بين الفطرية العفوية والعصامية العالمة «حسن الشيخ نموذجا»

 

غالبا ما يتم الحديث في أكثر من مناسبة عن الفطرية والعصامية، دون أن نجعل حدا بين هاتين الصفتين اللتين تختلفان في مضمونهما وشكلهما، فيتم الخلط بينهما لدرجة الاندماج بمعايير غير محددة، وهو الحال لأغلب التجارب المغربية التي يهتم أصحابها من الفنانين بالموروث الثقافي والفني المغربي الآتي من أرخبيل الصناعة التقليدية بكل تنوعاتها.
فما يؤرقني، في تصنيف عدد من الفنانين، هو نعتهم بالفطريين عوض العصاميين، والفرق بين هذين النعتين كبير كما ذكرت سالفا، فالفطري في نظري هو من لا يعتمد على أي مرجعية، سواء كانت مرئية أو كتبية، بينما العصامي هو من يسعى إلى تطوير قدراته الإبداعية من خلال البحث الشخصي والتنقيب عما يمكن أن يستفيد منه في مجاله، ولهذا فإن الفنان العصامي كانت له وما زالت مرجعيات متعددة، لها علاقة بكل ما يمكن أن يؤثر على خياله، منها الصناعة التقليدية بخصوصياتها المتنوعة، ثم الفضاءات المعمارية التاريخية التي يعيش في أحضانها وتأثيراتها الغير المباشرة على مخيلته الإبداعية، وكل هذا ينفي عن الفنان صفة الفطرية كعصامي بذل جهدا ليصل إلى ما هو عليه الآن والأمثلة على ذلك متعددة.
اعتمدت على اختياري واقتفائي للأثر الإبداعي للفنان الراحل حسن الشيخ كواحد من هذه الأمثلة، لأسباب متعددة، أولا لعذرية إنتاجاته التي لم تنل حظها من الحضور الإعلامي كباقي الفنانين العصاميين، ثم نظرا لعمق تجربته بأسئلتها المرجعية في الثقافة المغربية، ومسلكياتها المرتبطة بالحلم والأسطورة بنفس مستقل عن كل التجارب المغربية في نوعية معالجتها للصورة وما تحمله من دلالات مفتوحة على جميع التأويلات الممكنة، سواء العقائدية منها أو الاجتماعية أو السردية..، وأخيرا لعدم استناد تجربته للنماذج العارفة أو الأكاديمية التي تحتكم للقواعد الجاهزة للممارسة التشكيلية النمطية المستوردة.
فتجربة الفنان حسن الشيخ، كانت تصب في منحى تكتسيه صبغة روحانية، تسمو بأبعادها وتأثيراتها على المتلقي خارج المنظومة المادية الملموسة، أي بشكل هلامي لا يكتفي بوصف الظواهر المرئية بقدر ما كانت تخترقها إلى ما تخفيه، وهذه خاصية لا يمكن أن يتناولها إلا من عاش سراديب الميتافيزيقا في أبهى تجلياتها، بمعنى آخر أن الفنان حسن الشيخ كان ينتج من المشاهد إلا ما خفي منها، من زاوية ذاتية عاش جزءا من تفاصيلها حسب الحالات النفسية المرتبطة زمنيا باللحظة العابرة ومحاولة القبض عليها، كحلم منفلت من الزمان والمكان ملتصق بالذاكرة الصوفية التي ترعرع في أحضانها، والتي تأثر بها داخل فضاء أسري يمتثل لمنابع القدرة الإلهية ولصفاء الإيمان بالتربة الأصيلة.
وحتى لا نبتعد عن المرجعية العربية الإسلامية في تحليل مثل هذه التجارب، التي لا تخضع لمنطق التحليل الغربي بقدر ما تنحو إلى تحليل عربي إسلامي صرف، لابد وأن نحيل منجز الفنان حسن الشيخ على كتاب بُد العارف لصاحبه (ابن سبعين) يتحدث فيه عن أربع حواس: حاسة الذوق، حاسة الشم، حاسة السمع وحاسة البصر وهذه هي التي تهمنا في هذا المقام، إذ يقول “… حاسة البصر لا تدرك من الموجودات الطبيعية إلا عشرة أنواع وهي: الألوان وسطوح الأجسام، والألوان بذواتها، وشكل كل جسم على كيفيته وصورته، والأبعاد الثلاثة، والنوم والظلام، وحركات الجسوم وسكناتها، وهيئتها ووضعها. والمدرك الحقيقي الذي هو بذاته يظهر وتظهر به جميع الأشياء، هو النور لا غير…”.
من هذه العبارة تظهر قوة المنجز التشكيلي لحسن الشيخ، الذي تتقاطع فيه جل هذه الخاصيات، سواء المادية أو الذاتية منها بمفهوم عقائدي لا يخرج عن نطاق لاهوتي يسمو بالنفس إلى جلالها وصفائها وعذريتها، فكانت أعماله رهينة بهذا الوفاء، الذي لا يمكن أن يلتفت إليه إلا من درس بالمسيد على يد الفقهاء والعارفين بشؤون الدين.
إن الفنان حسن الشيخ، كان يريد أن يعود بنا من خلال إبداعاته إلى طرح الأسئلة الفنية من منابعها الأصلية، اعتمادا على ما تبقى من أصالتنا وجذورنا، لذلك لم يبحث عنها في ثقافات أخرى خارج الرقعة الجغرافية التي كان يعيش بها، ليؤسس لمشهد فني ونقدي لم ينتبه إليه النقاد ممن كانوا يبحثون على صيغ غربية حداثية لتبرير تحليلاتهم وإسقاطاتهم الفلسفية، التي قيلت ضمن سياقات مختلفة لسياقاتنا.
لذلك أعتبر حسن الشيخ من بين من ناضلوا في صمت إلى جانب أقرانه من الفنانين عن هذا الطرح المثير للاهتمام، والقاضي بالدفاع عنه مستقبلا من طرف المؤرخين والنقاد، لجعله لبنة لبناء تصور ورؤية جديدة نحو إعادة صياغة كتابة تاريخ التشكيل المغربي، بنظرة موضوعية بعيدة عن الشوفينية المنفعية.
فإذا ما تأملنا في تفاصيل أعمال الفنان حسن الشيخ منذ نشأتها، سنقف على عناصر جزئية ساهمت في بلورة الفكرة الإجمالية لمشروعه الفني، منها ما ورد في كتاب “بُد العارف” لابن سبعين: “… أول ما يُدرك النور ثم الألوان ثم سطوح الأجسام. لأن اللون لا يكون إلا في سطح الجسم. والسطح لا يوجد إلا في الجسم. فالجسم يظهر بتوسط السطح ويتأخر في الإدراك عن سطحه والجسم لابد أن يكون له ما تنسب به الأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات والسكون…”.
تطرق النص في بدايته لعنصر أساسي وهو النور، والنور هو من يحرك الألوان وسطوح الأجسام، لذلك علميا، لا وجود للخط المكون للشكل إلا بخدعة التقاء النور والعتمة، كما لا يمكن رؤية الألوان إلا بفعل حركة الرياح، إذ يقول ابن سبعين في نفس المرجع: “… الهواء إنما ينقل الألوان بالضوء الذي يكون فيه”
ولذلك نلاحظ (وهذا استنتاج شخصي)، بأن الأرض تجري بها الرياح، وتحضر في كل بقاعها الألوان، بينما القمر فهو رمادي لا توجد به رياح وتُفتقد فيه الألوان.
وهذا ما سنقف عليه لاحقا في تجربة الفنان حسن الشيخ، الذي استطاع أن يخرق تواشجا بين خط العصامية والفطرية من جهة ورغبته الملحة من جهة أخرى، في تجاوز كل القواعد المرئية الخاضعة للرؤيا العلمية للأشياء وتمرده على القواعد الكلاسيكية التي عرفها الفن منذ نشأته، وهذا ما جعل منه مبدعا يصعب تحديد تصنيفه.
إن عصامية الغرب تختلف عن عصامية الشرق بحكم بيئة ولادتها وظروف نشأتها، فاتخذت مسارا عقلانيا ماديا، بينما عصامية الشرق جمعت بينها وبين الفطرية من زاوية اعتمدت على الحس والشعور الداخلي لدرجة الحلول عند المتصوفة، لذلك كانت جل أعمال الفنان حسن الشيخ تمتح من هذا الطرح المفاهمي للعصامية المدركة لخبايا وأسرار الكون، وكأنه يبحث عن المنفلت في اللامرئي الذي يقر بوحدة الوجود، لذلك اتخذ من التشكيل كتعبير بصري ذريعة لإثبات هذه الفرضية.
طبعا، جل أعمال الراحل حسن الشيخ كانت تصب في منحى لاهوتي، بحثا عن عظمة الخالق في نشأة الكون، بثنائياته المتعددة (الخير والشر، الأنثى والذكر، الضوء والعتمة، الأبيض والأسود…)، ولهذا اعتمد صورا وأيقونات من الماضي منذ نشأة الخلق، تعبيرا عن الحاضر بتأويلات ذاتية لا تخلو من إضافات إبداعية تطرح تساؤلات وجودية، انطلاقا من محيطه ببناياته وشخوصه الأسطورية وطبيعته بأشجارها وحيواناتها العجائبية، حيث عالجها بطريقة خيالية تدعو للتأمل في تفاصيلها، باحتفالية لونية اجتمعت فيها هي الأخرى هذه الثنائية بين الفرح والحزن.
فمن خلال كل ما ذكرناه سالفا، سنقف على حقيقة واضحة المعالم، وهي أن الفنان الراحل حسن الشيخ، جمع بين فطرية عفوية وعصامية عالمة قل نظيرها عند التشكيليين الفطريين والعصاميين.

مصادر:

“بُد العارف” لابن سبعين، تحقيق وتقديم الدكتور جورج كتوره، عن دار الأندلس- دار الكندي، الطبعة الأولى 1978
2- “بُد العارف” فصل “القول على حاسة البصر” ص (248).
3- “المسيد” هو “الكُتاب” أي المدرسة التقليدية للتعليم الأولي بالمغرب.
4- من كتاب “بُد العارف” لصاحبه (ابن سبعين) ص: (248).
5- نفس المرجع ص (249).


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 14/10/2023