حيــرة سعيد بنكراد حول مآل الجامعة المغربية : رحم الله الجامعة المغربية… عاشت الجامعة المغربية ، تهويل أم تنبيه؟

لقد كانت الجامعة في مختلف المدن المغربية عصرئذ «تفور» وتتحرك. كان الأساتذة يتنافسون في بناء المشاريع الفكرية، وعقد الأنشطة الثقافية. ولم تكن كلية الآداب بمكناس بعيدة عن ذلك. فقد أسست مجموعة من الأساتذة إطارا للقاء الفكري والثقافي والأكاديمي، أطلقوا عليه «أربعاءات أكاديميا « Les Mercredis de L’Académia (2004)، لتكون فضاء جامعيا للحوار الحر والديمقراطي .. يلتف حوله الأساتذة والطلبة والمهتمون، لمناقشة قضايا فلسفية وفكرية وثقافية واجتماعية….أو تبادل الأفكار والآراء بين كل الحساسية الفكرية والأيديولوجية أو استدعاء «حساسيات حداثية» وغير «حداثية»، داخل الجامعة أو خارجها(ص216) للحوار والتعايش المشترك في خدمة الوطن.
لكن، للأسف لم تستمر هذه التجربة، كما كان مرتقبا ومتوخى، لأنها جاءت، في نظر بنكراد، في مرحلة التفكك والتشظي والتلاشي والانشقاقات والخلافات والصراعات التي بدأت تتسرب إلى أوصال الجامعة، فأصابتها في مقتل. صراعات هامشية بلا أفق ولا غاية، اختلاط اليسار باليمين، وتحالف الانتهازي بالوصولي، وانتفاء الحدود بين اليميني واليساري. وهو ما مهد لاقتراح نظام جديد، تحت يافطة الإصلاح وإشراك الأساتذة، ومهد لوزير يساري، جاء وفي يده اليمنى مشروع الإصلاح الجديد نظام (L.M.D)، أي الإجازة والماستر والدكتوراه، ويده اليسرى الوضع المادي للأساتذة (مكر التاريخ). قَبلَه «الأساتذة، وبدأت رحلة عبثية في الجامعة لم تنته لحد الآن، وها هم اليوم يحاولون من جديد الرجوع إلى نظام الأربع سنوات، ولكن هذه المرة تحت يافطة إفرنجية جديدة هي «الباكالوريوس».(ص221)، وقد جاء وزير آخر، من حزب سياسي وافد، بتركيب مفارق، وتراجع عنه دون تقويم ولا محاسبة، فزاد العبث وتضاعف حتى بلغ مرحلة تشي بنهاية المشوار…
ويتابع بنكراد في هذا الصدد: «وسيتم إفراغ هذا النظام من مضمونه لكي يحشوه الأساتذة بمواد قديمة منتهية الصلاحية. ما تغير حقا هو أن الجامعة تحولت إلى إعدادية، وأصبح الطلبة يتلقون ربع ما كانوا يتلقونه قديما، وأصبح جزء من السنة الجامعية يستهلك في إدخال النقط والمداولات والامتحان الاستدراكي، والاستدراك الاستثنائي، وهلم جرا. وانهارت مؤسسة الشعبة، وانهارت أعرافها، واختفى ما كان يسمى الحرم الجامعي، وسيتحول الكثير من مسؤولي الشُّعب إلى موظفين طيعين عند العميد». (ص221).
تلك بوادر فاقعة لاندحار الجامعة المغربية، في نظر بنكراد، وبعض أسباب تراجعها وأزمتها وبالتالي نهايتها. فضعف الإصلاح الجامعي عند من تولوا مسؤولية تدبير أمر الجامعة هو تصورهم التقني للإصلاح، باستيرادهم «أدوات الإصلاح وفلسفته دون مراعاة للتفاوت الحضاري بين طلبتنا وطلبة غيرنا، وما يحتاجه كل إصلاح من كلفة مالية وبشرية، وما يحتاجه من جهد لتغيير عقلية منفذي الإصلاح وتنزيله».(222).
بدأت المساحات تضيق على سعيد بنكراد، ومظاهر اليأس من التغيير تزداد، ومؤشرات الأمل في جامعة مغربية على هدى جامعات فرنسا تتراجع، وحماسة زرع قيم إنسانية كونية تخبو. اليأس من الجهات الأربع، وفشل آخر في الجامعة المغربية، بعد الفشل السياسي والنقابي، يتمدد ويكتسح. ولم يكن له بد من التخلي عن مساحات كان يمرح فيها، ويأمل أن يحقق فيها بعض ما كان يؤمن به لما عاد من السربون، أو ما خبره في الجامعة التونسية أستاذا زائرا في باب الانضباط واحترام الحرم الجامعي، والبحث العلمي (ص248-249) فاضطر إلى التراجع عن الأنشطة الثقافية، بل و»التخلي الكلي عن أي عمل سياسي أو نقابي»(ص222) عدا إلقاء دروسه وأداء واجبه. لم تعد كلية الآداب، وما يحيط بها في جامعة مولاي إسماعيل، تتحمل كائنا اسمه سعيد بنكراد. أصبح عبئا عليهم وصاروا عبئا عليه، فاحتمى بالقراءة والتأليف والترجمة وتأمل التجربة الإنسانية، ومراجعة القناعات والأحلام، بل والتفكير في تغيير الأماكن والبحث عن آفاق جديدة، في جامعة مغربية أخرى أملا في توفر الهواء الملائم لإحياء المشروع وتعميمه. ولم تكن الوجهة سوى جامعة محمد الخامس في الرباط، «أعرق جامعة عصرية في المغرب» ( بوطالب، ص16)، وأكثرها شهرة وإشعاعا، وبالتحديد إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بها.

سعيد بنكراد أستاذا باحثا في جامعة محمد الخامس بالرباط: خروج الروح

انتقل سعيد بنكراد ب»جرعة من الجنون» والأمل، إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس سنة 2010، ويده على قلبه، وعينه على إتمام المشروع واستكمال المهمة. انتقل بعد يأس متراكم مقيم، وفي الوقت ذاته في سياق تحولات عميقة في الذات والمحيط وفي الأفق. وهو ما عبر عنه بلغة وجودية وبشحنة ألم عالية، ومسحة تشاؤمية بائنة، لما قال في فقرة مكثفة ومطرزة، نوردها على طولها:
« ستعرف حياتي المهنية والعلمية تحولا كبيرا في العقد الثاني من الألفية الثانية. تراجعت المشاريع الجماعية أو اختفت نهائيا، وغاب الكثير من الأصدقاء ، ورحل البعض الآخر، وقلّت الأحلام وتتالت الخيبات، وأضحى العالم موحشا. تقدمت «الأنا» وتراجعت «النحن» التي كانت تحتضن الرغبة الجماعية في المضي إلى الأمام الدائم. كل شيء تغير في محيطنا، تغيرت لعبة السياسة والثقافة والإيديولوجيا، ولم تعد فرجة الحياة ذاتها تبعث على الفرحة الطفولية في أعيننا. لقد سقطت الكثير من محكياتنا عن عالم جديد كنا نودع فيه كل ما نحلم به أو نتوق إليه. لم تعد الطريق طويلة كما كانت، ولم يعد الليل يبشر بالنهار. وها هو الزمن يُرى في أيامه وشهوره، قصيرا بلا أفق عدا سراب يوغل في البعاد، إنها «السرعة القصوى»، لا تمهل بعدها»(ص269.).
لما انتقل بنكراد إلى كلية الآداب بالرباط، وأمله في فضاء جامعي باعث على الأمل في التغيير والتجديد ومواصلة المشوار المهني والعلمي بنفَسٍ جديد، كان على علم بأنه يلعب الشوط الأخير من حياته المهنية بالأساس في ملعب جامعة محمد الخامس العريقة، وفي ظل زمن عولمة لا تبقي ولا تذر، وإبدال رقمي جائح بأسناد محمولة في الهواتف واللوحات والحواسيب والأنترنيت والفضاء الافتراضي وموقع الصورة فيها وفي صناعة وجدان الناس وتوجيه أهوائهم ونوازعهم.
غير أن الصدمة كانت قوية، وكانت الخيبة مدوية، وبدأت المفارقات تنجلي وتكبر، وبدأ الأفق يضيق ويختنق. لم تعد جامعة محمد الخامس بعراقتها أفضل من جامعة مولاي اسماعيل على حداثتها. عمت الأزمة، واستفحل المرض، إن لم يكن قد بلغ مبلغه، سيعجل بالإعلان عن موت الجامعة المغربية، وطلب الرحمة لها، والمغفرة، وتحميل المسؤولية لمن أماتها وأوصلها إلى ما أوصلها إليه، عاصمة الجامعات المغربية ومنطلقها التاريخي..
لقد وفرت جامعة مولاي إسماعيل بمكناس في بداية نشأتها، وهي جامعة فتية مقارنة مع جامعة محمد الخامس، للأساتذة الباحثين شروط البحث العلمي والبيداغوجي وأجوائهما، وهكذا مكنت إدارة الكلية كل واحد منهم، وبشهادة بنكراد نفسه، «مكتب كبير وجهازي حاسوب (ثابت ومحمول) وطابعة وناسوخ وتلفاز بشاشة كبيرة، مع كل مستلزمات هذه الوسائل التربوية» (ص283). وهو ما لم يجده في فضاء الجامعة الجديد الذي انتقل إليه، فخاب أفق انتظاره. وحتى لما تقاسم مع زميله ورفيقه الطيب بالغازي مكتبا صغيرا لاستقبال الطلبة والفريق البيداغوجي لماستر السميائيات والصورة، وباجتهاد طاقم إداري جديد على رأسه عميد «جديد»، طرده منه وشرده، وتم ببساطة، إغلاقه وانتهى الأمر. عندما تُسنَد المسؤولية لتسيير مؤسسة جامعية معينة، لمن ليس أهلا لها، لاعتبار غير الكفاءة والاستحقاق فانتظر النهايات المأسوية… ذلك، حال كلية الآداب بالرباط، فقد أسندت مسؤولية تدبير شأن هذه الكلية العتيدة إلى عميد، بدون أفق ولا رؤية. « كان مشهودا له بالجهل، فلا موقع له ولا ذكر في المشهد الأكاديمي الجامعي، وعُرف عنه حقده الشديد على المعرفة وكراهيته للبحث العلمي ونفوره من الأساتذة الباحثين…لم يكن يدير هذه المؤسسة وفق قوانين وأعراف جامعية، بل كان يفعل ذلك استنادا إلى حالة مزاجية تحكم على الأشياء وفق ما يحب أو يكره هو وحاشيته.» (ص288) .حيرة وخيبة وغربة.
بألم عميق، وتشاؤم كبير، ومن خلال آلية المقارنة، وبعد تجربة قصيرة بكلية الآداب بالرباط، يخلص بنكراد إلى هذه الخلاصة المحبطة قائلا:» وكان الوضع غريبا حقا في هذه الكلية. لقد أُفرغ هذا الفضاء الجامعي العريق من مضمونه ومن إشعاعه وتقاليده التي أرساها أساتذة كبار على امتداد سنوات طويلة، وتحول إلى مجرد مؤسسة تعليمية بسيطة لتلقين بعض المعارف لطلبة لم يعد الكثير منهم معنياً سوى بالحصول على شهادة قد تمكنه من الاعتصام أمام البرلمان. فلا وجود لأعراف جامعية، ولا يتمتع الأساتذة الباحثون بأي تقدير، ولا مرافق تليق بهم، ولا يتوفر الكثير منهم على مكاتب لاستقبال طلبتهم، ولا وجود لقاعة خاصة بهم تحترم الحد الأدنى لما يتطلبه فضاء يليق بباحثين جامعيين. لقد تبخر كل ما بُني على امتداد أكثر من نصف قرن فجأة، ولم يعد هناك من يطالب بأي شيء» (ص 286). من حق سعيد بنكراد أستاذا باحثا، وصاحب مشروع فكري ومعرفي، ورؤية إنسانية، وهو يستقرئ تاريخ هذه الكلية، وبالتالي الجامعة، وقد جاء من المستقبل بفرنسا، أن يضجر وييأس من مستقبل الجامعة المغربية، ليدل بذلك الجزء عن الكل، وبالتالي ليصدح ملء فيه بنهاية الجامعة المغربية وموتها المحقق. حيرة وظنون وجنون.
طبعا، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من التردي والضحالة والانحطاط في الجامعة المغربية، بل زاد واستفحل خاصة في البحث العلمي والبيداغوجي بهذه الكلية، إذ هناك من «يترأس مختبرا دون أن يبحث أو يختبر أي شيء، يمكن أن يكون رئيسا لمجموعة بحث حول الترجمة مثلا دون أن يترجم كلمة واحدة في حياته… وما يسطر في «دفاتر التحملات» والبرامج مجرد خانات ورقية تُملأ لإرضاء العين فقط ولا حقيقة لها في الواقع…» (ص287). والأنكى من ذلك، فقد تحولت كثير من التكوينات، وخاصة الماسترات منها، «في شكل تراجيدي مرعب، إلى ما يشبه الكتائب أو المليشيات، كل كتيبة منغلقة على نفسها ولا يسمح لأفرادها بأن يطلعوا إلا على ما يلقن لهم الماستر الذي ينتمون إليه. هذا دون أن نتحدث عن عبثية التكوين على مستوى عناوين الوحدات، وعن غيابه الذي يكاد يكون مطلقا على مستوى الدروس الفعلية التي تُلقى على الطلبة. ونترك جانبا أيضا انفصال التخصصات عن بعضها البعض» (ص110) . تلك شهادة يمكن تعميمها، مع حفظ الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، على كل الجامعات المغربية.


الكاتب : إدريس جـبـري

  

بتاريخ : 07/10/2022