الصمت والمتخيل في ديوان «فعلي يلكاني» لإدريس الطلبي

إن جنس الزجل بالمفهوم الأدبي، لايزال يعيش انفلاتا على مستوى تحديد فضائه وضبط مكامن هويته، مادامت تتعايش باسمه مجموعة من الألوان الأخرى لثقافة الذاكرة كالعيطة والملحون وقصائد الأغاني وغيرها مما له طابع النظم والسجع.. هو إشكال نبحث من خلاله عن شعرية الزجل كما نظن في اعتقادنا. لا كما هو في اعتقاد مجموعة من كتاب كلمات.. كما أنه انفلات نقدي على مستوى الاهتمام كرّس ما أشرنا إليه سابقا لتمييز التجربة الزجلية عن الأشكال التي لحقتها، في غياب معايير كيان ذاتها وهويتها. هذا الغياب ساهم بشكل غير مقصود في نمو التجربة الزجلية، حيث صار لكل زجال عالمه الخاص أنّى شاء، مما أغناها بعيدا عن قيود المدارس، والاتجاهات، وأي تبعية بمعنى ما لا تذوب مطلقا في النموذج، وإنما تحاكيه إيمانا بما يحمله..
يبقى هذا الإشكال بطعم التهميش لثقافة الذاكرة العالمة في مكوناتها الفنية، والأدبية. وهذا يؤهلنا إلى التمييز بين المتداول من أفكار ومأثور ووظائف هذا الأخير في قضايانا المختلفة، وبين الزجل.. لذلك تكون بوابة المستهلك اليومي بما يتولد عنه معجميا هي اللغة / اللغة المحكية. من خلالها نتطلع إلى البعد الوظيفي للمتخيل باختلاف أشكاله، فنكون أمام ديوان «فعلي يلڭاني» كي نبتعد عن عمومية التجنيس، ونحط الرحال بعالم أدبي ارتبط، اعتقادا، في مجمل مراحله بالطابع الخطابي المفروض باللغة..
لا يستقيم في الذهن هذا المتداول عن الزجل وعن طبيعة خلقه وإبداعه.. إلا بمقاربته لحظة تحويل المتخيل إلى المادي بكل تداعياته في وعي الطلبي ولاوعيه إيمانا منا بما يقوله بشار بن برد «إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله». كل هذا يمنحنا فرص مساءلة الديوان بنية ودلالة، لبناء قراءة تحاول القبض بمعنى ما عن هذه التركيبة التي يتفاعل فيها الزجال مع ما تستجيب له قريحته، فالشاعر الألماني نوفاليس يرى أن»النقد الأصيل يرتبط بالقدرة على إبداع نفس الإنتاج»حتى نستطيع النبش في كل الافتراضات التي تنير حفريات ذاكرة أنّاهُ ونحنُهُ، خصوصا أن الديوان يزخر بتقاطعات ألوان موروث هذه الذاكرة واستمراريته بعيدا عن صلاحيته للخطاب الشفهي فقط. لكن تحيينه في الإبداع يتخذ دلالات تحيي الكامن، وتحركه وفق ما تستدعيه لحظة الولادة في انتظارتأثيث فضاء جديد معجميا ووظيفيا، يؤصل قوانين نسبية للزجل من حيث أدبيته بمفهوم كريستيفا وبارث…
إن تعاملنا مع الديوان ليس كمسلمات مسكوكة دلاليا، بل رصده رصدا فنيا يراعي خصوصية الزجل كأداة تستلهم المتخيل في صورته الذهنية فنيا كما يشير تولتستوي إلى ذلك «كل عمل فني هو وليد الحاجة والرغبة في خلق شيء»
في مرس الكلام
حاضي لخوا ليفيض
عاد راسي حاجة وشان
خماس مني تراس
فعلي يلڭاني
عندما نقف عند ثقافة الذاكرة واستمرار حركيتها من توالد في اللغة المحكية نتيجة متغيرات حياة المجتمع في أفق الدينامية العالمية.. يتم استثمارها في إنتاج دفق هائل من الصور والانزياحات بعفوية واعتباطية سوسير، كي تذوب في الاستعمال اليومي، وتصبح جزءا من الذات المنتجة له. لكن لا تستهلك بنفس المنطق السائد (ولو في صورها الجديدة) بل الزجال ينتجها في أشكال متعددة ترقى بإمكانية اللغة المحكية الخطية إلى ما هو شاعري مركب ومتداخل يقول الفيتوري «كيف يمكنني أن أصف بل أحلل حالة تركيبية بالغة التعقيد والتداخل دائمة التجدد والتغير». هذا التداخل نميز فيه بين شعرية محكي اللغة المألوفة، وبين شعرية تنفصل تعبيرا ودلالة عن المألوف عندما تجوب عالم الديوان..
لوكانت الكلمة كلمتي
نسرج ليك عود الليل
حتى يطلع فجر الكلمة
الساكنة في جوفي
من خلال المقطع تبدو تجربة الطلبي»شديدة الكثافة تعبر عن وجود هارب يحاول الشاعر أن يعبر عنه.» بمفهوم البياتي. ولا يتم هذا الهارب عنده إلا حين يستقيم فكرا وشعورا تمتزج فيه الموهبة، والممارسة، والحمولة الثقافية.. يجعله ممسكا بجميع فضاءات الصور وعوالم متخيلها الشعري مما يسمها بالغموض الناتج عن مخاض فرزها الذاتي والجماعي. أي بين الروح والجسد نزولا عند رغبة ولادة الإبداع. فهي بتعبير معين بسيسو « تتشابك وتنفصل وتلتحم، ترتفع فيها الأصوات وتنخفض.»
ها ڭلبي مشنوق
في رحبة الدلالة
مدلي من سقف الوفا
نتسنى صابون الحال
في عطفة الصفا مخطوف
نتشطح في حضرة الشوڭ رماد وعوافي
كلما لامسنا قصائد الديوان، إلا وانفتح لنا أفق بحث المسكوت عنه فيها. أي أنها تفسح المجال لتأطير العلاقة الجدلية بين ذات الشاعر المبدعة، والواقع كقوة مباشرة تستفز ذاته الشعرية كفنان ومسرحي وكاتب. هذا التجانس لا يستبعد مظاهر الأخذ والرد بين الرغبة أو ما نتوق له جميعا، وبين صعوبات الواقع ومرارتها، حتى لا يبتعد في شعره عن هويته وكيانه، لأهمية الخفي ــ المسكوت عنه / الغموض/ المتخيل الشعري ــ في قصائد الديوان يرى بيار ماشري أن «ما يدلي به أثر لا يتأتى إلا من صمت. ذلك أن بروزه في ذاته ينطوي على حضور المسكوت عنه».. هي إذن عوامل متظافرة تبعث هوية إدريس الطلبي الإبداعية، وأصالته باستمراريتها مصالحةً واصطداما بمستجدات الواقع الفعلي ومتغيراته..
راري يا بويا راري
ملي تجواد النغزة
ف ظهر العريان
دلي رجليك وديماري
نفهم أن الذي لا يمكن تجسيده لا بالنطق ولا حتى بالكتابة (المسكوت عنه)، نقرأه باعتباره أصل المتخيل الشعري، وهو في نظر بيار هوفل «تصور إشكالي متميز، خلافا للمكتوب والمنطوق.. فالصمت في معناه الجوهري فعل تلفظي.. مسجل في الخطاب بطريقة سببية». إن مقاومة الخصاص في العالم الخارجي لا يتأتى إلا من الحالة النفسية التي يكون عليها إدريس، وكيفية تحويلها إلى اللغة (النص). فهي صعوبات تعتريه ما بين الحالة والإبداع / الكتابة والتغيير / اللغة والدلالة.. وما بين الرغبة والواقع يقول درويش «لم يحدث أن ذهبت إلى الكتابة بشهية ورغبة وتحققت رغبتي»
هربنا من الڭطرة
طحنا في القادوس
شكلنا الڭمري
وسرجنا العتروس
إن حتمية قراءة المعجم اللغوي في الديوان لكون مؤطر جغرافيته (اللغة المحكية) عنصر أساسي من كيان المتلقي باختلاف مرجعياته وثقافته. فأول ما يلفت الانتباه تشعبُه، وكيفية تفعيله كرونولوجيا بين الأمس واليوم، كي يغطي مناحي حياة شريحة اجتماعية بعينها، ثم بعث طبيعة هذه الحياة وما يعتري سياقاتها الراهنة من صعوبات بعد أن كان تعميمها جزءا من هذه الحياة (شناف، النيرة، يشفڭ، السفا، الغنباز، غارزة، عڭل، ڭاري، طاشمة الفقيه، المزلوط، النقابي، السياسي، الغني، الدرويش..) إذن فالمعجم لا يحتوي أيقونات لفظية نعرف حمولتها المعرفية والحياتية والتراثية فقط، بل كيفية استثمارها لطرح قضايا كبرى ذات بعد معتقدي واجتماعي وسياسي.. إن إنتاجه في الإبداع يفسح مجال تأريخه داخل عالم الأدب والفن فيصبح من اللغة المحكية بمفهومها المعياري أي ضوابطها /قوانينها التي تؤسَّس من خلال الاستعمال الشعري. بمعنى أن الزجال إدريس يمنحها فرصة الانتشار عن طريق الانزياح كما يقولMocorofeskyموكوروفسكي» كلما كان قانون اللغة المعيارية أكثر ثباتا في لغة ما، كان انتهاكه أكثر تنوعا، ومن ثم كثرة إمكانات الشعر في تلك اللغة. ومن ناحية أخرى كلما قل الوعي بهذا القانون، قلت إمكانات الانتهاك، ومن ثم تقل إمكانات الشعر.. «
زيد وزيد
عيَّرتك نقرة
كشفتي حديد
زيد وزيد
لبستك بالي
لحتو جديد
هي إمكانيات داخل المعجم لتنامي ظاهرة التضاد أيضا (الحرام الحلال. عشاق ملال.. ضياقت تفاجى. لحرار لعبيد. داني بعيد. عطات ما دات. ما ماتت ما حيات. ما سكتت ما دوات. ركوب نزول..) كظاهرة بنائية تسهم دلاليا وإيقاعيا في تماسك شعرية الديوان. مما يضعنا أمام الخلق المتحكم في الإبداع كحصيلة فطرية تنبعث عن رغبة لا إدراكية عند الزجال للقبض على الممارسة الشعرية بلاغيا داخل جمالية الأزل الشعري وفنيته، تنتظر وقعها على المتلقي..
فحلة هي عزرية
حليبها سيال
عطات ما دات
ما ماتت ما حيات
ما سكتت ما دوات
ولادها كيف الشتا
وتتعد مع العاڭرات
هذا التوجه الذي يهدئ من شعرية اللغة في جماليتها، هو نتاج لتوتر شاعرية الطلبي، فيعبر عنه سارتر بقوله «لا يمكن أن أكتشف وأخلق في آن» بمعنى أنه رواسب لأفكار ومشاعر وظلال في مدها وجزرها.. حتى تستقر مواقعها اللغوية باللغة، كما يقول نزار قباني «أن الشعر يصنع نفسه بنفسه وينسج ثوبه بيده وراء ستار النفس» أو هي نتاج في نظر فوكو «لفلسفة الذات الفاعلة وفلسفة التجربة المنشئة وفلسفة القرائن، ترتبط بعالم الخطاب» فلم يقف هذا المعجم عند متون الديوان وتمظهرات أشكاله اللغوية والتصويرية بل ساهمت الأمثال كجزء من تركيبته في رؤى الذات ومنظورها الخاص للشعر
ما بقى ما يتڭال
واش بصح بالمهل
كيتكال بودنجال
والخاص بالعالم الخارجي في تناقض بنياته. حالات هي لتراكمات متعددة، ولمشارب متنوعة، تجد طريقها إلى المثل في اختزاليته
هيهي
بين اللڭمة والفم زحام
طاحت الصمعة علڭو الحجام
تمة التم الكلام
مللي يحرن الوقت
في عين الهبال
يسلت بعظامو صحاح
يخللي الفضل وراس المال
إن رمزية المثل في النص الشعري تغنيه بنية، وتفسح المجال لإمكانيات القراءة المتعددة لما هو في سياقه، بغلبة الهم العام وتبريره بأنطولوجية هايدغر أو ما قاله درويش عن هذه الحالة الإبداعية «تبدأ دائما بقلق مدمر من حالة وجودية». فالطلبي لم يكتف بالمثل. بل تعداه إلى العيطة والحكاية.. هوانفتاح على آفاق التخييل الشعري باللغة المحكية حين تجد مبرراتها الإبداعية بدهاء يجعل منها بؤرة شعرية..
خايف عليك أبويا
تطالي بالخدام
وترهن الدراري
راري يا بويا راري
إن الأشكال والبنيات التي تتيح لنا فرص القراءة بتأويل دلالاتها، انفلات يعيشه القارئ بآلياته كما يعيشه الزجال مع اللغة في نظرنا. وهل فعلا استطاعت هي الأخرى أن تقبض متخيل الشاعر المطلق. في ذلك يقول نزار قباني «ليس من السهل مراقبة القصيدة وهي تتشكل، والشاعر الذي يحاول أن يتأمل حركة أصابعه على الورق يشبه سائق الدراجة الذي يتأمل حركة قدميه فيرتبك ويفقد توازنه».. هذا القرب والبعد من القصيدة هما المسافة نحو تذوقها والإحساس بمتعتها سواء ارتبطت بالذات أو بالواقع..
اللي ونى ونى
واللي داع عليه السيل
مازال كيتسنى
ناشر عراه على كتاف الليل
وعاض في بزولة اللغا
كلام وتبرويل
تبقى مقاربتنا للديوان قراءة تجوبها بنية ودلالة، وأي تقصير نجد ضالته في ما يذهب إليه سعدي يوسف وصلاح عبد الصبور عندما يفسران ذلك بقول أفلاطون «في أن العجز عن التفسير العقلي كثيرا ما يحيل القضايا العصبية إلى التفسيرات الرمزية» مادام الزجل حالة غير عادية يتوجب علينا نحن كقراء أن نستجيب إلى قول الشاعر الجزائري حمري بحري على أن «الكتابة عن الشعر تفترض من الكاتب… أن يتحول إلى شاعر.. إن الشعر حالة من التعبير غير مألوفة تتحول الكتابة عنها هي الأخرى إلى حالة غير مألوفة»….

شاعر/ ناقد


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 29/05/2023