«الجندر الحزين» للمفكر التونسي فتحي المسكيني

المرأة العربية والحق
في رسم الهوية الجندرية؟

متى صارت الإناث نساء؟ ما دام الرجال يزعمون أنهم رجالٌ بالطبع.
من هذا السؤال المحوري ينطلق الفيلسوف والمترجم الكبير التونسي فتحي المسكيني في كتابه الجديد «الجندر الحزين» ليبحث في قضية النوع وأسطورة النظام الأبوي التي نُسجَت في الأزمنة الغابرة، وبُني عليها نظامٌ اجتماعي ظل راسخا ردحا طويلا من الزمن، ولم يهتزَّ إلا مع الأزمنة الجديدة؛ حيث بدأ اختزال البشر في ذواتٍ مجرَّدة وتأسيسية انتهت إلى تجريد الرجال من أبَويَّتهم القديمة، وإفساح المجال أمام موجاتٍ غيرِ مسبوقة من الذات التي كان النظام الأبوي قد جرَّدها من ذاتيتها؛ هي موجاتٌ نسوية. لكن الفرق بين المرأة والنساء قد عمَّق المشكلة؛ فتحريرُ النساء معركةٌ لا تزال مذكَّرة في سريرتها، ولم تبدأ معركة المرأة بعد، ولا تزال الأنثى صامتة. وهنا يسأل «المسكيني»: إلى أي مدًى يُمكِن الاحتماء بما تقوله الجينات؟ قبل آلاف السنين كانت الأنثى حيوانًا مثل الذكر، وفي هذا لا فضل لجسدٍ على آخر.
يعتبر فتحي المسكيني ، بعيدا عن تفكيك الدلالات اللغوية والنحوية لكلمة الجندر، أن علينا أن نواجه أسئلةً تأويلية معاصرة (لا سيما بعد ظهور المذاهب النسوية، وخاصة بعد انبثاقة الدراسات الجندرية) من قبيل: هل فعلًا نستطيع أن نتحدث عن خطاب عن «المرأة» عند العرب القُدامى؟ أم أنهم لم يعرفوا سوى مفهوم «النساء»، كما هو مُثبَت في سوَر القرآن وفي كتُب الفقه؟ ثم ما الفرق في آخر المطاف بين خطاب المرأة وخطاب النساء؟ هل يتعلق الأمر بمجرَّد فرْقٍ بين المفرد والجمع؟ أم أننا أمام نواةٍ إشكالية أو جندرية لا زالت تستعصي على الامتحان النظري والتاريخي.
أما الدراسات الجندرية، في نظر المسكيني، فهي تطرح أسئلة غير مسبوقة حول جنوسة «المرأة» يقع تصنيفها عادة على أنها تمثِّل الجيل الرابع من الحركة النسوية العالمية والتي اشتدَّ عودها في التسعينيات من القرن الماضي في أمريكا. لم يعُد يتعلق الأمر بالدفاع الحقوقي عن «المرأة» بالمعنى النسوي (والذي ظل على ما يبدو يفهم الجندر في إطار المطالبة النسوية بإزالة التمييز بين الجنسَين، بل بتفكيكٍ تداوُلي لمفهوم «المرأة» ومفهوم «النساء» نفسه وذلك باعتباره مجرَّد «بناءٍ اجتماعي» يجدر بنا أن نبحث عن بناه ومفاعيله في كل الميادين، من النحو إلى التاريخ، ومن الاقتصاد إلى الدين، ومن القانون إلى الأخلاق، ومن أنظمة القرابة إلى الأدب. بذلك التفكيك فقط يمكن إعطاء المرأة فرصة التعبير عن هويتها الخاصة بوصفها قادرة وتملك الحق في رسم هويتها الجندرية. لم يعد المشكِل «حقوقيًّا» أو «مدنيًّا» (رغم أن بعض البحوث النسوية المطعمة بالدراسات الجندرية قد وجدَت نفسها مضطرة لمواصلة التنوير النسوي، وتحت وطأة نقد أنظمة التمييز ضد المرأة ظل التأصيل الجندري محدودًا) بل صار متعلِّقًا بضربٍ غير مسبوق من «سياسة الهويات» (اختيار النوع الاجتماعي، تكسير التقابل البيولوجي بين الذكَر والأنثى، بَلورة هويةٍ جندرية حرة، التحول من جنس بيولوجي إلى آخر … إلخ).
يقول فتحي المسكيني في المبحث الثالث من هذا الكتاب والمعنون بـ»الجندر الحزين: الفرْق بين المرأة والنساء» إن « ما يهمُّنا في هذا المبحث هو مدى إمكانية مراجعة الفرق بين المرأة والنساء في ضوء الدراسات الجندرية. لا يتعلَّق الأمر بالدفاع النسوي التنويري عن حقوق المرأة، بقدر ما يتعلق بالعمل النقدي على بَلورةِ سياقٍ مناسب لفهم تجرِبة هُوِية الأنوثة في ثقافتنا العميقة. وهو أمرٌ يستوجب إرساءَ تقاليدِ بحثٍ جندرية طويلة النفَس تحفر في تاريخ تقنيات الذات وأشكال الذاتية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم «.
لكن الدراسات الجندرية ليست نزعةً نسوية بالضرورة، إنها موقفٌ نظري وإشكالي أوسع نطاقًا من التنوير النسوي. إلا أننا قد نلاحظ أنه لم يتحقق الكثير على هذه الطريق، اللهم إلا بعض تجارب النقد السردي الرشيق، أو بعض الوثائق التأسيسية حول النوع الاجتماعي للمرأة، أو ترجمة بعض الكتب التأسيسية حول المرأة.
وبعامَّةٍ لا تزال أبحاثنا الراهنة بالعربية تميل إلى مواصلة الدفاع النسوي عن الأنثى بواسطة الدراسات الجندرية عن المرأة. والحق أن ذلك قد يؤدِّي إلى تأمين استعمالٍ أداتي وخارجي للمكاسب المعيارية التي تحقَّقَت بفضل الدراسات الجندرية، لكن صعوباتٍ نظرية عميقة لا زالت تعسِّر الذهاب قدُمًا وبلا قيد أو شرط أخلاقوي أو ديني في تبني أو احتمال الوعود الأخلاقية لفيلسوفات الجندر، من قبيل جوديت بتلر، وهي وعودٌ تقويضية وتفكيكية من طرازٍ رفيع. وفي صيغةٍ فلسفية مزعجة يمكننا أن نتساءل: إلى أي حد يمكن للدراسات النسوية العربية أن تحرر النساء (ضد تاريخ التفاوت الحقوقي بين الجنسَين) من دون تحرير الأنثى داخل المرأة (باسم حقها في سياسة هويةٍ خاصة «ما-بعد-أنثوية») من تاريخها النسوي؟ ذلك بأن تحرير النساء هو معركةٌ حقوقية وسياسية مع مجتمع الرجال وسلالم أخلاقهم وتاريخهم الاستبدادي … إلخ، في حين أن تحرر جندر المرأة (النوع الاجتماعي أو الجندر) أو جندر الأنثى (الكائن الهووي المفرد والمستقل) هو مشكِلٌ ذاتي وما-بعد-نسوي تمامًا. إنه يخص طبيعة الجندر بما هي كذلك، كما هي مختفية في حرمة الجسد ما-بعد-النسوي واستعمالات الرغبة الخاصة وحرية التعبير الفردي واختيار الشخصية الجندرية وسياسات الهوية … إلخ.


الكاتب : الاتحاد الاشتراكي

  

بتاريخ : 28/09/2023