حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» -24- باكو لعمر السيد: «أنت بيض وساكنك سوداني»

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

كما كنت أشرت، فأنا وزميلي حسن حبيبي بصدد إصدار كتاب يحكي السيرة الذاتية للمعلم عبد الرحمان باكو، وهي السيرة التي دوناها معه في بداية هذه الألفية، وقد اخترت في هذه السلسلة الرمضانية أن أنشر بعضا مما جاء فيها استجابة لعدد من محبي الأغنية الغيوانية :
عبد الرحمن باكو فنان أصيل، ساهم إلى جانب المجموعة بعطاءاته الغزيرة التي كانت معينا لا ينضب، صوته الساحر وطريقة عزفه يسافران بك إلى أقاصي العوالم الگناوية الغابرة، وعلى يده استعادت آلة السنتير توهجها وسحرها القديم، بعد أن كانت مقتصرة على طائفة «گناوة»· برزت هذه الآلة الساحرة، بفضل تألق عبد الرحمن، كانت هي الآلة الأكثر حضورا في مجموعة كبيرة من الأغاني الغيوانية· وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبد الرحمن من العازفين القلائل على هذه الآلة الذين يستطيعون العزف عليها دون لمس الجلد، أي دون الاستعانة بالإيقاع·
ينحدر عبد الرحمن قيروش، المكنى ب»باكو» من عائلة صويرية عريقة، ما زلت أذكر والدته «مي يامنة» رحمها لله، امرأة صالحة وورعة، استقبلتنا في العديد من المناسبات، وكانت على قدر كبير من الكرم والجود، أما والده السيد «دا قدور الكبادي» فقد كان خياطا ومولعا بفن الملحون، وكان معروفا أيضا بتنظيمه لمباريات «تغريد الطيور» ب «العرصة» بمدينة الصويرة، حيث يجتمع عدد كبير من مربي الطيور المغردة، ويتم إجراء مباراة يفوز فيها الطائر الأجمل تغريدا·
ول «تاگناويت» جذور عميقة داخل عائلة عبد الرحمن، يحكى أن أحد أجداده – حسب الشجرة العائلية التي لا تزال تحتفظ بها عائلة باكو- كان من كبار تجار مدينة الصويرة، وكان يقود قوافل الملح إلى «تومبوكتو» تم يعود بالذهب من هناك لبيعه بالمدينة، وكان خلال عودته يأتي بالعبيد، هؤلاء كانوا ضمن من شكل طائفة گناوة بمدينة الصويرة·
بدأ ولع عبد الرحمن بفن تاگناويت منذ حداثة سنه، حيث يحكي أحد أفراد أسرته، أنه ولشدة شغفه بآلة السنتير، كان يتسلل إلى «الخزين» بمنزل والده، ثم يأخذ حقيبة فارغة «شانطة» ويبدأ بالعزف عليها، ويغني أغاني گناوية، متخيلا أنه يعزف على آلة السنتير· وعندما شب عوده، بدأ يتعلم على يد المعلم «أحمد الحداد» الذي أخذ عنه المبادئ الأولية ل «تمعلميت» إلى أن أصبح من خيرة العازفين على هذه الآلة بالمغرب، إضافة إلى إتقانه للإيقاع الگناوي على آلة الطبل والقراقب·
كان عبد الرحمن باكو يحضر باستمرار «الليلات» التي كان ينظمها خاله السيد «قيروش» المكنى ب»الشحيمة» ببيته، ولأنه لم يكن أسود البشرة، فقد كان «گناوة» يمنعونه من العزف معهم وبالتالي تنظيم الليلات، ومع إصراره المتتالي، أرادوا يوما اختباره بوضعه أمام الأمر الواقع، أي ليواجه صعوبات وتحديات العزف على آلة السنتير·
في تلك «الليلة»، حدث أن دخل أحد الأشخاص في «الحال» ثم سقط أرضا من جراء ذلك، وكان لابد لگناوة أن يعزفوا له «ملْكْ الحنش»، وهو مقام موسيقي بالسنتير يعتبر من أصعب وأشد المقامات الگناوية تعقيدا، وبالتالي عندما يطلبه من هو في غمرة الحال، فإنه لا يجب أن تتم فيه أدنى عملية خطأ أو انزياح، وإلا يصاب الشخص بأذى، قد يؤدي أحيانا إلى ما لا تحمد عقباه· كانت تلك المناسبة، الفرصة التي لا تعوض من أجل اختبار عبد الرحمن· حمل هذا الأخير السنتير، وبدأ بالعزف وهو يتصبب عرقا أمام انبهار الجميع، فالمقام المذكور لا يدخله إلا الضالعون في «تاگناويت»، وبعد مدة قصيرة، بدأ الرجل في الزحف على الأرض كالثعبان، من هنا جاءت تسمية هذا «الملك» بالحنش، وبذلك اجتاز «الفتى الگناوي» الامتحان بتفوق، وكان لا بد أمام مهارته وحنكته، أن تعترف به طائفة گناوة، ك»معلم گناوي» ومن ثمة ولج عالم گناوة وأصبح يقيم «الليلات»·
ومن المعلوم أن عبد الرحمن لعب، في وقت من الأوقات من حياته الفنية، مع فرقة «ليفينگ تياتر» كما عزف في فرقة المغني الشهير «جيمي هاندركس» كعازف على الباس·
ومما حكاه لنا عمر السيد، رئيس فرقة ناس الغيوان في السيرة الذاتية التي دوناها معه بجريدة الاتحاد الاشتراكي في سنة 1999، أن «عبد الرحمن باكو قضى معنا قرابة 20 سنة كانت كلها عطاء، وشخصيا كنت معجبا بعزفه وطريقة غنائه· أذكر يوما، ونحن بأحد المنازل بفرنسا -أنا والعربي وعبد الرحمن- وبينما كان الصمت يخيم علينا، بدأ عبد الرحمن يعزف على السنتير، وكنت أنا على أهبة الخروج، لكن عزفه أخذني من أعماقي، فوجدت نفسي أعدل عن الخروج لأظل أصغي إليه مدة تجاوزت الربع ساعة، وكانت هذه «الدندينة» هي التي نوظفها في بداية أغنية «نرجاك أنا»· وخلال هذه المدة، لم أتمالك نفسي، إلى درجة أنني لم أعرف كيف بدأت في موال، ففوجئت بعبد الرحمن يقوم من مكانه ويأخذ في ضرب رأسه على الحائط وهو يصيح «منين خرجتي منين؟»، فعبد الرحمن كان ينتظر ذلك الموال الذي خرج من دواخلي دون سابق اتفاق· ظل المرحوم العربي باطمة ينظر إلينا في استغراب كبير· فعبد الرحمن كان مجنونا بالحال والواقع أنه كان يسحرني بنغماته، ساعتها قال لي :»انت ابيض وساكنك سوداني»، وكان يقول دائما للعربي :»عمر خاص غير اللي يدق عليه، إيلا ما دقيتيش عليه راه ما يعطيكش صيحاتو»·
لا أعرف ماذا حدث لعبد الرحمن في الأيام الأخيرة، فقد بدأ يتحاشى العمل معنا، واتخذ مواقف خاصة به، ومن حقه ذلك، فبعد أن كان منزله مثل الزاوية حيث الكل يأكل ويشرب عنده، أصبح في الأيام الأخيرة غريب الأطوار، وذا مزاج صعب، وقد ودعته آخر مرة عندما اتخذ قرار الابتعاد عن المجموعة لأسباب لا أريد الخوض فيها، وقد تكلم عنها العربي باطمة في كتابه «الألم»، لا أريد الخوض فيها لأنني أعتبر شخصيا أن ما حدث من خلافات بيننا وبين عبد الرحمن، يظل قزما ضئيلا بالمقارنة مع ما اقتسمناه وشاركناه خلال مشوارنا الفني الحافل، فالاختلافات تفنى والمواقف تفنى كذلك «كلشي كا يتمحى» إلا نقش الجميل والأصيل في الذاكرة، وبهذا سيظل هذا الفنان الكبير شامخا في ذاكرتنا وذاكرة الجمهور الغيواني برمته»·
يغيب الطير···
لعقاب لخطير···مخالبه ماغلبو
وا المصير!
السنتير يزير···
نغامه عل لحصير···
سكب وتعبير···
هاد الدنيا ماتدوم
يا لغاويك شگاها
شحال من عظيم تعظم···وخلاها
****
نرجاك أنا إلى مشيت
فُكْني من عبادك الى تْريد
آي قد الزِّايد ف الهَم ْ
وا وماكْواني حر الموت
خويا العربي واه يا العربي
آحيَّانا يا ليام
احيَّانا
آش بغيت أنا بهاد العالم
لا راحة ولا نظام
غير الفوضى وزيد لگدام
*****
من شر الدنيا گلبي مال
كثرة البغض وگال وما گال
قصارت من النقص ولفهام
وزاد ف عذابه تخمام
كحل أو بيض بحال بحال
وعلاش الشبكة تعيب ف الغربال


الكاتب : n العربي رياض

  

بتاريخ : 08/04/2024