بَنْعِيسَى بُوحْمَالَة: أَيْقُونَة ُالنَّقْدِ الْعَرَبيّ

 

(1)

عندما يطرق الموت باب الثقافة المغربية أو العربية أجد اللغة تخون التعبير، واللسان مصابا بالعيّ خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بخليل في القلق والسؤال المعرفيين، حيث أعثر على الذات وقد أصيبت بشللية يستعصي وصفها والقبض على ملامحها الغابرة خلف صمت مريب، في ظلّ الآلام وعوادي الزمن وتقلبات الدهر المقيتة وهي تسلب منك فلذة من فلذات الفكر والثقافة، وتقذف بك إلى مهاوي العزلة متأمّلا ومتدبّرا في ملكوت لا يكفّ عن إنتاج المأساة الدرامية للحياة، ويزيد الأوجاع اشتعالا في قلوب مكلومة بلظى التخلّف وانعدام أمل ما في بزوغ شمس جديدة على هذا الليل المغربي الذي يبدع وجوده بكل الوسائل للإقامة الدائمة، ليل يزداد سطوة وصولة، الليل الحجاب الذي يواري تلك الشمس التي غدت بعيدة عن مهوى الحقيقة. وحيث الويلات تتكالب والمنافي الداخلية تتعدّد وتتمدّد في جغرافية تنعدم فيها شروط العدالة والمساواة، فالظلم يتسيّد والسجون النفسية تُشيّد في أجساد عاجزة عن الفعل، قادرة على جلد الذات في أطراف الحارات والمقاهي التي تنتعش يوميا بفضل عطالة طالت الكلّ، وحيث تراجيديا العدم تعزف كورال العبث الوجودي في أبهى تجلياته، والعالَم تقوده إلى النهاية عولمة القهر والرعب والفقر والجوع، لتزداد محنة الموجود في الوجود. في ظلّ هذا الألم الوجود تسقط ورقة من أغصان شجرة الثقافة المغربية. يتعلق الأمر بالناقد والمترجم الفذ بنعيسى بوحمالة، فكان رحيله صعقة أصابت الجسد والقلب، وتوقف الزمن عن أداء دوره، لأن خللا ما حدث، جراء هذا الغياب المباغت.

(2)

بنعيسى بوحمالة من التجارب النقدية التي آمنت بجدوى الممارسة النقدية في إضاءة الشعر العربي المعاصر، حداثيّ حتى النخاع، انتصر لحداثة شعرية تخترق الموجود الشعري لتبني موجودا شعريا مؤمنا بالخرق والهدم، فكان متنه الشعري بيانا واضحا لاختياراته النقدية، إذ صاحب الشعر العربي المعاصر بأصواته المتعدّدة والمختلفة، كاشفا عن جمالياتها وجوهرها الإبداعي وإضافاتها للشعرية العربية، فكان صديق هذه الكتائب الشعرية التي أتت من كلّ فج رؤيوي و رؤياوي تحمل إرهاصات انزياح شعري سيصيب القصيدة العمودية في مقتل رمزي، دون التفريط في حبْل الانتماء حفاظا على السّرّة الشعرية بين القدامة والحداثة، حيث التواشج وأحيانا التماهي حاضر بقوة.
من هذا التوجّه النقدي لم يأل جهدا في العمل بتؤدة وروية وتبصر نقدي للإنصات والإصغاء والحفر في هذه الأراضي مغربية الهوى أو عربية الانتماء، قارئا متفحّصا، ناقدا مضيئا دررها وجواهرها النفيسة على المستوى الجمالي والفني، منطلقا من رؤية نقدية تجمع آليات نقدية تفسّر وتحلّل و تأوّل المظان؛ وتكشف عمّا تزخر به، وذلك بلغة النقد السلسة الرصينة، المنحوتة المبتكَرَة، لغة تضيء المخفي والمتواري والمطمور، وتقُول النّص المنقود بما يحمل من رؤى وتصوّرات وأبعاد دلالية. لغة لا تُقوّل النص/ التجربة؛ وإنما تجعله يفتح جسده للتشريح والتفكيك والتأويل، مما يثري الخطاب النقدي ويسِمُه بالفاعلية المُنتجة.

(3)

بنعيسى بوحمالة علامة نقدية لا يمكن تجاوزها في النقد العربي ، ومرجع ذلك إلى ما قدّمه من خدمات جليلة للقصيدة العربية المعاصرة؛ منحتها القدرة على مجابهة ترسانة الرفض والمكائد؛ بإرادة متأصلة تستمد وجودها من الأصول الشعرية، حيث لا تتنكّر لهذا الماضي الشعري، بقدر ما تستمدّ منه روح المغامرة، بيْد أنّها تختلف معه في التعبير عن العصر الذي تنتمي إليه، ذلك أنّ لكل عصر الشّكل الذي يعبّر عنه ويقوله مجازيا ورمزياً. وهذا ما حقّقه الناقد الراحل وأفنى عمره من أجله، من خلال، مقاربات نقدية تستلهم المدارس النقدية بنظرياتها المنهجية المختلفة، مُوقِناً بأنّ النقد يجب أن يكون متحرّرا من ثقل الآليات النقدية، التي يتمّ إسقاطها على النص دون تمعّن ودون امتلاك لناصية القراءة الجيّدة، التي تبقى في النهاية وجهة نظر قابلة للتحقّق أو العكس، وهذا ما يتضح في نقوده المفارقة للمتداول النقدي العربي، للعديد من التجارب الشعرية مغربيا وعربيا، وما كتاب»أيتام سومر: في شعرية حسب الشيخ جعفر بجزأيه» النقدي حول الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر الذي أبان فيه عن الرصانة النقدية والتأويلية، والحدس الإبداعي، من خلال، قدرته على الحفْر في طبقاته الشعرية المبهرة؛ كاشفا عن تجربة شاعر تعرّض للإقصاء من الدرس النقدي لاختلافه وامتلاكه صوته الشعري الذي لا يجري مجرى مجايليه من الشعراء، إلا نموذج من نماذج النقد السّابر لأغوار النص، حيث نلمس حوارا عميقا يجريه الناقد مع شاعر متفرّد وإشكالي، شاعر آمن بالإقامة في أقاليمه الشعرية الخارجة عن مملكة الشعراء المعاصرين ، فكان صوتا شعريا فذّاً واستثنائياً، الأمر الذي جعل بوحمالة يخوض غمار هذه التجربة، التي تكلّلت بتقديم ممارسة نقدية ناجعة تنظر إلى التجربة في عمقها وجوهرها.
ويعدّ الناقد أيضا من النقاد المغاربة، الذين استطاعوا تسليط الضوء على الشعر المغربي المعاصر، بعيدا عن الطروحات الإيديولوجية التي أثّرت سلباً على التجارب الشعرية المغربية، واعتبرت من أسباب تعطّل مسيرة التّحديث في القصيدة المغربية المعاصرة مقارنة بمثيلتها المشرقية ، ولعلّ كتابه الفريد «شجرة الأكاسيا : مؤانسات شعرية في الشعر المغربي المعاصر» يمثّل مرآة تعكس دور بوحمالة الفعّال والمؤثّر في هذا السياق، فقد آنس صوت المتنبي منصتا ومحاورا ومنقّبا عن ملامحه في بغداد،باعتباره رائد الحداثة العربية إلى جانب الشعراء أبي نواس وأبي تمام وبشار بن برد، فاستحضار صوت المتنبي ماهو إلا نداء لتجربة سابقة عن عصرها، فهي قادمة من المستقبل، وما ديمومة المتنبي إلا تجسيد لهذا الأفق المستقبلي، داخلا مضايق العالم ذاهبا إلى مضايق القصيدة في الشعر المغربي المعاصر والشعر الجزائزي لمعرفة ما يميزه عن باقي التّجارب المشرقية، فقدّم في هذا الكتاب الشيء الكثير من ملامح القصيدة المغربية المعاصرة، مبحرا في أقيانوس تجاربه المتلاطم الأمواه والمثير للأسئلة الشائكة والمستفزة، منبّها إلى هذه التجارب الشعرية، التي تشكّل هوية الشعر المغربي المعاصر، وتفتح أفقا شعريا متحوّلا ومتجدّدا ينتصر للآتي ويكسّر أغلال الماضي، للانطلاق صوب المجهول، دون أن نغفل الإشارة إلى مغامرته في مقاربة الشعر الإفريقي، الذي نجهل عنه الكثير، عبْر، التطرق إلى النزعة الزنجية في الشعر المعاصر محمد الفيتوري كنموذج، فأضاء تجربة الفيتوري برؤية نقدية لا تكتفي بالوصف، بل تنفذ إلى العمق وتستكنه الجوهر.والأهم من هذه المغامرة يتجلى في تقريب القارئ من جغرافية شعرية مجهولة في ذاكرة الشعر والنقد العربيين، رغم فرادتها وإضافاتها، كما أنه كان منفتحا على الثقافة العالمية، من خلال، ترجماته الفريدة للإبداع الغربي والإبداع الآسيوي، فجاءت ترجماته مختلفة عن الرائج والمتداول في حقل الترجمة، ويمكن الاعتراف بأنها ترجمات لا تقف عند حدود الترجمة الحرفية، وإنّما يتعمّق في التجارب ويضفي عليها توابله المعرفية والشعرية، فيغدو طعمها ينماز باللذة الممتعة والعميقة. وما يميّز الناقد بوحمالة هو مزاوجته بين الرؤية المنهجية والحس الإبداعي، وهذه الخصلة نادرا ما نجدها إلا لدى الندرة من النقاد، فكان بحقّ علما من الأعلام الفكرية والنقدية في العالم العربي، وأيقونة النقد العربي المعاصر.
ناقد فقيه متمكّن من أدواته النقدية، يطرّز مصطلحاته التي تشبهه وتدل عليه، ومجترحا أسلوبه النقدي المعبّر عنه. والمفارق للسائد في الممارسة النقدية العربية.

(4)

كل حديث عن بنعيسى بوحمالة الإنسان يبقى ناقصا، ولا يمكن الإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بسيرة رجل مثقف ومفكّر نذر حياته لإشاعة الجمال الروحي والوجودي، بابتسامته النابعة من قلب نابض بالمحبة وسريرة صادقة، فبمجرد الاقتراب منه بالمجالسة أو بالتواصل عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تجده يسعى إلى تجسير الصلة معك بكل أريحية وإنسانية، كما أنه لا يبخل على أحد، فأبوابه مشرعة للجميع. لا يتعامل معك كاسم بل كإبداع وإنسان، ولا تهمّه الألقاب، فانشغاله يقتصر حول السؤال المعرفي، وإشكالات النقد وامتداداته، بإسهامات المتميّزة والعميقة. إنسان مَحْتِدُهُ التواضع والإنصات، الإصغاء والتؤدة، الابتعاد عن الجلبة والأضواء، لذا اختار الإقامة في الظلّ، متدبّرا قارئا نهِماً، وناقداً ملفتاً في طروحاته ولغته التي ينفرد بها وتنفرد إليه، يخلص إليها وتخلص إليه، هذا الإخلاص للقراءة والبحث النقدي جعله فاعلا نقديا له دمغته وبصمته التي يعلمها المهتم والمختص. وقد كان بحقّ سفير الثقافة العربية في العديد من الجغرافيات التي زارها مشاركا ومساهما في ندوات ومؤتمرات عالمية لم تزده إلا تواضعاً متشبّعا بقيم إنسانية ينثرها، من خلال، في حياته وفي الإنسان.كلّ هذا عايشته وأنا بالقرب منه في محطات ثقافية كانت آخرها في مدينة مراكش في مهرجان قصيدة النثر، فوجدت الرجل أكثر توقّداً برجاحة العقل والتفكير، وثقافة متعدّدة الينابيع المعرفية وأنه ضليعٌ في مجال النقد، وبدماثة أخلاقه وتعامله الإنساني الذي تلمس فيه النبل وعزة النفس والنخوة المغربية. ومن شيَم الرّجل الرّفيعة التواضع والسّعي إلى التواصل الإنساني، إذ يسعى دوما إلى مساعدة طلبة العلم والمعرفة، ولا يبخل من توجيه النصح لهم وتشجيعهم .

(5)

«هُنَا كُنْتَ تَشْرَعُ الْبَابَ لِلْعُزْلَة / لِصَمْتٍ أَنِيقٍ / لِقِنْدِيلٍ شَاهِقٍ فِي الْأَرَق / تُغَنِّي لِلَّيْلِ كِتَابَ الْمُتَنَبِّي / تَدْعُو لِلسَّهْرَةِ لُزَومَ الْمَعَرِّي مَا لَا يَلْزَم / وَتُغْلِقُ الْبَابَ عَلَى طَرَقَاتِ الرِّيح / بَيْنَمَا حَسَبُ الشّيخِ جَعْفَرُ يَتَسَلَّلُ مِنْ خَلْفِ نَخْلَةِ اللَّهِ / لِيُرَتِّبَ مَائِدَةً أُخْرَى لِلْمَجَازِ رُفْقَةَ الِاسْتِعَارَاتِ / وَيُضِيءَ خَيَالَ الْرِّيفِ حَيْثُ الطُّفُولَةُ مَاءٌ يَتَدَحْرَجُ حِكَايَاتٍ / وَالظِّلَالُ أَسِرَّةُ الْغُرَبَاءِ/ وَالْبُيُوتُ مَصَابِيحُ تُقَنْدِلُهَا ثُرَيَّا الْخِلّان…
وَأَنْتَ هُنَاكَ فِي الْأَبَدِيةِ / تَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ / الْكَوَاكِبِ / الْمُحِيطَاتِ / تَذَكَّرْ أَنَّنَا أَمْوَاتٌ قَادِمُونَ/ نَحْمِلُ تَعَبَ الْمَدَى فِي انْتِظَارِ الْأَمَلِ الْبَعِيد / ضَوْءَ الرَّحِيلِ الْمُنْتَظَر / السَّفِينَةَ الَّتِي خَانَتْ الطُّوفَانَ وَسَاخَتْ فِي رَمْلِ الْعَبَث/ وهَا نَحِنُ غَرْقَى فِي مَدِيحِ الغيَاب / نَرَاكَ تُلْقِي السَّلَامَ الْأَمْوَات / وَتَغِيبُ فِي دَهَالِيزِ الْحَيْرَة / مُشْتَعِلاً بِضِيَاءِ الْقَلَق / مُحْفُوفاً بِالْعَصَافِيرِ / الْغُيُومِ الذَّاهِبَةِ صَوْبَ الْجِبَال / الْأَنْهَارِ الْعَطْشَى لِسُؤَالِ الْمَجْرَى / وَلَعْنَةِ الْآلِهَة…
أَيُّهَا الطَّائِرُ الْمُحَلِّقُ / تَعْرِفُكَ السَّمَاءُ مَفْتُوحَةٌ عَلَى طَرِيقِ مَكْنَاسَة / وَسِجِلْمَاسَّةُ مَخْطُوطٌ يَرْوِي شَجَرَةَ الْحَيَاة/ وَتَشْهَدُ عَلَيْكَ أَبْوَابُ بَغْدَادَ وَهِيَ تَشْهَقُ بِعُبُورِكَ / وَعُزْلَةُ بُوذَا تُصَافِحُ طَيْفَكَ الْأَبَدِي / وَأَنْتَ الْعَابِرُ خَيْطَ النُّور…»


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 17/02/2023