الأسد الرئيس الوحيد الباقي‮ ‬في‮ ‬السلطة بين رؤساء دول‮ «‬الربيع العربي‮» ‬

‮ ‬قبل عقد من الزمن،‮ ‬انطلقت ثورات شعبية في‮ ‬عدد من الدول العربية ضد التسلط والقمع والفقر،‮ ‬وأطاح الغضب برؤساء وأنظمة دكتاتورية حكمت بلدانها بقبضة حديدية لعقود،‮ ‬وإن لم تأت دائما بالحرية والرخاء المنشودين‮.‬
وحده الرئيس السوري‮ ‬بشار الأسد صمد في‮ ‬وجه الثورة والعزلة والحرب والنقمة،‮ ‬رغم الدمار والموت والتشرد الذي‮ ‬ضرب بلده ولا‮ ‬يزال‮.‬
ويقول خبراء وسياسيون إن الأسد الذي‮ ‬تنبأ كثيرون بأنه سيسقط تحت ضغط الشارع بعد أسابيع من بدء الانتفاضة الشعبية ضده،‮ ‬استفاد من تقاطع عوامل داخلية أبرزها تحكمه بالقوات الأمنية والعسكرية،‮ ‬وخارجية على رأسها تلكؤ الغرب في‮ ‬استخدام القوة ضده مقابل دعم عسكري‮ ‬حاسم من إيران ثم روسيا،‮ ‬ليبقى‮. ‬يضاف إلى ذلك الصبر واستثمار لعامل الوقت مشهود لهما في‮ ‬عائلة الأسد التي‮ ‬تحكم سوريا منذ بداية السبعينات‮.‬
لدى انطلاق الاحتجاجات السلمية في‮ ‬منتصف مارس‮ ‬2011،‮ ‬اختار الأسد قمعها بالقوة‮. ‬وسرعان ما تحولت نزاعا مدمرا فاقمه تصاعد نفوذ التنظيمات الجهادية وتدخل أطراف خارجية عد ة ساهمت في‮ ‬تعقيد المشهد‮. ‬وصنف الأسد كل من حمل السلاح ضده بـ»الإرهابي‮».‬
ورغم مقتل أكثر من‮ ‬380‮ ‬ألف شخص واعتقال عشرات الآلاف ودمار البنى التحتية واستنزاف الاقتصاد ونزوح وتشريد أكثر من نصف السكان،‮ ‬احتفظ الأسد بمنصبه‮. ‬وتسيطر قواته اليوم على أكثر من سبعين في‮ ‬المئة من مساحة البلاد،‮ ‬فيما‮ ‬يعاني‮ ‬الشعب من أزمة اقتصادية حادة مع نضوب موارد الدولة وتداعيات عقوبات دولية مفروضة على النظام‮.‬
ويرى محللون أن الأسد الذي‮ ‬خلف والده الراحل حافظ الأسد عام‮ ‬2000،‮ ‬ورث عنه الطباع الباردة والشخصية الغامضة،‮ ‬وتتلمذ على‮ ‬يده في‮ ‬الصبر،‮ ‬ولعب ذلك دورا أساسيا في‮ «‬صموده‮».‬
ويقول السياسي‮ ‬اللبناني‮ ‬المخضرم كريم بقرادوني‮ ‬لوكالة فرانس برس‮ «‬بعدما طالب العالم كله برحيله قبل سنوات وظن أنه سيسقط،‮ ‬يريد اليوم أن‮ ‬يجد الحل معه‮. ‬لقد عرف الأسد كيف‮ ‬يستثمر عامل الوقت‮».‬
منذ اندلاع النزاع،‮ ‬لم‮ ‬يتوان الأسد في‮ ‬أي‮ ‬تصريح عن إبداء ثقته الكبيرة بالقدرة على الانتصار حتى في‮ ‬أكثر لحظاته ضعفا‮ .‬
ويضيف بقرادوني‮ ‬الذي‮ ‬لعب لوقت طويل دور الوسيط بين النظام السوري‮ ‬وأطراف لبنانية خلال الأزمات التي‮ ‬شهدها البلدان،‮ «‬لم‮ ‬يتراجع الأسد أي‮ ‬خطوة إلى الوراء‮. ‬تمسك بكل مواقفه من دون أي‮ ‬تعديل‮. ‬وتمكن من أن‮ ‬يسترجع بالقوة العسكرية معظم الأراضي‮ ‬السورية‮».‬
وأثبت الجيش السوري،‮ ‬وفق بقرادوني،‮ «‬أنه جيش عقائدي‮ ‬ونظامي‮ ‬تمكن من الاستمرار وحماية النظام في‮ ‬أسوأ الأوضاع ولم‮ ‬ينقلب عليه كما في‮ ‬دول أخرى،‮ ‬وهذا ما جعل الأسد نموذجا استثنائيا في‮ ‬ما‮ ‬يعرف بثورات الربيع العربي‮».‬
وبقي‮ ‬الجيش الذي‮ ‬يشكل أبرز أسلحة الأنظمة الديكتاتورية،‮ ‬متماسكا ومواليا لنظام الأسد،‮ ‬رغم انشقاق عشرات آلاف العسكريين عنه بعد اندلاع النزاع‮. ‬بينما ساهم تخلي‮ ‬الجيش التونسي‮ ‬عن الرئيس زين العابدين بن علي‮ ‬في‮ ‬دفعه،‮ ‬تحت ضغط التظاهرات،‮ ‬إلى مغادرة البلاد في‮ ‬14‮ ‬يناير‮ ‬2011‮ ‬إلى السعودية‮. ‬كذلك استقال الرئيس المصري‮ ‬حسني‮ ‬مبارك في‮ ‬11‮ ‬فبراير‮ ‬2011‮ ‬بعد أن أدرك أن الجيش لم‮ ‬يعد‮ ‬يحميه‮. ‬وانقلب عدد كبير من الفرق العسكرية ضد الزعيم الليبي‮ ‬معمر القذافي‮ ‬تباعا‮ ‬،‮ ‬فهرب وترك السلطة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يقتل على أيدي‮ ‬الثوار في‮ ‬20‮ ‬أكتوبر‮ ‬2011‮. ‬وتوفي‮ ‬بن علي‮ ‬لاحقا في‮ ‬جدة،‮ ‬ومبارك في‮ ‬مصر،‮ ‬من تبعات المرض‮.‬
ويوضح الباحث في‮ ‬معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي‮ ‬والإسلامي‮ ‬توما بييريه لفرانس برس أنه‮ ‬يمكن اختصار العوامل الداخلية التي‮ ‬ساهمت في‮ ‬بقاء الأسد في‮ ‬السلطة بعنوان واحد‮ «‬استمرار ولاء قيادة الجيش التي‮ ‬تعززت خلال عقود بأقارب الأسد وأتباعه‮» ‬من الطائفة العلوية التي‮ ‬ينتمي‮ ‬إليها‮. ‬وشكل هؤلاء‮ «‬على الأرجح أكثر من ثمانين في‮ ‬المئة من الضباط في‮ ‬العام‮ ‬2011‮ ‬وشغلوا كل منصب مؤثر عمليا‮ « ‬داخل الجيش‮.‬
ويرى باحث سوري‮ ‬في‮ ‬دمشق تحفظ عن الكشف عن اسمه لفرانس برس،‮ ‬أنه‮ «‬لا‮ ‬يمكن إنكار دور شخصية الأسد في‮ ‬بقائه،‮ ‬وما‮ ‬يعرف عنه من إصرار وصرامة‮. ‬فهو تمكن من حصر القرارات كافة بيده وجعل الجيش معه بشكل كامل‮».‬
ولم تفرز بنية النظام شخصيات قيادية‮ ‬يمكنها أن تلعب دورا بارزا في‮ ‬مواجهته،‮ ‬لا بل‮ «‬قطعت الطريق على أي‮ ‬شخصية حاولت أن تبني‮ ‬حيزا لها‮» ‬في‮ ‬مستقبل البلاد،‮ ‬بحسب المصدر ذاته‮.‬
راهن الأسد على تركيبة المجتمع المعقدة مع وجود انقسام عرقي‮ ‬بين عرب وأكراد،‮ ‬وطائفي‮ ‬بين سنة وعلويين وأقليات،‮ ‬أبرزها المسيحية،‮ ‬رأت فيه حاميا لها خصوصا مع تصاعد دور التنظيمات الإسلامية والجهادية‮.‬
ويقول الباحث السوري‮ «‬استفاد من خوف الناس من الفوضى ومن خوف بيئته‮ (‬العلوية‮) ‬على وجودها في‮ ‬حال سقوطه،‮ ‬وهو ما جعلها تستميت في‮ ‬الدفاع عنه دفاعا عن وجودها‮. ‬كما استفاد من‮ ‬غياب قوى سياسية فاعلة وفقدان الأمل من دور المعارضة‮».‬
وبدا الأسد في‮ ‬تلك الفترة رئيسا معزولا مع تصاعد المطالبات بتنحيه،‮ ‬في‮ ‬وقت جم دت جامعة الدول العربية عضوية سوريا فيها،‮ ‬وفرضت دول‮ ‬غربية عقوبات على النظام بسبب ممارسات القمع‮. ‬بدا الأسد حينها على وشك السقوط‮.‬
إلا أن خصومه لم‮ ‬يتمكنوا من تشكيل جبهة موحدة،‮ ‬لا في‮ ‬الداخل ولا في‮ ‬الخارج‮.‬
مع عسكرة النزاع،‮ ‬تعددت الفصائل المقاتلة التي‮ ‬كانت تتلقى دعما من جهات ودول مختلفة لها أجندات خاصة‮. ‬ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتحكمه بمساحات واسعة من البلاد،‮ ‬تبدد مطلب الحرية والديموقراطية وراء الرعب‮. ‬وبشكل‮ ‬غير مباشر،‮ ‬ساعد الأسد على تقديم نفسه بأن ه‮ ‬يخوض حربا ضد‮ «‬الإرهاب‮».‬
في‮ ‬الوقت نفسه،‮ ‬لم تفرز المعارضة السياسية قيادة بديلة تشكل محاورا‮ ‬يتمتع بالمصداقية للمجتمع الدولي‮.‬
وفيما كانت الفصائل المعارضة تطالب حلفاءها بسلاح ودعم عسكري،‮ ‬على‮ ‬غرار تدخل حلف شمال الأطلسي‮ ‬الجوي‮ ‬الذي‮ ‬ساعد المعارضة المسلحة الليبية على النيل من نظام القذافي،‮ ‬كان الغرب مرعوبا من تكرار تجربة ليبيا حيث بدأت الفوضى تتمدد‮.‬
ومع استقطاب التنظيم المتشدد آلاف المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق المجاور بدءا من العام‮ ‬2014،‮ ‬وتنفيذه هجمات دامية في‮ ‬دول عدة،‮ ‬انصب تركيز المجتمع الدولي‮ ‬بقيادة واشنطن على دعم الفصائل الكردية وحلفائها في‮ ‬مواجهة الجهاديين عوضا عن دعم خصوم الأسد‮.‬
وبات الأسد أكثر تيقنا من أن الطائرات الأمريكية لن تحلق في‮ ‬سماء دمشق بعد تراجع الرئيس الأمريكي‮ ‬السابق باراك أوباما عن شن ضربات عقابية إثر مقتل نحو‮ ‬1400‮ ‬شخص قرب دمشق صيف‮ ‬2013‮ ‬جراء هجوم بغاز السارين اتهمت دمشق بتنفيذه‮. ‬وانتهى الأمر باتفاق أمريكي‮ ‬روسي‮ ‬على تفكيك الترسانة الكيميائية السورية‮.‬
ويقول بييريه إن أوباما‮ «‬انتخب على أساس وعد بالانسحاب من العراق،‮ ‬ولذلك ترددت إدارته في‮ ‬العودة إلى الشرق الأوسط‮» ‬من بوابة سوريا‮.‬
ويضيف‮ «‬حددت مصالحها في‮ ‬المنطقة على نطاق ضيق وبطريقة انعزالية،‮ ‬أي‮ ‬مكافحة الإرهاب،‮ ‬ومن هنا تدخلها ضد تنظيم الدولة الاسلامية وأسلحة الدمار الشامل‮».‬
في‮ ‬المقابل،‮ ‬تلقى الأسد دعما حاسما من إيران التي‮ ‬تدخلت منذ بداية النزاع،‮ ‬ودر بت واستقدمت مجموعات رديفة دافعت بشراسة عن النظام بينها حزب الله اللبناني‮. ‬وكذلك فعلت روسيا التي‮ ‬دافعت عن النظام في‮ ‬مجلس الأمن ودعمته اقتصاديا ثم عسكريا‮ .‬
وانتهزت روسيا تحديدا‮ ‬،‮ ‬وفق بييريه،‮ «‬فرصة تاريخية لاستعادة موقعها الذي‮ ‬فقدته كقوة عظمى عبر ملء الفراغ‮ ‬الاستراتيجي‮ ‬الذي‮ ‬خل فه فك أوباما ارتباطه جزئيا عن المنطقة‮».‬
وبعدما كانت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن تشدد في‮ ‬كل مناسبة على ضرورة تنحي‮ ‬الأسد،‮ ‬بات اهتمام المجتمع الدولي‮ ‬اليوم مركزا على التوصل إلى تسوية سياسية تسبق موعد الانتخابات الرئاسية الصيف المقبل‮.‬
ويقول المصدر السوري‮ «‬من المستحيل اليوم أن‮ ‬يكون النظام السوري‮ ‬مقبولا من النظام الدولي،‮ ‬ومن المستحيل كذلك أن‮ ‬يبقى خارجه‮».‬
ويضيف‮ «‬هذه المعادلة المستحيلة ستبقينا لسنوات طويلة في‮ ‬مرحلة اللا خيار،‮ ‬واللا حل واللا استقرار‮.. ‬مع استمرار الاستنزاف البطيء الذي‮ ‬يدفع ثمنه الشعب السوري‮» ‬وحده،‮ ‬وذلك بسبب الحاجة الماسة الى أموال ودعم دولي‮ ‬لإعادة الإعمار وحل مشكلة اللاجئين‮.‬
في‮ ‬هذا الوقت،‮ ‬لا شيء‮ ‬يمنع الأسد من البقاء في‮ ‬مكانه،‮ ‬والفوز بولاية رئاسية رابعة فيما كل الناشطين الذين تجرأوا‮ ‬يوما على الخروج إلى الشارع للمطالبة بسقوط النظام قتلوا أو فروا من البلاد،‮ ‬وفيما عشرات الآلاف‮ ‬غيرهم في‮ ‬السجون والمعتقلات‮.‬


بتاريخ : 28/11/2020