الشعر النسائي المغربي المعاصر :تجليات الذات النسائية المبدعة

ظلت القريحة الشعرية المغربية على مر السنين والأعوام، معطاءة، تجترح الصور الفنية وتشكل الاستعارات، وتنسج الواقع والحلم، وتخط ملامح الأمل؛ بلغة رصينة ونسج محكم، واستلهام كبير للمبادئ الكونية، التي تدعو للمحبة والسلام، وخلق عالم سليم من التشوهات الفكرية والاجتماعية والنفسية. أفقها واحد وموحد، ومبدأها ثابت لا يتغير، يقوم على أساس تقدير اللحظة الشعرية التي يعيشها الشاعر، باعتبارها لحظة فارقة ينتقل بها ومعها الشاعر من الواقع إلى الحلم، ومن الألم إلى الأمل. من عالم تتكدس فيه المحن، وتكثر فيه الأعطاب الفكرية، إلى عالم رحب فسيح، يتجاوز من خلاله الشاعر مطبات المجتمع والواقع، بالقفز خارج دائرة اليأس والقنوط والموت، سواء منه الموت الفزيائي، أو الموت المعنوي النفسي.
تأتي هذه الورقة لتسلط بعضا من الضوء على واقع الشعر المغربي سيرورته وواقعه، لاسيما منه الشعر النسائي. ويأخذ هذا الاختيار مبرراته الإبستمولوجية، من كون هذا النسق الشعري “الشعر النسائي المغربي” حقق تراكما طيبا، ودشن لبدايات شعرية مشجعة، لكنه للأسف لم ينل حقه من الدراسات، والمتابعات النقدية، القمينة بتحليل نصوصه ودراسة بناه التشكلية، وتشكلاته الفنية والتعبيرية. لذلك ننطلق من سؤال محوري هو:
ما موقع الشعر النسائي المغربي في الخريطة الثقافية والشعرية المغربية والعربية؟ وما حجم التراكم الذي حققه هذا الشكل التعبيري؟.

 

وسمت الشعرية المغربية المعاصرة، في الحقل الدراسات الأدبية والشعرية، بأنها شعرية مرتبطة بالواقع، شديدة الالتصاق باليومي وقضايا الإنسان، شعرية مسكونة باجتراحات الحلم والأمل، والرغبة والرهبة، والانقباض والتدفق. شعرية تجمع لآلئ العقد المنثور لتشكل منه حليا مسبوكة بدوق فنان، ورؤية شاعر حالم. وكان الأمر يزداد توهجا ورهافة، عندما كان يتعلق بتجربة شاعرات مرهفات، ينحتن أسماءهن على صخرة صلدة ظلت لحيز زمني كبير بيد الرجال. لذلك فقد استطاعت الشعرية المغربية المعاصرة، أن تختط لنفسها منحى جديدا ومغايرا، وأن تبلور ملامح خرائط شعرية جديدة، أثبتت جدارتها الفنية و الجمالية، بحيث لا يقل منجزها الشعري شاعرية عن نظيراتها المشرقية، أو ما اصطلح النقاد على تسميته الحساسية الشعرية الراهنة في كل الأقطار العربية، وخاصة بعد التسعينيات من القرن الماضي. وكل ذلك يعزوه الدارسون للمشهد الشعري المغربي، إلى حرص الشعراء والشواعر، على الانفتاح على مختلف الجغرافيات الشعرية الإنسانية؛ ولعل قصيدة النثر إحدى حسنات هذه المثاقفة الشعرية والنقدية، باعتبارها إحدى التحولات الكبرى التي أغنت المشهد الشعري المعاصر في المغرب من جهة، وخلخلت أفق انتظار متلقي النص الشعري من جهة أخرى.
يتعلق الأمر، إذن، بتجربة إبداعية وجمالية أخذت على عاتقها تشييد معالم شعرية مغايرة للمألوف، والسائد، سواء على مستوى الممارسة الشعرية، أو على مستوى التنظير النقدي. شعرية متأبية ومتمنعة، لن تنكشف مقوماتها وسماتها إلا بالإنصات العميق إلى نبض وصوت أو أصوات النصوص، والإبحار في عوالمها السحرية وأقانيمها المخبوءة، شعرية تنهض في تبنينها وانشغالاتها، على مجموعة من المقومات الفنية والجمالية الحاملة لخطاب أو خطابات شعرية مشروطة بسياقها التاريخي والثقافي. وإذا كان فعل القراءة يتيح للنص إمكانيات التداول
والشيوع والاستمرارية في الزمان، فإن السؤال الإشكالي الذي يطرح في هذا الصدد هو كيف تتشكل شعرية هذا النص الشعري؟ هل في علاقة اللغة الشعرية بمعجمها وتركيبها ودلالتها؟ أم في علاقة هذا النص بالرؤية للعالم؟
ولما كان هذا المقال يندرج ضمن سلسلة المقالات المهتمة بالشعرية المغربية المعاصرة وخاصة ما تبدعه الشواعر المغربيات، فإنه يراهن على المساهمة في تلقي نتاجهن الشعري، الذي ظل يعاني من قلة المتابعة النقدية الجادة، على عكس الاهتمام الزائد بما تنتجه من أجناس أدبية أخرى – القصة والقة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية ــ باستثناء المتابعات النقدية الصحفية التي لا تتجاوز في بعض الأحيان، حد التعريف والوصف، بعيدا عن التجاوب الجمالي الفعال، المنصت لنبض النصوص وصوتها الشعري.
وتأسيسا على ما سبق، فإن التجربة الشعرية النسائية المغربية، تنكشف ملامحها أكثر من خلال الاجتراحات الشعرية البليغة التي تجترحها الشواعر المغربيات، وكذا من خلال الصور الفنية والمقومات الجمالية الدفينة في جسد القصيدة. تخييلات شعرية، واستعارات حالمة، وتشبيهات فريدة، تقطع مع المألوف والنمطي، لتشكل دورة حياة شعرية جديدة، يمكن أن نسميها بدورة حياة الاستعارة في الشعر المغربي المعاصر. لذلك فإن الشعرية المشار إليها لن تفهم أو تتضح معالمها، إلا بالكشف عن شعرية النص الشعري النسائي المغربي، من خلال التتبع الدقيق لحياة الاستعارة في الشعر النسائي المغربي الحديث؛ بما يكشف عنه هذا المكون البلاغي من إشارات ودلالات شعرية تعمق مفهوم الشعرية، وتزيد من إمكانيات الرصد والبحث والدراسة. مع فتح آفاق الدرس النقدي على عوالم معرفية من شأنها أن تقدم إجابات ناضجة عن أسئلة لاتزال عالقة وتخص بالأساس تسليط الضوء أكثر على مكون ثقافي جد مهم، أقصد به الشعر النسائي المغربي الحديث، وذلك من خلال مقاربة نماذج شعرية منتخبة لشاعرات أظهرن علو الكعب في باب القول الشعري وعن عمق التجربة، والارتباط الوثيق بالواقع المغربي، على اختلاف تلويناته وتعدد مشارب ثقافته؛ واقع متناقض أفرز أنماطا تعبيرية مختلفة، تراوحت بين الشعر والرواية والقصة والمسرح وكتابات نقدية في مواضيع مختلفة.
إن الدعوة إلى تجديد رؤيتنا للشعر النسائي المغربي، وإيلائه المكانة التي يستحق، وإعظام التقدير للشواعر المغربيات، يأخذ منطلقه من كون هذا المعطى الفني يشكل تجربة فتية وفريدة، وأرضية خصبة للبحث الأكاديمي والدرس النقدي. إنها تجربة حبلى بمقومات فنية وجمالية جديدة غير مكتشفة. أرض بكر للعمل والبحث والكشف، مواضيع غير مستهلكة ولا نمطية. لذلك فإن أهمية الاشتغال على الشعر النسائي المغربي المعاصر، تعود إلى الأسباب الآتية :
أولا: كون الكتابة الشعرية النسائية المغربية كما قال الأستاذ رشيد يحياوي في مقال له، كتابة شابة، في سن شاب عمره في حدود 33 سنة، بدءا من الثمانينيات حيث صدرت ثمانية دواوين. فقبل ذلك صدرت ثلاثة دواوين فقط. إلا أن التسعينيات ستمثل نقطة تحول كمي في عدد الإصدارات، حيث بلغ عدد الدواوين المنشورة 37 ديوانا، فيما مثلت سنوات الألفية الجديدة علامة فارقة قياسا إلى ما سبقها، إذ تعدى عدد الإصدارات الشعرية النسائية حسب بعض الإحصائيات 150 عنوانا، بحيث تجاوز عدد الإصدارات الشعرية مجموع الإصدارات القصصية والروائية النسائية في ذات الفترة.
بدا كما لو أن تاء التأنيث الشاعرة تنتقم من صمت سابقاتها الخاضعات في النشر لضمير المذكر، وانتقل الصوت النسوي شعريا ليفرض كيانه في العديد من الملتقيات الشعرية، حتى أن بعض العيون النقدية المغرضة تكلمت وقتها عما سمته بتقليعة الشاعرات المغربيات. ما كان ينبغي فهمه، أن الموجة البشرية الشعرية نسائيا، لم تكن موجة أيضا ولا تقليعة، وإنما إقلاعا شعريا بصوت المؤنث يرجع لسياقه الثقافي والاجتماعي، وهو توسع انفتاح المرأة على المجال الثقافي والفني، وازدياد وعيها بذاتها وحضورها، وطموحها لأن تحرر لغتها من تقاليد الكبت اللغوي والفني والقمع الاجتماعي.
ثانيا: إن قنوات النشر الرسمية ممثلة في وزارة الثقافة، وقنوات النشر الجمعوية كاتحاد كتاب المغرب، وبيت الشعر في المغرب، لم تنشر مجتمعة من الإطلالات الشعرية النسائية سوى ما يقل عن عشرين إطلالة، ندرك العبء المادي والمعنوي الذي تحملته شاعرات المغرب لطبع دواوينهن وإيصالها للقراء، وما كان ذلك ليحدث من طرفهن لولا أن الشعر أصبح لديهن يستحق المجازفة ماديا ويستحق توطين أحلامهن لغويا.
ثالثا: كوننا نستطيع الآن الحديث عن حركية شعرية نسائية في المغرب خصوصا إذا أدخلنا في الحسبان شاعرات الإنترنيت وعددهن كبير، فضلا عن العشرات من الشاعرات المتواريات خارج أضواء النشر يتفقدن مخطوطاتهن بحسرة المتأسف، ويتسع هذا المشهد لو انتبهنا للشعرية المغربية المؤنثة بمختلف روافدها اللغوية، الأمازيغية، والحسانية، والزجلية، والناطقة بلغات أجنبية.
يمكننا القول إن هذه الطفرة الواعية للشعر النسائي المغربي الحديث هي إقلاع شعري حقيقي بصوت المؤنث وطموح لتحرير الذات واللغة إنه إقلاع شعري يستحق نظرا لقيمته الفنية أن ننعته على حد وصف الناقد المغربي الكبير بنعيسى بوحمالة ب ” تسونامي الشعر النسائي ” وفي هذا يقول الدكتور بعيسى بوحمالة : إن الكتابة النسائية الشعرية في الألفية الثالثة عرفت وفرة مهمة، وانفجارا نسبيا، يمكن نعته بـ “تسونامي” شعري نسائي، وأنها ساهمت في تحقيق تراكم مهم في الكتابة الشعرية المغربية، وفي الرفع من منسوب تأنيث المشهد الشعري المغربي.
وفي نفس السياق تؤكد الدكتورة زهور كرام واصفة الشعر النسائي الحديث بأنه أفق مفتوح على التنوع. هكذا نلتقي منذ العقد الأخير من القرن العشرين إلى الآن بعدد مهم  من أسماء نسائية دخلت بقوة إلى المشهد الإبداعي، فاعلة فيه عبر خصوصية كتابتها التي لا شك أنها تطرح أسئلة جديدة ومختلفة على النقد المغربي، على حد قول الدكتورة زهور كرام.
رابعا: كون هذا الزخم الجميل من اللغات المؤنثة شعريا لم يجد طريقا لتكريسه والرفع من شأنه وهو أمر يمكن إرجاعه لمحددات ثلاث هي ،
ــ الأولى تخص ما ذكرناه عن النشر التابع إما للدولة أو للمجتمع المدني.
ــ الثانية تخص الجوائز، إذ لم تصل إلى قمة أهم الجوائز المغربية رمزيا سوى خمس شاعرات، فبالنسبة لجائزة المغرب للكتاب في صنف الشعر نالتها وفاء العمراني سنة 2006 عن ديوانها “فتنة الأقاصي”، ولطيفة المسكيني سنة 2008 عن ديوانها “حناجرها عمياء” وفاتحة مرشيد سنة 2011 عن ديوانها “ما لم يقل بيننا”. بينما نالت إيمان الخطابي جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب عن ديوانها “البحر في بداية الجزر” المنشور من طرف الاتحاد سنة 2001. أما بيت الشعر في المغرب فشبيه بشقيقه اتحاد الكتاب، لم يقدم لنون النسوة الشعرية سوى جائزة واحدة كانت من نصيب لطيفة المسكيني سنة 2003 عن ديوانها “السفر المنسي”.
ــ الثالثة فهي واجهة النقد الشعري، الذي يعد محدودا من حيث التراكم بالنسبة للشعر النسوي، إذ لم تلق إصدارات النساء اهتماما ملحوظا من النقاد عدا القلة من مقالاتهم الخفيفة ودراساتهم التجزيئية؟
رابعا: كون هذا الابداع يعبر تعبيرا صميميا عن نسق حضاري يتطور ويتقدم بسرعة مواكبا تقدما عالميا وعاكسا وجها ايجابيا لتقدم إنساني تتموقع فيه المرأة في موقع الفاعل الرئيسي والمنفعل المندمج مع محيطه وواقعه. بناء على ما أوردناه ما كان لهذا الدفق الشعري النسائي، الذي انطلق منذ عقد ونيف، إلا أن ينتزع مكانته الاعتبارية في الفضاء الشعري المغربي الحالي، وتكفينا نظرة فاحصة لحاصل تراكم الدواوين الشعرية، للفعاليات الشعرية والثقافية، المغربية والعربية والدولية، التي يساهم فيها العنصر النسائي. لحجم الاهتمام الإعلامي، الورقي والسمعي – البصري والإلكتروني، بالصوت الشعري النّسائي، إخبارات وتغطيات واستضافات وموائد مستديرة. ولأن الأمر كذلك فستكون بعض من حسنات هذا المكتسب هي الحضور الوازن، إن لم نقل الاكتساح، لهذا الصوت في الأنطولوجيات المعدة في لغات أوروبية وكذا الترجمات التي كانت من نصيب دواوين مفردة لأسماء شعرية في اتجاه لغات، حتى من غير الأوروبية.. وهذا من علامات ارتقاء النص الشعري النّسائي المغربي، ودليل على اتّساع مقبوليته وانفتاح القطاع القرائي عليه.
لا نغفل، كذلك، معطى آخر ألا وهو اقتحام التجارب الشعرية النسائية لدائرة البحث الأكاديمي، سواء على صعيد بحوث الماستر أو أطروحات الدكتوراه، عالجت قضايا وأسئلة تمس الخطاب الشعري النسائي المغربي. وإذن، وللتدقيق، فليس الأمر أمر ندية ما أو مساواة مطلقة بين النصين الشعريين، الذّكوري والأنثوي، في فضائنا الشعري، بحيث إن كانت هناك ثقافات أكثر قوة وانفتاحا وتسامحا، مقارنة مع ثقافتنا، لم ترق فيها الأشياء، مع ذلك، إلى هذا السقف المثالي فما بالنا، نحن الذين ترزح ثقافتنا تحت ثقل الاصوات المضادة للأنثوي، اجتماعيا و قيميا. الأمر، ببساطة، أمر ظهور وإعلان عن التواجد والفعل ضمن رقعة تكاد تكون مؤممة من لدن الصوت الشعري الذكوري.
إن الدعوة لإعادة قراءة الشعر النسائي المغربي، والتفاعل معه بالدراسات والأبحاث النقدية، هي دعوة جادة لإعادة الاعتبار لمكون ثقافي أصيل في التربة الثقافية والفنية المغربية والعربية، وايلائه المكانة التي يستحق. أولا من باب الاعتراف المفروض أخلاقيا وثقافيا، ثم من باب كسر الجمود وتحطيم كرة الثلج، التي تناسلت بشكل كبير وغير لائق، حاملة في طياتها أفكارا مسبقة، أغلبها أحكام قيمة لا ضرورة تفرضها، تقارن بشكل مغرض بين الانتاج الشعري الذكوري والأنثوي. وهي مقارنة مغرضة غير موفقة، لأن الانتاج الأدبي والفني، لا يحتكم لقانون الجنس أو الجغرافيا. محدده الفاصل هو امتلاك القدرة على تشكيل معالم القصيدة، وفق تصورات فنية وجمالية جديدة، واقتناص لحظات الجمال في الكون والأشياء، لخلق صور فنية حافلة بروح الجمال، المعبر عنه بالاستعارات الفنية الحالمة والرؤى التخييلية المتفردة. إن الشعر النسائي المغربي المعاصر، هو صورة وتجل حقيقي لروح الإبداعي النسائي، الذي ينحت على الصخر اسمه، في نوع من المقاومة الروحية والكونية، الطبيعي، لتأكيد حقيقة فاعلية المرأة ومحوريتها في منظومة الكون ككل، ككائن خلاق ومبدع وفاعل، ضدا عن كل التصورات البائدة التي تنقص من حقها وتجعل منها انعكاسا للذات الذكورية.


الكاتب : د. هشام رحمي

  

بتاريخ : 01/10/2021