلى عنها واعتمد الفكر الاشتراكي الديموقراطي سنة 1995 .
– منظمة إلى الأمام وهي منظمة ماركسية لينينية انفصلت عن حزب التقدم والاشتراكية وأعلنت عن تأسيسها سنة 1972، وكان موقفها ثوريا بالدرجة الأولى، وهذا هو سبب انفصالها عن الحزب السابق، ويعتبر ابراهيم السرفاتي الزعيم الأول لها إلى جانب عبد اللطيف اللعبي ، وكانت تنظر إلى الأحزاب الاشتراكية السابقة كأحزاب إصلاحية فقط ، ونظرا لطابعها الثوري ظلت تعمل في السر فقط .
حزب النهج الديموقراطي: انبثق عن منظمة إلى الأمام سنة 1995 وسار على نهجها الثوري وسيتم الاعتراف به سنة 2004 .
-حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية : وترجع جذوره إلى حركة التحرير الوطني من أجل استقلال المغرب، وكان أبرز مؤسسيه من الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال، وكان الهم آنذاك هو تحرير البلاد من الاستعمار لذلك كان الجميع يعمل في إطار حزب الاستقلال، لكن قادته ( المهدي بنبركة، عبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد ) فضلوا الانفصال وتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959. والذي تعرض لاضطهاد كبير من طرف الدولة خلال سنوات الرصاص ، كما تعرض للحظر ، لكنه استطاع أن يتحول سنة 1975 خلال المؤتمر الاستثنائي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ،وتقدم بالتقرير الإيديولوجي كتوجه واضح لرؤيته السياسية، كما تبنى منهجية النضال الديموقراطي كمنهج للنضال السياسي .
إن التقرير الإيديولوجي حدد بكل وضوح أيديولوجيته في التصور الاشتراكي كمنهج وكهدف يجب الوصول إلى تحقيقه داخل المجتمع المغربي، هذا التصور يجب أن يقوم ويتأسس على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، ولعب الدولة دورا أساسيا في توجيه الاقتصاد، وعدم تركيز الثروة في يد فئة معينة، أي الاشتراكية كنظام اجتماعي أيضا وبنظرة شمولية معتمدة على التحليل العلمي من أجل تحرير الطبقة الكادحة من كل أشكال الاستغلال الذي تعيشه فكريا ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا أيضا .
كما أكد هذا التقرير على كون الاشتراكية هي الحل الضروري الحتمي لفك التناقضات الداخلية للمجتمع للدفع به إلى الأمام حسب منطوق الديالكتيك .
هكذا لخص هذا التقرير مضمون الاختيار الاشتراكي في ثلاثة مبادئ أساسية هي : التحرير ، الديمقراطية ، الاشتراكية ، وهي مبادئ مترابطة في ما بينها ذلك «أن التحرير الشامل لا يمكن أن يتم إلا على درب الاشتراكية ، والاشتراكية الحقيقية تستلزم ضرورة الديموقراطية الفعلية التي تمكن الجماهير من المراقبة والمساهمة في التقرير والتنفيذ ، والاشتراكية والديموقراطية بهذا المعنى لا يمكن أن يتحققا إلا إذا سارتا جنبا إلى جنب مع عملية التحرير ذاتها « كما جاء في كتاب التقرير الإيديولوجي الصادر ضمن وثائق المؤتمر الاستثنائي أيام 10-11-12 يناير 1975 الصفحة 137.
هكذا ظل هذا الحزب في المعارضة بسبب أفكاره وتوجهه الإيديولوجي وتعرض لضربات قوية من طرف المخزن إلى حدود سنة 1998 حيث تولى قيادة الحكومة، التي سميت بحكومة التناوب إشارة إلى وصول اليسار إلى الحكم لأول مرة في تاريخ المغرب، هذه الحكومة التي حققت مكاسب كثيرة على المستوى الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي .
هكذا قاد الحزب الحكومة إلى حدود 2002 حيث أصبح مشاركا فيها فقط واستمرت هذه المشاركة إلى حدود 2011 حيث خرج للمعارضة من جديد .
خطاب السكتة القلبية : دلالة ومغزى :
هو خطاب المرحوم الحسن الثاني ، خطاب مشهور كشف الحقيقة وأبان عن المستور . كان ذلك في أكتوبر سنة 1995 ومن داخل قبة البرلمان حينما نطق جلالته : « إن البلاد مهددة بالسكتة القلبية « ، جملة دوت كالمدفع في كل أرجاء البلاد وتلاقطها الجميع سياسيون، مثقفون، عموم الشعب وفي جميع أرجاء البلاد، خاصة وأنها صدرت من أقوى رجل في البلاد ، فنبهت الجميع إلى أن هناك حقيقة مرة تم الكشف عنها لأول مرة وبكامل الصراحة .
ولقد جاء خطابه هذا بعد توصله بتقرير من البنك الدولي يوضح وضعية البلاد المزرية اقتصاديا واجتماعيا وماليا ، وكان تقريرا أسودا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تم التأكيد فيه وبواسطة الأرقام على تدهور الاقتصاد المغربي بشكل خطير ما يستوجب ضرورة الإصلاح لإنقاذ البلاد من هذا التدهور .
هكذا وجد جلالته في حكومة التناوب وفي اليسار تحت قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنقذ من هذه الأزمة الخطيرة التي عمت البلاد .
لكن ما هي دلالة هذا الاختيار ؟
إنها دلالة واضحة جدا، معناها أن الحكومات السابقة التي توالت على حكم المغرب طوال 40 سنة تقريبا كانت حكومات فاشلة، وهي حكومات ليبرالية كانت تعتمد على التصاميم الخماسية ذات التوجه الليبرالي ، وهذا اعتراف صريح بفشل التسيير الليبرالي وعلى جميع المستويات ،وكما يقول هيجل نفي الشيء هو إثبات لضده، بمعنى إذا كانت الليبرالية فاشلة فإن نقيضها أي الاشتراكية صحيحة ، وهذا ما أثبته الواقع والممارسة الفعلية داخل هذا الواقع .
بطبيعة الحال حاولت حكومة التناوب إنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل حكم ملكي له خصوصية معينة .( وليس المجال الآن ملائما لسرد منجزاتها )
لكن ما بعد حكومة التناوب هل تحسنت الأحوال ؟
صعب أن نجيب بالإيجاب وما اعتراف جلالة الملك بفشل النموذج التنموي والدعوة إلى نموذج جديد، وما الاحتقان الاجتماعي الداخلي وخروج الآلاف من المتظاهرين ودخولهم في إضرابات متتالية ومن مختلف القطاعات : التعليم ، الصحة ، العدل ، الجماعات المحلية وغيرها إلا دليل على فشل هذه السياسات التي يقودها الليبراليون وخاصة أولئك الذين يمارسون الآن سياسة التغول المفضوح ويضربون الديموقراطية في العمق .
لكن ما محل الدولة الاجتماعية داخل كل هذا ؟
أي ما هي مكانة الدولة الاجتماعية داخل هذا التوجه الليبرالي والذي هو السمة الأساسية للحكومة المغربية الحالية ولجل الحكومات المتعاقبة عليه عموما ؟ هذا على الرغم من أن الدستور المغربي قد أكد على البعد الاجتماعي للدولة في الفصل 31 وبكل تفصيل، لكن لفهم ذلك يجب أن نستحضر السياق العام الذي تم فيه صياغةهذا الدستور وكذلك مجمل أحداث سنة 2011 . وطنيا وإقليميا .
ثم ما المقصود بالدولة الاجتماعية ؟
الدولة الاجتماعية هي الدولة التي تهتم بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين وتضعها ضمن أولوياتها .
ومعنى ذلك أن الدولة الاجتماعية تسهر على توفير التعليم والصحة والحماية الاجتماعية والشغل والسكن والبيئة السليمة والتكوين المهني والتربية البدنية والفنية وغيرها من الحاجيات الضرورية التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، وذلك لجميع المواطنين وبشكل متساوي بينهم .
وهذا معناه من جهة ثانية ربط الدولة بالمجتمع وإزالة ذلك التباعد الذي تكرسه الرأسمالية عادة حينما تحرم الضعيف من التمتع بهذه الحقوق في إطار جعلها في يد الفئة القليلة المالكة للرأسمال مما يعمق الفروق الطبقية داخل المجتمع .
من هنا يكون مفهوم الدولة الاجتماعية مفهوما اشتراكيا بامتياز باعتبار أن الاشتراكية تؤكد على التضامن والتآزر بين الناس داخل المجتمع مكان التنافس الحر والذي يخلق الطبقية .
من هنا أيضا نفهم لماذا تقيد الاشتراكية حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج كيفما كان نوعها، وتؤكد على تدخل الدولة في الاقتصاد وتوجيهه، وتجعل المواطن في قلب اهتمامات الدولة .
إذن لماذا لجأت الدولة أو الحكومة إلى تركيز مفهوم الدولة الاجتماعية داخل المجتمع ؟ وهل نجحت في تطبيقه ؟ وما دلالة هذا التوجه ؟
أولا: كما قلت في السابق إن مفهوم الدولة الاجتماعية مفهوم اشتراكي ولا علاقة له بالسياسة الليبرالية .
ثانيا : أن العوامل التي دفعت الدولة إلى الأخذ به هي :
– فشلها في السياسات العمومية، وتدفق الحركات الاحتجاجية داخل المجتمع .
– اعترافها بفشل النموذج التنموي
-تراجع مؤشر التنمية في البلاد
-زيادة على أزمة كوفيد وما كشفت عنه من اختلالات اقتصادية واجتماعية .
إذن هل نجحت الدولة في تطبيقه ؟ وقبل ذلك هل جاء هذا القرار عن قناعة وإيمان ؟
بطبيعة الحال من الصعب الجواب بالإيجاب لأن محاولة تطبيق تصور لا ينتمي إلى قناعات صاحبه لا يمكن إلا أن يؤدي إلى عمل ناقص وغير مكتمل ، لأنه ليس ناتجا عن إرادة أو رغبة أو عن تدبر فكري ورؤية، أو إيمان بالقضية ، زيادة على كل ذلك فهذا المشروع يحتاج إلى توفير المناخ الديموقراطي كإطار ضروري لهذه الممارسة وإطار ضروري لممارسة العمل السياسي المحرك الأساسي لعمل الدولة ومسيرتها .
الخلاصة :
نستخلص من كل هذا أن الاشتراكية هي التصور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الضروري لتطور الدولة والمجتمع، وبالتالي لمحاربة الفقر والهشاشة، والدفع بعجلة التنمية إلى الأمام، والالتحاق بركب الدول المتقدمة، والقضاء على الفروق الطبقية أو على الأقل التقليل من حدتها .
إن الاشتراكية هي الحل الذي يمكن أن ينقد البلاد والعباد من هذه السكتة القلبية الثانية التي تهدد المجتمع نظرا لمشكلة التضخم وارتفاع الأسعار وتأخر مؤشر التنمية وارتفاع نسبة البطالة والمديونية وغيرها ، وذلك باعتراف الخصوم أنفسهم .
نعم إن الاشتراكية اليوم ضرورة حتمية لصيانة كرامة الضعفاء .

الكاتب : عائشة زكري - بتاريخ : 01/04/2024

التعليقات مغلقة.