«الوجه السحري» للنهاية

ليس هناك أي نص قادر على تحاشي نهايته حتى لو كنا أمام «كتاب الرمل» نفسه. النهاية، في نظري، هي «كعب أخيل» النصوص وفخها، وكل كاتب يبذل قصارى جهده ليتجنب الخيارات الخاطئة. ولا تعني النهاية الانسجام أو التسلسل الزمني أو الانفراج (لحظة التنوير)، كما لا تعني الدقة والصرامة. هناك أكثر من خيار. هذا ما يقوله المنطق على الأقل، وما على الكاتب إلا أن يسأل نفسه باستمرار: «ألا يمكن أن تكون في مكان آخر غير هذا؟». يلزم، إذن، اختبار كل الاحتمالات، حتى لا يكون الوقع سيئا بما فيه الكفاية، خاصة أن «كل النهايات سيئة بالضرورة». لا توجد نهاية مرضية للغاية. المطلوب هو الحذاقة، وتوجد دائما نهاية حاذقة في غرفة الانتظار.
حين أفكر في نهاية النصوص، تظل القصة المصورة «كابتان ميكي» (سلسلة نيفادا) للثلاثي الإيطالي بييترو سارتوريس وداريو غوزون وجيوفاني شنشيتو، ملهمة لأنها لا تتوفر على أي جهاز للانفراج. هناك دائما أزمة في الأفق، عنوانها الكبير «يتبع». هذا هو المأزق الذي يواجهه القارئ دائما حين يكاد يحصل على جميع الأجوبة.
في طفولتي، كنت أتابع مغامرات الـ «كابتان ميكي» ورفيقيه «دوبل روم» و»الدكتور سينيي» (أو سلاسو) بانبهار كبير. غير أن ما كان يثير إعجابي حقا هو خصمهم الأشرس «ماجيك فايس»، وهو شخصية مشاكسة تجيد التنكر (ملك التنكرات)، وتفلت دائما بأعجوبة من الموت، أو على الأقل من السجن. كان إفلاته يثير فيّ شعورا متناقضا بين السخط والإعجاب. ساخط لأنه كان قاب قوسين أو أدنى من الوقوع، ومعجب لأن نجاته العجيبة تضرب لنا موعدا في حلقات أخرى نستمتع فيها بحاملي السلاح (سريعي الزناد) وهم منخرطون في قلب مبارزات لا نهاية.
على هذا النحو، أشعر بأن النص الذي يمنحني نهاية غير متوقعة هو بشكل من الأشكال «ماجيك فاس». مبارزة متساوية ليس بينه وبين «كابتن ميكي» فحسب، بل بيني وبينه على وجه «التضعيف»، ودون أن يستسلم أحدنا للآخر. ولنا أن نستحضر ملايين القراء الذين كانوا يتابعون السلسلة، ويلاحقون ذلك الحفل التنكري الذي تمنحه لهم النهايات. لم يكن «ماجيك فاس» مجرد اسم ووجه، وكان بإمكانه أن يصبح «كابتن ميكي» أو «الدكتور سينيي» أو «دوبل روم»، أو قسا أو امرأة عجوزا أو «برمانا» أو حارس إسطبل. بوسعه أن يكون أي أحد، وهذا ما يجعلنا نتصرف بتواضع وسلوك لائق مع النهايات. إننا ننتظر برجاء، وأحيانا نتوقع الأسوأ. نموت ونحيى، لأن لا أحد منا كان يتوقع ردة فعله في نهاية الحلقة، ما دام يتوفر على خفة وذكاء يسمحان له بتحويل «المتاح» إلى اتجاهات مغايرة، وإلى نهايات لا تخطر على البال.
إن النهاية، تبعا لهذا الفهم، غير موجودة، كما يقول فيلليني: « «ليس هناك نهاية، كما ليس هناك أي وجود للبداية»؛ فهما معا تشكلان طرفي «استمرارية ما» يمكن ضخ توثباتها بجميع النهايات المختلفة الممكنة، عكس التوجه الأرسطي الذي ركز على الوحدات الثلاث (البداية والوسط والنهاية)، وربط القصة بالتعاقب الزمني. وهذا التوجه يمكن تطبيقه، حسب الأكاديمية الفرنسية إيمانويل براك-ديرينغتون، على مفهوم النهاية وحدها: هناك «قبل النهاية»، و»النهاية الحقيقية»، و»بعد النهاية». أما التعاقب الزماني، فيعني أن «كل نهاية تنهي ما قبلها وتسبق ما يليها: فنهاية الجملة تسبق بداية جملة أخرى. خصوصية النهاية النهائية (نهاية الغايات، كما يمكن للمرء أن يقول) هي أن ما يلي غيرُ متجانس، ومنفتح على المجهول». فهل معنى ذلك أن المجهول هو ثمرة كل نهاية؟ وبعبارة أخرى، ألا يعني الحديث عن النهاية الوثوب إلى «ما بعد النهاية»، أي إلى الاستغراق التام في المحتمل أو «الممكن الوقوع» حتى لو كان ذلك على حساب المنطق أو ما نعتبره منطقيا.
ثمة نهايات كثيرة محتملة، والاحتمال الأرجح يتطلب التركيز على ما لا يأمله الآخرون (القراء أو المتلقون الداخليون والخارجيون)، أي على ما يتوجب أن يظل غامضا. المطلوب ليس هو رصاصة في الرأس أو طعنة في الظهر. الموت هو الاحتمال الحقيقي المتوقع الذي يمكن أن ينهي كل شيء بسرعة. فلو راهن الثلاثي الإيطالي على موت «ماجيك فاس»، مثلا، لضاعت القصة وفقدت امتلاءها بالحياة. هذه هي خطورة القتل، بل هذه هي خطورة القصة البوليسية التي تستخدم القراء بوصفهم «رجال تحري»، وتدخر لهم دائما «نهايات نظيفة».
صحيح أن كل القصص تنتهي بعلامة واضحة: نقطة النهاية. غير أن هذا لا يفسر بأي حال من الأحوال استبعادنا للمساحة المتعذرة الإلغاء التي تتيحها «ما بعد النهاية». لا شيء ينتهي، ولعل هذا ما يفسر ما كان يقوم به «حامد» في رواية «المترجم الخائن» حين صار يقترح مسارات حكائية مختلفة ونهايات لا تطابق النهايات التي وضعها أصحابها لرواياتهم.
إن «ماجيك فاس» لا يغلق القصة قط، بل يدأب على فتحها من جديد في اللحظة التي نظن أن كل شيء انتهى، وأن الموت هو ما سيمنحها نغمة مبهجة أو محزنة وما إلى ذلك. ولذلك، فإن النهاية الناجحة، في نظري، هي التي تعادي كل أشكال الانفصال والركون إلى صمت «ما قبل البداية»، وهي التي لا تحاول أن تقول عاجلا أم آجلا كل شيء، وهي التي تجبرك على الاعتقاد بأن من واجبك التساؤل حول «لماذا اختار المؤلف هذه النهاية، وليس تلك؟». الأمر المخيف هو أن تطوي الكتاب دون أن تطرح أي تساؤل حول الأمر، كأنك قارئ مبرمج لاستهلاك كل النصوص على قدم المساواة، حتى لو كانت ممتلئة بالحصى.. آه، كم من المؤسف أن يرى لويس أراغون أن «النهاية تعني إغلاق الكتاب والعودة إلى الصمت» !


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 19/02/2024