حول بكائيات التلفزيون الرمضانية، أو دمعة واحدة تكفي؟

إذا كان البكاء في الواقع المعيش هو استجابة عاطفية طبيعية إزاء عوامل عديدة مختلفة ذات طابع صدامي مؤثر، فإن البكاء على التلفزيون في رمضان وفي أوقات الذروة، عبر مسلسلات لا جمال فيها غير جمالية الصورة وزاوية الرؤيا ، شيء آخر مختلف تماما .
في التلفزيون الرمضاني خاصة لا يقتنع مخرج المسلسل بتكرار مشاهد البكاء والنحيب كل حلقة بعد أن يعمل كل ما في وسعه كي يمططها ويخضعها لعملية إطناب منفرة ومقززة تجعلها عسيرة الهضم، لكنه ينجح في تحويل مشهد كان يراد له أن يكون مادة فنية بنكهة الإبداع والخلق إلى مشكلة مرضية مرهقة نفسيا وجسديا تصيب المشاهد في مقتل، ما يؤثر بشكل سلبي على حياته الذاتية وتعمق جراحاته الموضوعاتية .
أتحدث هنا عن عينة من المسلسلات الرمضانية لهذا الموسم ضمن شبكة البرامج على القناتين الأولى والثانية، ولن أكرر هنا ما كرسته آلية التسطيح والتنميط للشخصيات والشخوص منذ نشأة التلفزيون المغربي منذ نشأته بداية الستينيات إلى اليوم .
فما ذنب المشاهد الذي اكتوى بنار الحجر الصحي وضاق ذرعا بإجراءات الكوفيد 19 الاحترازية، كي يخضع لتعذيب نفسي بصري من خلال شحنات بكائية مرضية يؤديها ممثلون وممثلات بواقعية مفرطة في قوالب محزنة عقب كل آذان؟ وأين هو مبدأ الإيحاء في السينما، وهل من خيار لإشراك المشاهد غير البكاء الرجيم؟ وهل واقعنا المجتمعي ينقصه البكاء المرضي حتى نغرق المشاهدين في مشاهد بحر من الدموع والشهقات؟ وكيف أصبح المشهد البكائي على شاشة رمضان مادة يتنافس فيها المخرجون المتمرسون وغير المتمرسين؟ ولماذا تتمطط مشاهد البكاء لدقائق، بدل بضع ثوان؟ ولم لا يجد المخرج تقنيات أخرى تجسد الألم غير الشهيق المرضي ذكوري وأنثوي؟
إن المشاهدات القياسية التي تحققها بعض المسلسلات المغربية ضمن شبكة برامج رمضان على القناتين الأولى والثانية، ليست مؤشرا ايجابيا على الجودة الفنية، بقدر ماهي تماه جارف مع نوبات البكائيات المطولة انسجاما مع تقليعة (الجمهور عايز كده) ومحاكاة لموجة البدونة والترييف التي تجتاح عالمنا المدني، عبر طوفان من القفشات الشعبية والموروثات اللفظية ذات الطابع البدوي المليئة بالإحالات والإشارات الشعبوية الملغزة.
في أحيان كثيرة تتحول المشاهد والصور كما لو أن الأمر يتعلق بحادثة سير مروعة على الطريق العام يتم نقل ولولاته وويلاته بتفاصيلها الرعناء. ويبدو والله أعلم أن أهم ما يتقنه الممثلات والممثلون المغاربة غي هذا البروز الموسمي هي تلك النوبات البكائية الممضة وركوب موجات الشتيمة والنكد لحد القرف. إنه شعب التلفزيون الذي أدمن التشكي والبكاء ثقافة وتربية حتى في ضحكه. حتى تكاد تقول أن من يمثل أحسن، يبكي ويشتم أحسن. لذلك، ليس غريبا أن نعثر على مسلسلات رمضانية تعكس هذا الوضع الاجتماعي المريب بإسهال، حيث لا تكتفي الممثلة بالبكاء المعهود اجتماعيا، بل تطوره إلى درجة العويل والنحيب، وتمططه حتى يصبح مقرفا مشمئزا، فبكاء أحد الممثلين في إحدى الحلقات كان له وقع شديد ومنفر، فيما كان يكفي الإشارة إلى دمعة في بضع ثوان. كان المشهد البكائي يطلع من المخارج الصوتية حبالا مزلزلا حتى تهتز شاشة البلازما التي ترسل بدورها ارتدادات وتشنجات فورية في نفوس المشاهدين .
وليس غريبا فالبراعة في إتقان الأدوار البكائية مقياسا للنجومية فحسب، بل وعاملا حاسما للتصنيف ضمن أدوار البطولة وجالبا للمال أيضا، فهناك الملايين من السنتيمات تؤدى لبعض الممثلات والممثلين مقابل هذه الأدوار البكائية الاستثنائية من أموال دافعي الضرائب. وإذا كان الشعب يبكي بكاء حقيقيا لمائة وألف سبب، فلابد لتلفزيونه الرسمي أن يعكس ذلك بشكل مباشرلا فن فيه، فيحق الوصف ويصدق التوصيف إنها «شاشة بكائية بامتياز، في رمضان قبيل وبعيد الإفطار، إنه موسم البكاء بلا منازع. الغريب العجيب أن مخرج المسلسل المغربي يدرك جيدا أن البكاء طعم لملايين الأسر المغربية لرفع نسب المشاهدة في شبكة برامج رمضان لهذا العام، وجاء السياق مناسبا، فالأسر التي تبكي همومها ومآسيها، وتكابد ضغوط الواقع الكوفيدي الهش، وتجهر بمشاكلها وانتظاراتها المجتمعية بشكل أو بآخر قبل الكوفيد وبعده ستجد في تمطيط مشاهد البكائيات نوعا من التماهي مع واقعها، وقد لا تدرك أن التمطيط من وجه نظر برغماتية جالب للمال، ونبع الشهرة والنجومية حتى أن خبر موت ممثل مغمور، شكل خبرا استثنائيا في الصحافة الوطنية، وفي التلفزيون الرسمي ذاته.
والحقيقة، أن الشخصية الفنية ضمن النسق البكائي، إنما تبكي حال الفن والاشتغال الموسمي، وتعلن حرقتها بوفاء، وتشكي حظها التعيس مع واقع الفن ووضعه المجتمعي، وربما مع مخرج السلسلة ذاته، الكل يبكي في ظل حكم تدبير تعيس لحكومة تعيسة، ومرحلة أتعس من التعاسة. لذلك يجتهد المخرج في اختيار أحسن ممثل «بكاي» وأحسن ممثلة تؤدي دور البكاء بإقناع. ويفلح في ذلك بتفو. ..


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 28/05/2021