جوردانوفيا

(جوردان: أريد أن ألقي إليك سراً.
الأستاذ: هات.
جوردان: أريد أن أكتب بطاقةً إلى سيدة جميلة، وأريد أن أستعين بك عليها.
الأستاذ: لك ذلك، هل تريد شعراً؟
جوردان: كلا.
هل تريد نثراً؟
جوردان: كلا.
الأستاذ: ومع ذلك فلا بد أن تختار، إما شعراً وإما نثراً، لأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا شعراً أو نثراً.
جوردان: وإذن فعندما أطلب من خادمي أن يناولني قلنسوتي، أو حذائي فأنا أقول نثراً؟
الأستاذ: نعم.
جوردان: يا للعجب! إذن فانا أتكلم النثر منذ أربعين سنة ولا أدري؟)
2
كان ذلك الحوار بين الثري الجاهل «جوردان» وأستاذه الفيلسوف في مسرحية «البورجوازي النبيل» لموليير.
الآن،
كأن هناك من اكتشف فجأة «شعراً» في النثر. هذا الاكتشاف الذي دفع الكثيرين الى الظن بأن الأمر لا يعدو أن (يتكلموا)، عفو الخاطر، ليطلع لديهم الشعر (حراً) من القيود. فإذا بهم يطلعون علينا كلاماً حرا من حد (الشعر). ينبغي الاعتراف بأن هناك من اعتقدَ، «ضلالةً»، بسهولة القول الشعري، ما جعلنا نصادف كل يوم عدداً كبيراً من الكتابات التي تنطوي على كثير من حسن النوايا – إن كنا لم نزل في التفاؤل – ولكنها خالية من الشعر، أكثر من ذلك، بعيدة عن الشرط الأدبي. تصدر تلك الكتابات عن وهمٍ فارطٍ، مفاده أن مجرد الانعتاق من التقنية الأولى للقصيدة، يكفي أن يصير النص شعراً. محاولات عديدة، تأتي إلى الشعر من هذا الباب، معتقدةً بسهولته، وهنا يكمن خطر التجربة الشعرية العربية. لا يعود الكلام مجدياً عن الموهبة في مثل هذا السياق، فالموهبة لا تستهين بالكتابة، الشعر خصوصاً.
الكتابة الشعرية ليست سهلة بالشكل الذي تنم عنها تلك المحاولات. الجهل وحده الذي يدفع المرء للاعتقاد بسهولة الكتابة، فعندما تغيب المعرفة عن الإنسان، لا يقدر أن يمنح تجربته حياة جديدة، في الكتابة. وإذا كانت تجربة الحياة قاسية مرة واحدة بالنسبة للإنسان، فإن تجربته في التعبير عن تلك الحياة، شعراً، تصبح قاسية وخطرة أضعافاً، فهو إذا فشل في أن يعبّر عن تجربته بشكلٍ صادقٍ وحرٍّ وجميل، فإنه سيبدو ضئيلاً أمام تجربة الحياة، وسوف يقلّل من جمالية الحياة القاسية التي عاشها، ويصاب بالنقد مرتين:
مرة لأنه استهان بالحياة، ومرة لأنه استهان بالشعر.
3
ليس هناك شعرٌ حرٌ بالمطلق.
عندما نقول (شعر)، يعني أن ثمة حداً لهذا الضرب من الكتابة، والذين يكتشفون النثر الآن، ظناً بأنه الشعر، سوف يشتركون مع «جوردان» في خصيصة واحدة هي السذاجة (لئلا نقول الجهل). وحماسنا الحقيقي والعميق للكتابة الشعرية الجديدة، لا يجيز لنا الاعتقاد بحصانة كل محاولة في هذا المجال. ويقيناً أن السهولة التي أوحتْ بها فكرة التحرّر من قيود الوزن والتفعيلة، قد أغرتِ البعض بالاندفاع عارياً من الموهبة، من المعرفة، ومن الإحساس بالمسؤولية أيضاً. من المؤكد أن شكل الشعر وعلاماته الخارجية، قابلة للتبدّل والتحوّل والتغيّر، لكن الأكيد أيضاً، أن عناصر الشعر الأولى ستظل حاضرة وجوهرية، ولا يمكن تفاديها أو التنازل عنها أو نفيها ولا الاستهانة بها. ومثلما غرّر مفهوم «جوردان» للنثر بصاحبه، فإن مصطلح (قصيدة النثر) لم يعد قادراً على إسعاف الذين يسقطون في النثرية ظناً بأنها الشعر.

(قصيدة النثر): لم يعد مقبولاً الآن تداول هذا المصطلح المضلل المراوغ لترويج كتابة تخلو من الموهبة والمعرفة معاً، هذه هي واحدة من المخاطر التي ينبغي على جيلٍ كاملٍ أن يعبأ بها ويتريّث ويكترث.

٭ شاعر بحريني


الكاتب :  قاسم حداد

  

بتاريخ : 08/08/2020