النقيب محمد الصديقي : اشتغل مع الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد من سنة 1964 إلى 1991، محاميا متمرنا ثم محاميا مساعدا ثم محاميا شريكا: آزرت القائد البشير والقائد بن حمو الكاميلي بتوجيه من القيادة

 

قدمت في شهر أكتوبر1963 طلب الالتحاق بالمهنة إلى هيئة المحامين بالدار البيضاء حيث كان مقر سكناي إذاك. لم تستغرق الإجراءات الإدارية بين الهيئة والنيابة العامة والشرطة القضائية أكثر من شهر. وبالتالي فإن مسعاي للالتحاق بالمحاماة لم تعترضه في هذه الظروف أية صعوبات أو عوائق، كما أنه لم يكن مطلوبا من أي منخرط جديد في المهنة أداء أية مصاريف أو واجبات عن الانخراط أو ما شابه ذلك.
وهكذا فإن مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء برئاسة النقيب المعطي بوعبيد أصدر بتاريخ 22 نونبر 1963 قرارا بقبول تسجيلي في لائحة المحامين المتمرنين، ثم أديت اليمين القانونية في الأسبوع الموالي، وبالضبط يوم 29 نونبر 1963 بمحكمة الاستئناف بالرباط.
وكنت قد اخترت مكتب المحامي محمد التبر لقضاء فترة التمرين به باعتباره أهم وأشهر محام مغربي يومذاك على الصعيد الوطني وباعتباره محاميا منتميا لنفس الحزب الذي أنتمي إليه.
لكن هذه الاعتبارات لم تكن كافية لتجعلني أشعر بأني في مكتب يحتضنني حقا ويمكنني من البدء في ممارسة المهنة بجدية ونشاط. ذلك أن المحامي صاحب المكتب كان ينظر إلي، فيما بدا لي، بنوع من التوجس والحذر لأني كنت حديث عهد بالخروج من معتقل درب مولاي الشريف، ولأن صلتي كانت وثيقة برئيس تحرير جريدة « التحرير» اليوسفي عبد الرحمان ومديرها محمد البصري اللذين كانا ما يزالان رهن الاعتقال ومهددين بأحكام ثقيلة أمام غرفة الجنايات بالمحكمة الإقليمية بالرباط.
ولم يكن لي من مخرج أمام هذه الوضعية إلا المناداة على الشخصية التي اشتغلت معها كثيرا كذلك في نفس الجريدة ولو لم تكن هي المسؤولة رسميا عنها، ألا وهو الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد الذي لم يتردد في الترحيب بي في للالتحاق بمكتبه في مدينة الرباط، وإن لم يتأخر أيضا عن عتابي للمرة الثانية في إطار العلاقة التي تجمعنا، وإن كان العتب في سنة 1964 يرجع إلى أني لم أختر مكتبه لممارسة المهنة من أول وهلة
وليس مثل عتاب يوليوز 1963.
المهم أني غادرت الدار البيضاء وقصدت الرباط للاستقرار بها ومزاولة المهنة التي وقع عليها اختياري وبالمكتب الذي ارتأيت أنه هو المكتب الذي يلائم طموحاتي واستعدادي المهني بعد التجربة الأولى.
وبالمكتب المتواجد بشارع محمد الخامس بالرباط، والمطل على ساحة العلويين بها، شرعت في مواصلة تمرين المحاماة بداية من الأسبوع الثاني من شهر أبريل سنة 1964 بعدما أصدر مجلس هيئة المحامين بالرباط برئاسة النقيب امحمد بوستة قرارا بتسجيلي في هذه الهيئة
بتاريخ 4 أبريل 1963.
وكان الاشتغال مع عبد الرحيم بوعبيد في مكتب المحاماة عملا متميزا كل التميز، لأن هذا الرجل لم يكن شخصية عادية بل كان شخصية فريدة بكل المقاييس، ومدرسة كبرى للوطنية والتقدمية، مع بعد النظر العميق في كل ما له علاقة بالسياسة وكذا بمختلف مناحي الحياة. كانت له دراية واسعة بالقانون وبفلسفة القانون، كان رجلا سياسيا كبيرا، كان رجل الالتزام والمبادئ والأخلاق حتى في ممارسة السياسة، وبالأخص في ممارسة السياسة.
كان رجلا صارما مع نفسه، صارما مع كل الجهات التي يمكن أن تمارس عليه أي ضغط، أو تفرض عليه أي توجه مخالف لضميره وفكره الحر. مع هذا الرجل وفي مكتبه قضيت ما تبقى لي من فترة التمرين التي امتدت طوال سنوات 1964 – 1965 – 1966.
وكان أبرز ما عرفته سنة 1966 من محاكمات سياسية هي المحاكمة المتعلقة بقضية بني ملال التي ترجع وقائعها إلى شهر مارس 1960.
وتقول وثائق ملف هذه القضية أن القائد ممتاز ببني ملال البشير بن التهامي والقائد محمد بن حمو الكاميلي من دائرة أحواز الرباط قاما يوم 17 مارس 1960 بتعبئة عدة مجموعات من الأطر والأعوان بالإقليم وانطلقوا معهم مدججين بالأسلحة التي حصلوا عليها من مخازن السلاح بالدوائر التي يعملون بها، وتوجهوا إلى جبال الأطلس المتواجدة هناك حيث تحصنوا بها في انتظار أن تلتحق بهم أفواج أخرى لمواجهة الهجومات والاعتقالات والتعسفات التي تعرض لها رفاقهم وإخوانهم من رجال المقاومة وجيش التحرير في الأشهر الأخيرة من سنة 1959 وبداية 1960 .
وعلى إثر تدخل القوات الجيش اضطر المعتصمون بالجبال إلى الاستسلام في منتصف شهر أبريل 1960 ووضعوا رهن الاعتقال بإحدى الثكنات العسكرية بالرباط إلى أن أحيلوا على قاضي التحقيق متابعين بتهم العصيان والإخلال بأمن الدولة الداخلي وتكوين عصابة مجرمين والقتل العمد والمشاركة في ارتكاب هذه الأفعال. واستمر وضع المحتجزين في الاعتقال الاحتياطي، وكان عددهم 82 معتقلا، مدة ست سنوات وتسعة أشهر حيث لم يقدموا لهيئة الجنايات بهيئة المحكمة الإقليمية بالرباط من أجل محاكمتهم إلا في الدورة التي ابتدأت في يوم التاسع نونبر 1966 استمرت مدة 52 يوما ليصدر الحكم في حقهم يوم 29 دجنبر 1966 للميلاد الموافق 16 رمضان لعام 1386 هجرية.
وقد أتيح لي في هذه المحاكمة أن أتولى بتوجيه من قيادة الاتحاد، مؤازرة المتهمين الرئيسيين في القضية وهما القائد البشير والقائد بن حمو الكاميلي.
ومازالت ذاكرتي تختزن في بعض أوعيتها الخلفية صورا عديدة من جلسات تلك المحاكمة التاريخية التي جرت في القاعة الكبرى لمحكمة الاستئناف بمحكمة الرباط يومذاك، وهي القاعة التي يعقد فيها مجلس النواب جلساته العمومية حاليا.
وفي مقدمة تلك الصورالمشاداة القوية التي كانت تجري بين هيئة الدفاع من جهة، وكان أغلب أفرادها من المحامين الذين لازالوا في مقتل العمر باستثناء اثنين منهم، وبين النيابة العامة التي كان يمثلها في المحاكمة وكيل الدولة لدى المحكمة الإقليمية بالرباط المرحوم محمد الشدادي، وهي المشاداة التي لم يكن رئيس هيئة الحكم، المرحوم محمد ميكو يخفي ارتياحه لها لأنها كانت تضايق إلى حد كبير غريمه على رأس النيابة العامة.
أما مرافعتي في القضية، فإني أذكر أني قدمتها في جلسة رمضانية ابتدأت بعد صلاة العشاء وامتدت إلى حين اقتراب صلاة الفجر، وذلك وفق ما سار عليه نظام الجلسات خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان 1386 .
وبتاريخ 29 دجنبر 1966 الموافق لمنتصف شهر رمضان 1386 صدر الحكم الذي قضى بالسجن والحبس لمدد متفاوتة في حق أغلب المتهمين، وببراءة البعض منهم، وبالسجن المؤبد في حق القائد البشير وبالإعدام في حق القائد بن حمو. ومن عجائب الأقدار أن هذا المقاوم الذي حكم عليه بالإعدام في اليومين الأخيرين من سنة 1966 عاش بعد ذلك مدة 52 سنة ولم يتوف، وهو حر طليق، إلا منذ حوالي أسبوعين من هذا اليوم الذي نجتمع فيه.
التمرين بالنسبة للمحامين المتمرنين في الستينات كان يعتبر مدرسة كبرى للتكوين واكتساب المهارة الضرورية لممارسة مهنة المحاماة.
وكان المحامون الرسميون يتحملون مسؤولياتهم كاملة في الإشراف على قضاء فترة التمرين في ظروف جيدة بمكاتبهم انطلاقا من تمكين المحامي المتمرن من دراسة الملفات ومناقشتها معه قبل أن يتوجه إلى المحكمة حتى يكون على بينة من المهام التي سيقوم بها ثم مراقبة ما أنجزه بالفعل بعد ذلك وهل كان وفق ما يجيب، وأيضا توجيهه إلى التقاليد الراسخة
للمهنة في التعامل باحترام مع رجال القضاء ومع الزملاء، وكيفية ولوج المحاكم والهندام الذي عليه أن يظهر به.
وأذكر في هذا الصدد، أنه لم يكن مقبولا من أي محام أو محامية أن يلج المحكمة بالجلباب أو القفطان أو وهو يمشي بالبلغة أو ما شابهها، زيادة على وجوب ارتداء بذلة المحاماة بمجرد الدخول إلى بهو المحكمة.
وفوق ذلك، فإن مجلس الهيئة كان يسهر بصرامة على ندوات التمرين التي كان يشرف عليها في فترة تمرين النقيب شارل برينو، وكانت تشمل مجموعة من العروض والمناقشات حول الجوانب العملية في ممارسة المهنة، وكذا المشاركة في مباريات تنصب على طرح نوازل هامة عقارية ومدنية على الخصوص بحيث كان المتمرنون ­ وعددهم لا يتجاوز يومذاك الأربعين أو الخمسين ­ يوزعون على مجموعات البعض منها يمثل المدعي أو المدعين والبعض الآخر يمثل المدعي عليه أو المدعى عليهم، وعلى كل طرف أن يقوم بإعداد المقالات والمستنتجات، ثم يكون على الناجحين في الكتابي أن يمثلوا أمام مجلس الهيئة الذي يجتمع على شاكلة هيئة حكم ليتقدموا بمرافعاتهم الشفوية، ومن يكون النجاح حليفه هو الذي يقع عليه الاختيار ليكون كاتب ندوة التمرين، وليقوم بعد ذلك بإعداد بحث في أحد الموضوعات الهامة، قانونيا أو مجتمعيا، ليقع تقديمه في افتتاح ندوة التمرين التي تنظم سنويا في حفل رسمي يحضره وزير العدل ورجال السلطة القضائية.
بالرغم من أني أنهيت فترة التمرين بتاريخ 29 نونبر 1966، فإنه لم يطرح علي أمر فتح مكتب خاص بي لأنه كان هناك نوع من التوافق التلقائي بيني وبين الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد لأستمر في العمل معه في نفس المكتب، وقد امتدت هذه الوضعية إلى بداية سنة 1970 ، التي اقترح علي فيها أن أصبح شريكا له بالتساوي ودون أي مقابل من جانبي إلا ما كان من عملي.
وعلى ذكر الاعتقال التعسفي، فان أول قضية من هذا النوع حضرتها إلى جانب الأستاذ بوعبيد بعد انتهاء فترة التمرين هي القضية التي توبع فيها الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل أمام محكمة السدد بالرباط في صيف سنة 1967 على إثر البرقية التي وجهها إلى المرحوم الحسن الثاني احتجاجا على الوجود الصهيوني بالمغرب في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تواجه العدوان الإسرائيلي، وهي المتابعة التي انتهت
بالحكم بإدانته ومعاقبته بسنة واحدة حبسا نافذا فيما أذكر.
أما القضية السياسية الثانية التي ساهمت في القيام بمهمة مؤازرة ثلاثة متهمين فيها من بين سبعة عشر منهم، فهي القضية التي كانت معروفة بقضية أطلس محمد بلحاج ومن معه التي عرضت أمام محكمة الجنايات بإقليمية الرباط بناء على قرار الإحالة الصادر عن غرفة الاتهام بمحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 16 فبراير 1967 والذي قضي بإحالة المتهمين على المحكمة المذكورة لمحاكمتهم بتهم تدبير مؤامرة الغاية منها الاعتداء على شخص جلالة الملك وبعض أعضاء الحكومة، والمس بأمن الدولة الداخلي والمشاركة.
هناك قضية سياسية أخرى تابعتها في مراحلها الأولى إلى جانب الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد هي القضية المعروفة بقضية مراكش الكبرى أو قضية الحبيب الفرقاني ومن معه التي توبع فيها حوالي المائتين من أطر ومناضلي الاتحاد الوطني والمتعاطفين معه من مدينة مراكش ونواحيها على الخصوص بتهمة ارتكاب جرائم الاعتداء على النظام لإقامة نظام آخر مكانه والمشاركة في المس بالأمن الداخلي للدولة.
وقد بدأت حملة الاعتقالات في ملف القضية منذ أواخر سنة 1969 واستمرت طيلة الشهور الأولى من السنة الموالية 1970.
انتخبت عضوا بمجلس هيئة المحامين بالرباط سنة 1971 وهو المجلس الذي كان يرأسه بصفة نقيب المرحوم إدريس المراكشي، وكانت المهمة التي أسندت إلى في هذه الفترة هي أمانة مالية الهيئة التي لم تكن تتطلب مني مجهودات كبيرة بالنظر إلى محدودية موارد الهيئة يومذاك من جهة، وقلة أعداد المحامين من جهة أخرى.
لكن مهمة أخرى كانت تنتظرنا مع حلول صيف 1971 حيث كان علينا أن نتجند طيلة أيام متوالية لإعداد قرارات تعيين المحامين في إطار المساعدة القضائية للقيام بمؤازرة المئات من الضباط والجنود الذين أحيلوا على المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية عقب اعتقالهم في أحداث محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها في يوم العاشر من يوليوز 1971 مجموعة من كبار ضباط الجيش بقصرالصخيرات
بضواحي الرباط، والتي كانت تشكل، لو نجحت، خطرا حقيقيا على استقرار البلاد ونظامها ومستقبلها.
كما أنه في سنة 1972 وبعد محاولة الانقلاب الثانية التي جرت يوم 16 غشت 1972 واعتقال منفذي الهجوم على الطائرة الملكية، وتقديمهم إلى المحكمة العسكرية فإن النقيب المرحوم إدريس المراكشي، كلفني بمؤازرة كل من الملازم عبد القادر زياد والرقيب الأول الطاهر البحراوي، وهو ما قمت به فعلا خلال الجلسات التي عقدتها المحكمة
العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية بمدينة القنيطرة من تاريخ 17 أكتوبر 1972 إلى تاريخ 7 نونبر 1972 الذي صدر فيه الحكم بإعدامهما معا إلى جانب تسعة من باقي المتهمين الرئيسين.
وعشية يوم الجمعة 12 يناير 1973 توصلت من منزلي بإشعار من وكيل الملك لدى المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية يبلغني فيه أن طلب العفو الذي قدمته، كما هو مفروض قانونا، لفائدة كل من الملازم زياد عبد القادر والرقيب الأول الطاهر البحراوي رفض من طرف جلالة الملك، وأن الحكم القاضي بإعدامهما سينفذ في حقهما على الساعة الخامسة من صباح يوم السبت 13 يناير 1973 موافق 9 ذي الحجة 1392 بدائرة السجن المركزي بالقنيطرة، طالبا مني الحضور في عملية التنفيذ.
وبالفعل فإن أحد الزملاء الذي كان ينوب في الملف كذلك استدعاني مع زميلين آخرين إلى بيته للعشاء في تلك الليلة حيث بقينا في انتظار أن تلتحق بنا إحدى سيارات السلطة العسكرية التي حملتنا في الساعة الثالثة من صباح اليوم إلى السجن المركزي بالقنيطرة حيث تم الاتصال بالمعتقلين وفق الإجراءات المقررة بمقتضى قانون المسطرة الجنائية، ثم
غادرنا المؤسسة السجنية إثر ذلك نحو إحدى التلال المتواجدة بنواحي مدينة القنيطرة حيث جرى إعدام كل المحكوم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص.وأذكر أني عندما رجعت إلى منزلي حوالي الساعة التاسعة
والنصف من صباح ذلك اليوم وأنا في حالة إنهاك شديد، جسديا ونفسيا، بادرت إلى الاتصال عبر الهاتف بالأستاذ عبد الرحيم بوعبيد في منزله لأحكي له معاناتي في ليلة الجمعة -السبت فوجدته في حالة أسوأ وهو يبلغني ما تعرض له أخونا محمد اليازغي عندما انفجر بين يديه طرد ملغوم وصله في ذلك الصباح نفسه.
(*) من كتاب «أوراق من دفاتر حقوقي»


الكاتب : النقيب محمد الصديقي (*)

  

بتاريخ : 14/10/2023