الشعر في يومه العالمي : في غزة وحدها، الحياة تحدُثُ صدفةً 

 

«هذه الحرب تنقصها قصيدة كي لا يولد المجاز ميتا»
غياث المدهون

يأتي اليوم العالمي للشعر اليوم،21 مارس 2024، كما في سنواته الأربع الأخيرة محملا بأسئلة الخراب، منذ وباء كورونا إلى حرب أوكرانيا إلى طوفان غزة. فهل مازال الشعر قادرا على تفكيك خطاب الحرب وإيصال الحواس المتفجرة بالألم إلى قارئه؟ ألا تدفع حرب غزة وكل الحروب التي خاضها الفلسطيني دفاعا عن وطن لم ينضج إلا لغةً في فمه، تدفع الشعر اليوم كتعبير إنساني يتأسس على القيم والحس الإنساني ، إلى كتابة نفسه بشكل مختلف يلتحم فيه مع الألم الإنساني الأكبر الذي يواجهه العالم في مواجهة منطق القوة والهيمنة؟
أي سردية مازال بمُكنتها، إبداعيا، أن تنقل كل هذه الفيوض من لغة الحواس والأجساد التي تصرخ دماؤها الملتحمة بجذور الأرض، رافضة اقتلاع الروح من جسد الأرض الأم بعد أن فشلت  اللغة السياسية والسياسيون في مواجهة جحيم الحرب والدمار؟ وأي لغة بمقدورها أن تترجم هذه التراجيديا الإنسانية المكتوبة بالدم والتراب ونحيب الأطفال والأشلاء بعد أن فشلت لغة السياسي، الباردة، في أداء هذه الرسالة وفي وقف جشع رجال يرتدون الدم والحروب؟ وأي قصيدة يتسع صدرها للصور والذكريات والحنين والجدران ورائحة الأمهات؟
وحده الشعر المؤتمن للحفاظ على مضغة الحياة في الوقت الميت بين صوت إطلاق القذيفة وصوت ارتطامها بالروح وبالجسد؛ ووحده الشاعر من يجعل قصيدته سجلا لتدوين اللحظات الكبرى في تاريخ الإنسانية بآلامها وانتصاراتها، ويجعل لهذه اللحظات شكلا ووجودا شعريين.
حين تصيب القذيفة جسدا أو جدارا، تنتهي إلى رماد؛
وحدها القصيدة حين تطلق رصاصاتها، تحيا وتمد جذورها في الوجدان، تذكر محتل الأرض برائحة الدم العالق في يديه، وتذكر صاحب الأرض بجذره الإنساني النابت في جذر الوجود.
القصيدة كبناء مواز للمأساة وللألم، وفي نفس الوقت متمردة عليها، توجد اليوم على المحك في زمن وعالم يريد تحويلها إلى وسادة ناعمة، إلى حيادية صامتة وغير معنية بانتشال الحياة من مخالب الجحيم، عالم يريد أن يمنحها عطلة طويلة الأمد لتحييدها عن استفزاز الواقع، وإفراز تلك الجرعة المضادة لسرطاناته ولتفاهاته ونسخه المتشابهة باسم العولمة.
الشعر هو الوحيد الذي لايزال على جبهة المقاومة، وحيدا أعزل، ولم يفرط في إنسانيته يوما أمام الحرب التي تخاض اليوم بأشكال وبأدوات جديدة، في غزة وفي كل العالم. وحين تقف قصيدة العالم اليوم مع غزة، فلأن الشعر كان دوما أفقا للمقاومة والتحرر، ولأن القضية الفلسطينية قبل أن تكون قضية سياسية، هي قضية أخلاقية وقضية حق؛
وحين يكتب شاعر من داخل المحرقة.. ومن إحساس ضاغط بالموت المرتقب في كل لحظة، تحت صوت القنابل وجثث الأطفال، فإنه يكتب بإحساس إنسان يعيش الموت كل دقيقة، ويجرب الحياة كل يوم. ففي غزة وحدها، الحياة تحدُثُ صدفةً ! أما الموت، فهو الوسيلة الوحيدة للنجاة من الخوف.
القصيدة اليوم ليست في مواجهة حرب معزولة تخاض هنا أو هناك، بل في مواجهة المصير الإنساني المجهول الذي يتجه نحو الكارثة، ولا أحد قادر على وقف هذا الزحف السريع نحو الانهيار.
قصيدة العالم اليوم هي قصيدة غزة في مواجهة الإبادة، الإبادة كفعل تدميري للإنسان، للذاكرة، للأمكنة و…للحياة. وهي على خط النار، مطالبة بأن تلبس سترة واقية من الرصاص كي تكتب عن الحب والحزن والفرح المؤجل، وعن الموت الذي يتنزه في الطرقات ويطل من النوافذ.. مطالبة بأن تكتب عن الروح كي لا تتعفن. فقطعا، ليست هذه المحرقة، هي الطبعة الأخيرة من الحرب.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 21/03/2024