بين الملكية البريطانية والملكية المغربية علاقات ممتدة على قرون

الملكة إليزابيث الثانية والحسن الثاني لقاء برمزيات ثقافية وسياسية كبيرة

 

زيارة إليزابيث الثانية إلى المغرب خريف 1980، شكلت نقطة اختلاف بروتوكولية متميزة في كامل زيارات الدولة لملكة بريطانيا إلى الخارج

زيارة الأمير شارل (الملك شارل الثالث اليوم) إلى المغرب سنة 2011،

 

 

 

 

 

 زيارة ابنه الأمير هاري سنة 2019، محطات أخرى لقوة العلاقة بين الملكيتين المغربية والبريطانية

 

عادت إلى واجهة الاهتمام العمومي تواصليا، منذ البارحة، بمجرد الإعلان الرسمي عن وفاة عاهلة بريطانيا العظمى، الملكة إليزابيث الثانية، الصور التاريخية التي جمعتها بالملك المغربي الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية المغربية (ضمنهم صور للعاهل المغربي محمد السادس وهو ولي العهد، في حديث ودي مع جلالتها)، وهو الاهتمام الذي يعكس مستوى العلاقات العالية والكبيرة التي تجمع العائلتين الملكيتين المغربية والبريطانية الذي كانت بعض ترجمته، أيضا، في لغة رسالة التعزية التي بعثها جلالة الملك محمد السادس إلى ملك بريطانيا الجديد شارل الثالث، التي حرصت أن تكون رسالة تعزية باسمه الشخصي وأيضا باسم العائلة الملكية المغربية (وهذا أمر لم يسجل في رسائل تعزية في رحيل قادة ورؤساء دول، بل حتى أمراء وملوك ملكيات أخرى من قبل).

 

الحقيقة، إن الوقائع التاريخية والحديثة، تقدم ما يكفي من الأدلة على رسوخ وقوة العلاقة بين الملكيتين المغربية والبريطانية منذ قرون، ليس فقط لأنهما من بين ثلاث أقدم ملكيات في العالم (الامبراطورية اليابانية والتاج البريطاني والعرش المغربي)، بل لأن العلاقة بين الدولتين شكلت مداخل لمصالح حيوية متقاطعة بينهما تجاريا واقتصاديا وعسكريا وأمنيا وثقافيا منذ زمن. وأن تلك العلاقات قد شهدت محطات متميزة سجلت لانعطافات في تاريخهما المشترك، كان من بينها (من باب التذكير فقط كمثال) محطة القرن 19، التي تميزت بأمرين هامين هو أنها مرحلة الملكة فيكتوريا وابنها إدوارد السابع (ما بين 1837 و 1910)، التي سجلت لواحدة من أقوى العلاقات الديبلوماسية بين المغرب وبريطانيا من خلال قيمة وتجربة السفيرين البريطانيين دارموند هاي (الأب والابن) اللذين قضيا معا ببلادنا أكثر من 52 سنة من العمل الديبلوماسي بصفتهم لوردات وسفراء بمرتبة وزراء مفوضين، وهذا لم يحدث ضمن المجال العربي والإسلامي سوى مع الباب العالي العثماني حينها. مثلما أن السفارات المغربية إلى لندن خلال تلك المرحلة، كانت وازنة ومهمة، خاصة سفارات وزير الحربية المغربي المنبهي ووفد الطلبة المغاربة لدراسة هندسة القناطر والحربية بلندن (جيل الكباص).
تأسيسا على ذلك، فإن العلاقة بين الملكة إليزابيث الثانية والملكية المغربية، ستشكل عنوان انعطافة أخرى، ضمن التاريخ الممتد للعلاقة بين الملكيتين، يمكن وصفها بعلاقة القرن 20. وأنها علاقة تميزت بخلفيتين مركزيتين، مقارنة بعلاقة التاج البريطاني مع كل العالمين العربي والإسلامي. أولها أنها ظلت مسنودة بتراكم تاريخي فيه شكل خاص لتقاليد العلاقة الديبلوماسية بين العرشين، وفيه تقدير من كليهما للخصوصية الثقافية والبرتوكولية لنظاميهما الملكيين، ثم ثانيا أنها رسخت لعلاقة شخصية بين مزاج عاهلين كبيرين، من ثقافتين مختلفتين، لكن لهما منظومة سلوكية في أشكال ممارسة الملك، هما الملكة إليزابيث الثانية والملك الحسن الثاني. ويكاد المتتبع يجزم أن العاهل المغربي الراحل ذاك (الذي شغل الدنيا والناس بحرصه على المحافظة ثقافيا على معنى للملكية المغربية كعاهل Monarque وليس فقط كملك Roi )، قد ربط علاقات شخصية وإنسانية رفيعة مع عاهلين من ملكيتين عريقتين، هما عاهلة بريطانيا الملكة إليزابيث الثانية والعاهل الإسباني الملك خوان كارلوس الثاني، وكلا البلدين لهما علاقات استراتيجية تاريخية مع المغرب منذ قرون.
كلنا ربما يتذكر الزيارة التي قامت بها الملك إليزابيث الثانية إلى المغرب أيام 27/28/29/30 أكتوبر 1980 (ضمن جولة لها ببلدان المغرب العربي حيث زارت تونس أولا ثم الجزائر ثانيا)، وهي الزيارة التي جعلها العاهل المغربي الحسن الثاني رحمه الله، ليست مجرد زيارة دولة، بل زيارة عائلية. وكانت الرباط والدارالبيضاء ومراكش، المدن التي زارتها إليزابيث الثانية، لا تحتفي بضيفة كبيرة للمغرب، بل بصداقة قوية وراسخة وممتدة بين عائلتين ملكيتين، وبين عرشين قديمين وراسخين في التاريخ. وبالعودة إلى أرشيف صور تلك الزيارة، بما فيها زيارة جلالتها لبعض مناطق الأطلس الكبير، سيقف المرء عند عناوين حميمية حقيقية غير بروتوكولية بين رمزي العرشين. وكان لمعنى تناول إليزابيث الثانية للغذاء (المشوي) بأصابع يدها رفقة العاهل المغربي الحسن الثاني بدون شوكة وسكين، رسالة رمزية من ملكة بريطانيا (التي تلويحة يد منها لها معنى رمزي ورسالة وأيقونة دلالية)، على أنها مندمجة ضمن ثقافة الطبخ والأكل المغربية عبر بوابة طقوس دار المخزن الملكية المغربية. ولأن الشئ بالشئ يذكر، فإن مثلا، الزيارة التاريخية التي ستقوم بها الملكة إليزابيث إلى إيرلندة سنة 2011، في مرحلة رئيس حكومتها المنتخب حينها الذي كان من زعماء الحركة المسلحة الإيرلندية لمناهضة التاج البريطاني، ستبادر إليزابيث الثانية إلى مد اليد للسلام على ذلك المسؤول الإيرلندي، الذي بدا في المشهد العام أكثر ارتباكا من الملكة، مثلما ستبادر إلى زيارة موقع الجندي المجهول (وله رمزية وطنية عالية جدا عند الإيرلنديين) ووضعت إكليلا من الزهور، ثم قامت بحركة كان لها كبير الأثر على كامل بريطانيا وعلى شعبيتها في إيرلندة، وهي أنها وقفت هادئة، ثم في لحظة ما أحنت رأسها قليلا تحية للمقام، مما فسر أن حركة الرأس تلك هي اعتذار تاريخي لبريطانيا إلى الشعب الإيرلندي. بالتالي، فإن المقصود هنا هو أن حركات الملوك، من قيمة ملكيتين مثل الملكية المغربية والبريطانية، تكون موزونة، غير اعتباطية، ولها غاياتها. وحين جلست الملكة إليزابيث إلى مائدة الأكل المغربية (الملكية، المخزنية) امتثلت لطقوس الأكل المغربية، تقديرا منها لمضيفها الملك الحسن الثاني وأيضا للملكية المغربية وللثقافة المغربية وتقاليدها العريقة. ولعل في رسالة الشكر التي بعثتها الملكة إليزابيث بعد انتهاء تلك الزيارة إلى العاهل المغربي، بلغتها، الدليل على مدى ارتياحها لمقامها بالمغرب، ولما قضته فيه من أيام مريحة ومفيدة، ناقضت بعض ما ذهبت إليه تقارير صحفية بريطانية حينها، خاصة الصحيفة الشعبية المنتصرة للإثارة كخط تحريري، “دو السان”، من أن الملكة إليزابيث كانت منزعجة من عدم احترام بعض تفاصيل البروتوكول الملكي حينها.
كان تمكن عاهلة بريطانيا من اللغة الفرنسية، قد جعل تواصلها مع العاهل المغربي الحسن الثاني أكثر سلاسة، خاصة على مستوى دربة الملك المغربي الراحل في انتقاء التعابير المركبة دلاليا حسب مستوى وقيمة الشخصية السياسية التي يحاورها، حيث سجلت تقارير صحفية بريطانية حينها، أن جلالته كان على مستوى ثقافي عال، وأن له دربة بروتوكولية ملكية رصينة وراسخة، مكنت من جعل التواصل مع سيدة بريطانيا العظمى الأولى تلك، يرقى إلى مستوى من الحميمية الفكرية، هي وزوجها الأمير فيلليب، وأنها كما كتب الصحفي البريطاني روبير هارتمان في كتابه “ملكة العالم” (كما أحالت على ذلك جريدة الأندبندنت البريطانية)، قد كانت زيارة مختلفة بروتوكوليا ودلاليا وتواصليا وجوا نفسيا، عن كل زياراتها إلى الخارج. أي أن كامل زيارات الملكة إليزابيث الثانية إلى دول العالم برتوكوليا ورمزيا شئ، وزيارتها تلك إلى المغرب شئ آخر. ونقطة الاختلاف كامنة في أنها زيارة متعة لاكتشاف ثقافي وسياسي وبروتوكولي ملكي خاص جديد ومختلف. أي أنه اكتشاف بمتعة ليس لـ “صورة الشرق” كما هي في مخيال الأدبيات السياسية والثقافية البريطانية والغربية، ذات النزوع الغرائبية، بل هي اكتشاف بمتعة لمعنى لـ “خصوصية مغربية”. وهذا على مستوى تيرمومتر “القيم الثقافية” أشبه بالبصمة، تسمح بالوقوف عند معنى للاختلاف والتميز والفرادة، بدون أية أحكام قيمة مسبقة.
في يوليوز 1987، سيقوم العاهل المغربي الحسن الثاني رحمه الله بزيارة دولة إلى بريطانيا، حيث ستخصص له العائلة الملكية البريطانية استقبالا رسميا وشعبيا يرقى إلى مستوى “الضيف الملكي الكبير”، الذي عزفت فيه موسيقى ملكية بريطانية قديمة وتم فيه إركاب العاهل المغربي «العربة الملكية البريطانية» العريقة الخاصة بالضيوف الكبار للتاج البريطاني، وطافت به رفقة الملكة إليزابيث الثانية، ما يوصف في الأدبيات الملكية اللندنية بشوارع المُلك، بحضور جماهيري كبير. وحرص العاهل المغربي الراحل خلال تلك الزيارة، على أن تكون الرمزيات الثقافية المغربية حاضرة، مما جعل الصحافة البريطانية حينها تقف مطولا عند تلك العلامات الثقافية الملكية المغربية. واعتبرت أن زيارة ملك المغرب، هي أول زيارة يقوم بها ملك ينتمي لواحدة من أقدم الملكيات بالعالم، الذي ظلت علاقة أجداده مع بريطانيا قوية لقرون، إلى العاصمة لندن. فشكلت بالتالي، حدثا تاريخيا، تعاملت معه الملك إليزابيث باهتمام رمزي خاص.
ومع اندلاع ما عرف ب “الربيع العربي” سنة 2011، سيقوم ولي العهد البريطاني الأمير شارل (الملك شارل الثالث اليوم)، بزيارة إلى المغرب في شهر أبريل، رفقة رفيقته وزوجته الحالية كاميليا. وهي الزيارة التي اعتبرت زيارة رسمية، نيابة عن والدته الملكة إليزابيث الثانية، واستقبل من قبل العاهل المغربي محمد السادس، صدر بعدها بلاغ ملكي بريطاني ينوه بمستوى الزيارة ونجاحها، وأنها تدشن لمرحلة جديدة في العلاقات بين العائلتين الملكيتين وكذا بين الدولتين (إنجلترا والمغرب).
بينما سيقوم الأمير هاري (حفيد الملكة إليزابيث الثانية) وزوجته الأمريكية ميغان، بصفتهما دوق ودوقة ساسيكس، في فبراير 2019 بزيارة إلى المغرب، اعتبرت من قبل مراسل قناة البي بي سي للشؤون الملكية جوني دايموند ب “الزيارة الغنية المحتوى”، حيث استقبلا رسميا من قبل جلالة الملك محمد السادس، مثلما جرى استقبالهما عند بوابة القصر الملكي بالرباط من قبل ولي العهد المغربي الأمير مولاي الحسن، في ما اعتبر امتدادا للعلاقات التاريخية بين العائلتين الملكيتين، وتوقفت مطولا الصحافة البريطانية عند شكل ذلك الاستقبال وشخصية ولي العهد المغربي، بذات الخلفية المعروفة في الصحافة البريطانية في النبش في التفاصيل والرمزيات، وهي الزيارة التي تميزت ببرنامجها الاجتماعي والثقافي والإنساني، ما جعل الأمير هاري وزوجته ميغان (الحامل حينها) يصرحان أنها واحدة من أنجح زياراتهما إلى الخارج.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 10/09/2022