البحر يصبح جدًّا

 

في ذلك المساء البعيد كانت الريح تربت على كتف العالم، بينما كنت أنت تستلذ ليونة أياديها حالما بالغيم والمطر، وفي مخيلتك كانت تعبر صور السواقي والأنهار، وهي تسرع لمعانقة جدها البحر.
في هذه الأثناء كانت السمكة الصغيرة، والتي لم تكن أبدا وفية للقبيلة، لاهية عن مصيرها المحتوم . السمكة الصغيرة التي كانت تفكر في اتساع الكون، كانت جذلانة وساهمة. فالأسماك هي الأخرى تفكر نكاية بديكارت، رغم أنها لا تتذكر منازلها الأولى. هي بدون منازل تقريبا. كما أنها بدون أسماء مثلنا، لتتداولها بينها ماعدا اسم النوع. لذلك فهي لا تنادي على بعضها البعض كما تتنادى الكائنات الإنسانية. وهي أيضا لا تغتاب بعضها البعض، ولا تسعى إلى تكدير صفو حيوات السمكات الأخريات، إلا إذا استثنينا ما يحدث داخل البحر من أكل كبيرها لصغيرها، مثلما قال بذلك باروخ اسبينوزا، حينما تحدث عن الحق الطبيعي شارحا إياه لقرائه المبتدئين، الذين ليسوا سوى تلاميذ فصول دراسية مكتظة، يفكرون في مهن تدر عليهم دخلا ومأوى بدل التفكير في عطايا الفلسفة. فكل ما يستهويهم هو الظفر بمكاتب مكيفة، ومرؤوسين طيعين، وترقيات سريعة، وبأسفار كثيرة إلى جزر صغيرة وبعيدة كسردينيا وجزر المالديف.
هناك سيسخرون من الوجود والعدم لسارتر، ومن « الأنا وحدية» لديكارت، و»البين-ذاتية» لموريس ميرلوبونتي. سيقهقهون بصوت عال هناك، حتى أن الأسماك في أعماق البحار ستسمعهم. ستصبح واجمة وهي تعبر في الصباحات الباكرة نحو حدائق مخفية بإحكام في أعماق المحيطات.
السمكة الصغيرة التي لم تتزين صباحا كانت متعجلة. الأسماك لا تذهب إلى صالونات الحلاقين، مثلما لا تذهب في مواعيد غرامية. إضافة إلى أنها لا تسعى إلى تغيير مظهرها الخارجي كما تفعل الكائنات الإنسانية. فلم يحدث أن سمعنا بأن سمكة قامت بعملية تجميل. فهي جميلة رغم أنف الجميع، بما في ذلك الصيادين القميئين.
مضت السمكة الصغيرة بدون خطط حقيقية، غير مدركة لخدع الصيادين. لكنها لم تستمع لنصائح الأسماك الكبيرة بعدم الثقة في صياد، وبأن لا تقبل هدية أو عطية مجانية. فلا شيء مجاني. كل شيء مجاني من ورائه خدعة شديدة الحبكة.
السمكة الصغيرة تسرعت. لقد خذلت نفسها، مثلما خذلت معشر الأسماك، بل وخذلت البحر أيضا الذي لا يطيق الصيادين، ومتصيدي الثروات. لقد تخلفت عن السرب متكئة على سذاجة قديمة تكبل نباهة كل الضحايا عبر تاريخ الاغتيال والبطش الإنسانيين.
في البداية تولد الأنانية، وبعد ذلك الجشع، ثم الخداع اللازم لإخفاء معالم الجريمة. فكل صياد هو مجرد آثم صغير من سلك الهواة، إذ هو لا يزال يتعلم أبجدية القتل التي تتضخم لديه.
لقد تقدمت السمكة بسرعة كبيرة نحو المقصلة، رغم أنه ليست هناك محاكمات في عالم الأسماك، وإذن فهو اغتيال، وليس إعداما بالمعنى القانوني ما كان ينتظرها. فبينما كان الصياد يلقي بالشص، وشهيته قد هزمته إلى حد تغير سحنته، والتي لم تعد تختلف عن سحنة سنجاب، وأسنانه كلها تحولت إلى أنياب، قد يكون استعارها من ذئب، كانت السمكة تتجه نحو الهاوية. لقد قهقه كثيرا، وهو يتخيل السمكة تعبر نحو حتفها المعد بإحكام. غمز زميله القريب منه، وقال له بأن ثمة ضيوفا سيأتون، ولا شيء يقدمه لهم إن لم يصطد أسماكا كثيرة. وفعلا كان الضيوف قد جاؤوا، وزوجته الآن تنتظر قدومه مرتبكة ومتوترة. تفرك يديها في المطبخ، وهي تبسمل وتحوقل بدون تؤدة، وتحاول أن تتلو أدعية كثيرة كي يكون صيد زوجها وفيرا، وبأن تزداد سذاجة الأسماك في كل مرة تسقط فيها مغشيا عليها من شدة الدهشة ومن شدة اللؤم الذي يحمله الصيادون في قلوبهم، والذين يجهزون على سكينتها بدون رحمة.
لقد كان صباحا تاريخيا. فالصياد أفرج عن أسنانه دلالة الغبطة، وزوجته لم تخذل لأن الضيوف سينصرفون جذلانين بما أكلوا، وبما سمعوا من حكايات الصيادين، والتي اجتهد في سردها الصياد المحظوظ، بعد أن سلم الأسماك التي اصطادها لزوجته، لتطبخها مثلما يجب.
لقد قال بأنه عادة ما يصاب بالإحباط. يحدث ذلك في الصباحات التي يكسوها الضباب، ويسقط المطر مدرارا، فيعود مسرعا إلى منزله متعثرا في تلابيبه. يحدث ذلك أيضا عندما تخلد الأسماك لقيلولة طويلة الأمد بعد ظهيرة صيفية، لكن الحظ يبتسم من حين لآخر، حينما تصبح الرياح خفيفة مثل أناشيد قديمة تنبعث من فجاج عميقة لا يدرك كنهها أحد.
لقد هوت السمكة بدون عودة. لقد كان آخر ظهور لها في هذه المسرحية التي ستتكرر دائما بممثلين آخرين في مسارح تتوزع على طول البحار والمحيطات عبر الكرة الأرضية.
كانت القطط قد اختفت الآن، وعاد الصيادون كلهم إلى منازلهم، وبقيت وحيدا فريسة لأحلام يقظة لا تختلف عن أحلام الصيادين.

هوامش:
١-الوجود والعدم – كتاب للفيلسوف جون بول سارتر.
٢- الأنا وحدية:أو ما يعرف بالذاتوية، والتي تعتبر أن الذات لا تستطيع سوى وعي ذاتها، وهي غير قادرة على وعي الذوات الأخرى، والتي نجدها لدى ديكارت.
٣- البين- ذاتية:القول بوجود تواصل دائم بين الذوات، بحيث يستحيل الحديث عن عزلة الذات، وهو ما نجده لدى موريس ميرلوبونتي.


الكاتب : مصطفى النفيسي

  

بتاريخ : 02/04/2021