دروس الهزائم: في رواية «ثورة المريدين» للمؤلف سعيد بنسعيد العلوي

تطرح رواية «ثورة المريدين» على القارئ والقارئة العديد من الأسئلة الملحة، وتقارب عددا من القضايا الراهنة التي تجثم على أنفاس المجتمعات العربية، والتي تمت مقاربتها بأسلوب إبداعي مكثف بالدلالات الرمزية، وباستدعاء دروس التاريخ للمضي قدما نحو المستقبل. في هذا الإطار تسعى هذه الورقة إلى تقديم تفاعل أولي مع الرواية، والذي يصبو إلى الاقتراب من مستوى هذا العمل الإبداعي الهام والممتع في آن. وللإشارة تقدم هذه الورقة قراءة عاشقة لرواية «ثورة المريدين»، كما تسمى عادة في مؤسسة الربوة، وهي قراءة عفوية متحررة من القواعد والقوالب والنظريات النقدية الأدبية.

1 – عن الرواية
غلاف الرواية يتماهى مع العنوان «ثورة المريدين»، الذي يحمل صورة لمغاربة بلباسهم التقليدي يتبعون الطريقة المغربية في التصوف. وعلى الجانب الآخر نص يتحدث عن أوصاف المهدي الذي لا يزال «ينتظره العديد من الناس في أرجاء المعمور ليعود في أي زمان ومكان ويهابه الملوك والسلاطين ويقيم عروشا ويهد أخرى … إنه مهدي عابر للأزمنة ويملك قوى ما ورائية يتربع على عرش الروايات وتخدمه العفاريت والشياطين …».هكذا يورط المؤلف القارئ منذ البداية حين يستفز فضوله، ويمنحه وعدا بالمتعة يجعله مسافرا لاهثا بين أحرف الرواية في مغامرة بحث عن هذه الشخصية المثيرة للفضول.
تنكب رواية ثورة المريدين على سرد مسارين حكائيين، يبدوان للوهلة الأولى كأنهما متوازيين لكنهما لا يلبثا أن يتقاطعا؛ على الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة الفاصلة بينهما (أزيد من 9 قرون) فاسحة المجال لطرح أسئلة سياسية راهنة على الخبرة الإنسانية، متخطية بذلك الساعات والأيام والأجيال حيث يختلط الماضي بالحاضر بالمستقبل؛ لخلق عالم الرواية المتكونة من21 فصلا. (الرواية من الحجم المتوسط 279 ص).
المسار الأول في الرواية خصص للكاتب والسيناريست والصحافي عبد المولى اليمُّوري، الذي كان منشغلا بجمع المعطيات التاريخية لكتابة سيرة المهدي بن تومرت، والذي يعيش بين أمريكا وجنوب إسبانيا متنقلا إلى المغرب ومصر. حياته الشخصية عبارة عن مأساة زواج حبيبة عمره من جزار ببلجيكا بعد أن رفضته والدتها بدعوى التفاوتات الاجتماعية بينهما، فهي الشريفة الإدريسية ابنة بائع الأثواب وهو ابن الخياط العادي، وارتباطه بزواج باهت لا طعم له بالأمريكية التي انفصل عنها وله منه ابن حاضر غائب هوياتيا وماديا. وحتى مع مقتل زوج حبيبته إلا أن لقاءهما يتعذر بما أنها نذرت حياتها لابنتها ريم. أما حياته المهنية فهي ناجحة.
المسار الثاني ارتبط بشخصية المهدي بن تومرت. والتي اعتمد في رسم خطوطها العريضة على كتابات كل من البيدق وعبدالواحدالمراكشي وابن القحطان وابن أبي زرع وابن خلكان، لاستنطاق مشروعه الفكري والسياسي في المغارب، مركزا على دهائه السياسي وبراعته التنظيمية وخبراته في التكتيك والمناورة، بالإضافة إلى خطابه المتفرد ومسلكيته الصوفية التي مكنته من استمالة الجموع، وبناء دولته بدءا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتهاء باستثمار الرمزي الديني. وسرعان ما تتشابك خيوط الماضي مع الحاضر في الرواية لدرجة تقلص الزمن التاريخي وذوبانه في ميدان التحرير حين تتطابق معايير سياسيي الأمس مع فئة من فاعلي اليوم في العديد من أوجه الفعل السياسي.

2 – رواية تاريخية أم تاريخ في خدمة الإبداع الأدبي
على الرغم من كون المؤلف يرفض مسألة التصنيف أي اعتبار هذا العمل الأدبي «رواية تاريخية»، إلا أن هذا لا يمنع من كون المؤلف الأدبي بشكل عام يتناول الظواهر الاجتماعية، وكل ظاهرة اجتماعية هي بالضرورة ظاهرة تاريخية، لذا فإن الرواية تشكل فرصة للتغلغل في التفاصيل التي قد يتغافل عنها التاريخ. ومن شأنها أن تشكل وثيقة للمؤرخ تقوده في رحلة فهم مجتمع ما في حقبة معينة، خاصة الرواية التي لم تكتب بقصد أن تكون تاريخاً، وفي تصوري تشكل «ثورة المريدين» في هذا الباب أرضية لفهم العديد من ملامح النظام القيمي والأخلاقي والسياسي في مجتمع العالم العربي خلال ما يطلق عليه «الربيع العربي»، وحتى المجتمع الإسباني نظرا لما حملته من أوصاف لخصائص الآداب والفنون والعادات وغيرها.
لم يقم الروائي في هذا العمل على سرد وقائع وأحداث الماضي متتبعا في سرده التسلسل الزمني كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ، بل اتخذ من التّاريخ فضاءً للكتابة مستخدما بذلك أدوات الخطاب التخييلي، وفق ما أملته رؤيته الفنية وحاجات السرد.ومع أن هذا العمل الفني يتخذ من التّاريخ مادة له؛ لكنه لا ينقل التّاريخ بحرفيّته بل يوظفه للتعبير عن رؤيته لنظام الحكم ذي المرجعية الدينية، واتخذ من التّاريخ ذريعة لبناء هذا التصور.
كما أن استحضار الماضي وتحديدا شخصية المهدي أو المنصور أو حجة الله، لم تكن لأجل التذكير باللحظات المجيدة في تاريخ المغرب على الرغم من كل ملامح التعظيم التي رافقت وصف هذه الشخصية من الإمبراطورية الشاسعة التي توحدت تحت نظام الحكم الذي وضع أسسه بن تومرت إلى علمه وحكمته وعلاقته الفكرية مع الإمام الغزالي. فبقدر ما كانت توهم القارئ بالاندراج في الماضي، ظلّت قائمة في أسئلة الحاضر، هكذا شكل التاريخ حاملا وحاضنا للحدث ومكونا فاعلا في الشخصيات وتشكل ملامحها.

3 – هزائم الهيستوغرافيا
حملت الرواية انشغالا كبيرا بحقل التاريخ -بالهيستوغرافيا وأدوار المؤرخين والوعي التاريخي-، ووجهت انتقادا شديدا للمؤرخين وللتاريخ الرسمي، تشير الرواية في ص 160 «الالتزام بما يقرره المؤرخون في كتبهم، بما يتنازعون حوله، أو بما يعذر فيه بعضهم البعض … أو يسكتون عن أخطاء شنيعة.يضعون أياديهم أمام أفواههم حتى لا تفلت منها ضحكات الاستهزاء أو ترتفع منها أصوات الاستنكار» .
كما أن اسم المؤرخ البيدق في بعده الرمزي، والذي تكرر كثيرا في هذا العمل الأدبي يحيل على لعبة الشطرنج و أدواره البسيطة على الرقعة لذا تتم التضحية به في الكثير من الأحيان، إلا أنه يكون خطيرا إذا لم يتم الانتباه إليه، ويصير أخطر إذا وصل إلى الصفوف الأخيرة من معسكر العدو على رقعة الشطرنج، حيث يصبح له حق الاختيار ليتحول إلى ما يريد باستثناء الملك، بما أنه أصبح شريكا في اللعبة السياسية والقرار السياسي؛ وهنا البيدق صاحب المهدي أو مؤرخه، وصل إلى أعلى مراكز القرار وأصبحت لديه بدوره سلطة غامضة، حيث تشير الرواية على الصفحة 161 «سكوت البيدق عن الصفقة التي تمت بين المهدي وصاحبه عبد الله . من المستبعد تماما أن يكون الأمر كذلك.. هل كان البيدق يجهل هذا الأمر، وهو أقرب الناس من المهدي وألصقهم به؟ هل كان البيدق طرفا في الصفقة، صفقة طرفها الأول صورة الإمام المعصوم وطرفها الثاني الانخراط في اللعبة، و الاستفادة منها نوعا من الاستفادة، نوع لا نعرفه، بل قد لا نعرفه يوما من الأيام؟».
هكذا أصبحت للبيدق رواية تاريخية مزدوجة: الأولى رسمية تحت الطلب مكتوبة للمراعاة أو خوفا، والثانية خفية حقيقية، استيقظ فيها ضميره ووقف، حسب الرواية، عاريا أمام المرآة وهي الصيغة الأخرى التي تحمل عنوان «السر المرقوم في خبر المعصوم»- والذي يحيل على رواية أمبيرتو إيكو «اسم الوردة» وكتاب أرسطو السري حول الضحك-. وبما أن عبد المولى يتوق إلى معرفة الحقيقة، فإن حلمه هو كما يقول في ص 161»بلوغ الكتاب الساحر، السحري، الصادق … الكتاب الذي يقرر فيه البيدق الأمور على حقيقتها. حيث لا حضور لعبد المومن يخاف من سيفه أو سطوته، ولا من المهدي يريده نقيا خالصا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».

4 – سئل أحدهم خلال الربيع العربي عن مفهوم الثورة فأجابه مخاطبه إنها «أنثى الثور»!!!
تقارب الرواية سرقة أحلام الربيع العربي من طرف تصاعد التطرف الديني أو العسكرة، وقد اتخذت من شخصية المهدي بن تومرت حصان طروادة الذي مكنها من الكشف عن آليات اشتغال الإسلام السياسي المتكررة عبر القرون، حيث تم تقديمه في صورة سياسي مُحنك، ومكيافلّي خالص، لا همّ له إلاّ تحقيق مشروعه السياسي: كلّ شيء يبرّر قيام الدّولة حتى ولو أدّى ذلك إلى تفعيل مبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة” بل استعمال الشعوذة وضرب الرمل وغيرها من الأسباب
والثورة في الرواية كما جاءت على لسان مانولو ص 158»أحب الشباب، أحب حماستهم. هي الدماء الحارة تجري في العروق، لكنني أكره اليوم الموالي للثورة عندما ينقضي الحماس ويستفيق الناس ويقبل الانتهازيون من كل الجهات. ليس كل شيء في الثورة صفاء ونقاء.»
هكذا برع صاحب الرواية في توظيف العديد من الرموز لفضح مظاهر تغييب العقل، وأزمة غياب الوعي التاريخي وتقديس الماضي، وبالتالي تكرار نفس الأخطاء والتجارب. وعلى الصعيد الرمزي دائما،عبرت الرواية عن سرقة ثورات الشباب على لسان الجدة «لالة رقية «حين تشير إلى حيان الذي يباغتنا شهر فبراير بقولها «يلوذ حيان بالليالي الأيام الأربعون الباردة في عمق فصل الشتاء، يتوسل إليها أن تعيره ليلة واحدة من أيامها الباردة، يتسلل حيان إلى فبراير ليلا ويفعل فعلته من إفساد الفرحة بقرب مقدم الربيع. غير أنه يتسلل ليلا ثم ينصرف في اليوم الموالي ليلا كذلك تقول جدتي لالة رقية يصنع مثل حيان يدخل بالليل ويخرج بالليل متلصصا دون أن يراه أحد غير أنه يلقن الناس درسا يتعلمون منه عاقبة الاستهتار بحيان واستصغار شأنه.» وهي إشارة واضحة لهزيمة 20 فبراير وسرقة الثورة بل هزيمة كل البلدان العربية التي عاش مرتحلاً بينها أبطال الرواية في زمن عبد المولى أو زمن المهدي.

5 – وهل يثور المريد؟
يحمل عنوان الرواية مفارقة في طياته،فالمريد كما عهدناه في الأدبيات الصوفية بشكل خاص والإسلامية عامة، كائن وديع فمنذ بداية تأهيله يعمل على قطع الصلة بالوالدين، ويترجم ذلك عمليا بالتخلي عن كل القيم الدنيوية، مرورا إلى مرحلة التلقين، التي يتم عبرها تخريب كل قواه النفسية وشهواته الغرائزية؛ لتسهيل السيطرة عليه والتحكم في ذاته، لصالح شيخه حتى يتمكن في يوم ما أن يرث سره.وبتالي كيف للمريد أن يثور؟!!
على أي، يستلهم الراوي عنوان الكتاب من التمرد الذي كان وراءه التيار الفكري لابن قسي، والذي استقطب الكثير من الأتباع ولقي معارضة من قبل المرابطين لأنه تحول من القول بالولاية الصوفية إلى إعلان الإمامة السياسية التي استهدفت الحكم واقتلاعه. ورغم فشل ثورة ابن قسي، إلا أنها هيئت الأرضية لوصول الموحدين إلى الحكم. وللإشارة تؤكد المصادر التاريخية على أصل ابن قسي المسيحي، فابن الأبار يقول عنه: “أول الثائرين بالأندلس عند احتلال دولة الملثمين، وهو رومي الأصل من بادية شلب. ترك وظيفته بالإدارة المخزنية ودرس كتب أبي حامد الغزالي وعمل على جلب الأتباع”.
ومع أن العنوان يوحي بأن أبطال الرواية هم «المريدون»، إلا أنه باستثناء صورة الغلاف وعنوانه، فالرواية تصمت عن تفاصيل هذه الثورة وتكتفي إلى الإشارة لها باقتضاب، وبالعلاقة المحتملة / الأكيدة لابن قسي مع المهدي بن تومرت. والذي يشبهه بالبهلوان الذي يلعب على كل الحبال: « البهلوان الذي ينط فوق الحبال ويمشي في الهواء حافيا خالع النعلين… متعة ستحدث في الفن السابع …» ص. 161
يحيل هذا العنوان القارئ على مدخلين اثنين: الأول مرتبط بتقاسم الأدوار بين المهدي بن تومرت وتابعه ابن قسي في البدايات الأولى لتهييئ الأرضية المناسبة التي تكفل له الوصول إلى السلطة، وبالتالي استعمال الحيل والمكائد، وحتى التضحية ببعض الأرواح، بينما ابن قسي لم يتم القبض عليه في حين تم قتل كل مريديه. الغرض الثاني أو المنظور الثاني هو أصول ابن قسي المسيحية، وهو ما يؤكده حتى ابن خلدون حين فسر فشل ثورته بافتقاره لعصبية تحميه وتشد أزره. إذ قال: «فإذا عرفنا أنه لم تكن لابن قسي عصبية قبلية تقوم بأمره وتدافع عن حياضه كما هو الحال عند ابن تومرت…كما وأن أصحاب ابن قسي كانوا من مشارب مختلفة وعصبيات متباعدة…تطبع أفرادها بطابع الهوائية والميل مع الأطماع الشخصية…رفعوا آخر الأمر السيف في وجه صاحبهم”. وقد استدعيت أصول هذا الأخير للإحالة على التدخل الأجنبي في الثورات العربية، أو ما يصطلح على تسميته «الربيع العربي». حيث يحمل عبد المولى في الرواية «المهدي في حقيبته» حين كان عائدا من أمريكا. فهل هو مهدي أمريكي؟ أو مهدي يتناغم والحلم الأمريكي؟

6 – عطر الهزيمة
في أماكن الرواية
إسبانيا: فضاء رائع إنها الأندلس فردوسنا المفقود، تذكرنا بإحدى أكبر هزائمنا حين طردنا من الجنة إسوة بآدم. فنحن لم ولن نتمكن من تجاوز عقدة الأندلس؛ الأندلس تمثّل نهاية التاريخ ونهاية الحضارة لأن قمّة الحضارة العربية الإسلامية كانت في 1492، والتي شكلت أيضا بداية حضارات أخرى، وعام اكتشاف أمريكا، ومعها بدأت علامات الاختلال الحضاري بين الشمال والجنوب، والذي لايزال قائما إلى اليوم.
الرباط: هي الحضن حيث تقطن توأم الروح «بشرى» القريبة البعيدة، الحب القديم والمستحيل، والتي لا زالت تلملم جروح تسليمها للجزار، وفلذة كبدها ريم التي تفلت من بين يديها، وهي تنتقل بين طرفي النقيض من النهج الديمقراطي أقصى اليسار إلى الإسلاميين في الجهة المقابلة.
مراكش: إنها مدينة الكتبية والقول المليء بالحكم، والشعر الغامض والعشق المستحيل.. هكذا يصفها الكاتب (ص 256) ، إلا أنها تفلت بدورها من بين أصابعنا، يشير قائلا «تلزمك تأشيرة للدخول إلى مراكش … ساكنة الرياضات من الأجانب يفوق عدد الساكنة الأصلية»ثم يشفق علينا ويطمئننا قائلا: «مراكش عصية على الاقتحام … مغاليق وأسرار لا يملك الأجانب فك طلاسمها ولو امتلكوا الدروب والأزقة. شيء ما في مراكش لا يتذوق سره إلا أهل البلد الأصليون» ص. 235
مصر: إذا كان الراوي يصفه أصدقاؤه كما يلي: «عبد المولى اليموري ده عروبي دقة قديمة، عاشق مصر وقضية انتزاع السلطة باسم الدين تشغل منه العقل والقلب معا، وإن كان لا يريد أن يصرح بذلك» ص 222، فإن مصر شكلت ولا تزال بدورها درسا قاسيا في هزائمنا المعاصرة ؛ فمنذ أنه أيقظها نابوليون بونابارت بمدافعه بعد غفوتها الطويلة،وهي تحمل راية اليقظة الفكرية، وما أن فطن لها الآخر الصديق العدو الذي مازالت ذاكرته حبلى بوقوف العثمانيين على مشارف فيينا، حتى كالوا لها الضربة تلو الأخرى، من الاستعمار، إلى النكسة، إلى كامب ديفيد، والقروض التي لا تنتهي، ودعم الدكتاتوريات بما فيها الملتحية، وغيرها من المنعرجات التاريخية الشائكة.

7 – المرأة في الرواية عنوان للهزيمة المدوية
– الدونا ماريا:لم تذكر كثيرا، لكنها تحتل حيزا هاما في التخييل داخل هذا المتن، تجيد الطبخ الإسباني والمغربي على السواء، توفر فضاء مريحا في البيت الصيفي لعبد المولى في إسبانيا؛ يحيل اسمها ماريا على مريم العذراء.
– بشرى: الحب الحضن المذبوح على يدي الجزار، لا زال متمنعا خلف أسواره العالية من المشاكل والقضايا، نذرت باقي حياتها لابنتها التي يتجاذبها أقصى اليمين وأقصى اليسار.
الجدة لالة رقية: حكيمة على عادة كبيرات السن في المجتمع المغربي، حيث لا تنال المرأة التقدير الكافي إلا في سن متأخرة، وعلى لسانها نسمع حكاية الرجل صاحب الذكور السبعة، وأخيه صاحب البنات السبع. وكان الأول دائما يلقب شقيقة بصاحب القرحات السبع، فيما يسمي نفسه صاحب الفرحات السبع، وتنقلب أمورهما على أرض الواقع في أحداث القصة حين يصبح أبو البنات هو الأكثر سعادة بنجاح بناته.
إن المرأة لا دور ولا أهمية لها في هذا العمل،بما أن الرواية تحمل الهاجس السياسي بالدرجة الأولى، والإسلام السياسي تحديدا، وهو الأمر الذي صرح به الراوي على لسان درية في الصفحة 228: « حين طرحت درية سؤالا على عبد المولى قائلة: لا وجود للمرأة في الرواية؟ هل تعمدت ذلك أم ماذا؟هنا السؤال عن رواية المهدي بن تومرت وقد رد عليها بكون المهدي كان حصورا وسأعود إلى هذه المسألة بعد قليل»؛ وما يؤكد ذلك هو استحضار «موقعة الجمل»،وهزيمة عائشة زوجة الرسول المدوية في هذه الأخيرة، وتسبب هذا الإخفاق في جعل بعض الفقهاء يتخذون من هذه الهزيمة دليلا على فشل السياسة في بعدها النسوي؛ وقد أفردت السيدة المرنيسي أطروحتها للعمل على هذه الحادثة، من خلال الاشتغال على الحديث الذي ظهر بعد المعركة مباشرة « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة « والخلاصة التي تبناها آنذاك المسلمون التي تقول بأن النساء والسياسة يشكلان خليطا سيئاً، وهو المنحى الذي أبعد المرأة المسلمة عن الحقل السياسي إلى يومنا هذا.

8 -الجموح على سبيل الختم
قبل أن أتطرق للجموح التي تحدثه هذه الرواية لقارئها، لا بد من الإشارة إلى هذا العمل غني جدا بالدلالات الرمزية، وتلزمه قراءات متعددة لرصدها كلها، سأكتفي بالإشارة إلى الرقم 7الذي ذكر كثيرا في الرواية، كسبعة رجال بمراكش، أو سبعة أيام نحس شهر فبراير، إلى آخره. هذا الرقم يحمل دلالات متعددة 7 سماوات،و7 أيام في الأسبوع،و7 ألوان، وسبع نوتات موسيقية، وهو الرقم الأكثر ذكرا في الكتب السماوية الثلاث، وهو رقم الحظ عند الأمريكيين، ورياضيا الرقم 7 هو الرقم الوحيد بين 2 و10 الذي ليس مضاعفا أو عامل قسم للأرقام الأخرى .ويمثل الرقم 7 الانسجام الذي يشمله الين واليانغ والعناصر الخمسة في مدرسة الكونفوشيوسية. وهناك 7 عوالم عليا و7 عوالم سفلى في الديانة الهندوسية، وفي البوذية على سبيل المثال، خطا بوذا عندما ولد 7 خطوات إلى آخره.
هذه الرواية لا يمكنها إلا أن تجعل خيال القارئ يجمح إلى أبعد الحدود، كيف؟ بسبب المهدي؟ أو البيدق؟ أو الجدة الحكيمة؟ أو السينارست؟ من يدري، المهم تخيلوا لو كانت السينما والدراما التاريخيين ببلادنا، تتوفر على ما تتطلبه هذه الوسائط السمعية البصرية من تفاصيل وجزئيات تهم اللباس والأكل والسكن واللغة واللون والفضاء وغيرها.
من هذا المنظور تتدافع لحظة الجموح الأولى في كيان القارئ، وهي مشهد مستلهم من الصفحة 214 و 215 ، في ساحة التحرير بمصر إبان «الربيع العربي» المجموعة التي تطلق على نفسها «أصحاب محمد» وتحمل شعارا خالدا «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يدخل عليهم فجأة الرجل ذو اللحية الخفيفة بخنصر يده نتوء مثل الوحم طبقة من اللحم على شكل خاتم يميل إلى النحافةـ يضحك باستهزاء وتظهر أسنانه ناصعة البياض يتخللها فلج «إنها مواصفات ابن تومرت» ينظر بتمعن وانبهار للشاشات الكبرى، والطرق المعبدة، والهواتف النقالة، والسيارات، وغيرها، وهو القادم من تسعة قرون خلت، ليصرخ غاضبا بأعلى صوته على مريديه الجدد، أو الخالدون،بقوله: «ويحكم أما آن الأوان لتجددوا من أساليبكم؟ ألم تكتفوا من استهلاك وتقديس الماضي؟ أما آن أوان الانخراط في مشروع ثقافي جمعي وبناء هوية تتطلع للمستقبل عوضا عن الماضي؟ وأنتم تمتلكون كل هذه التقنيات التي لم يكن لها مثيل في زمني …!!ثم يركب على «عود الريح» أو الدراجة العادية، فرحا بمقدار الحرية التي منحتها إياه بعد طول سفره في الرواية على ظهر الدواب. وبينما تداعبه رياح حيان المتواطئة،بدأ يفكر في كيفية جمع معطيات مواقع التواصل الاجتماعي عن مواطنيه، والاستفادة مما يقدمه الذكاء الاصطناعي تماشيا مع طبيعته السياسية. لبناء مشروع سياسي جديد.
لحظة الجموح الثانية: هي في ارتباط بكون المهدي ابن تومرت كان حصورا، لم تكن له زوجة ولا ولد أي كان عنينا حيث تشير الرواية إلى أنه كان يكره النساء لأنه كان عاجزا عن إتيانهن. ومن المعلوم أن الذكورة خاصة في المجال السياسي هي نوع من السلطة التي تمارس على النساء وأيضا على الرجال الآخرين، وفقدانها «الحصور» من المفروض أن تجعله يكره النساء والرجال على قدم المساواة «ما عندوش صاحبو». في حين كان المهدي محاطا بالعديد من الرجال. أما من يكرهون النساء بشكل خاص فهم المثليون؛ مما يطرح العديد من الأسئلة حول علاقته بالرجال في محيطه؟ وما إذا كان قد استغل مكانته للاستفادة من خدمات جنسية من هذا المحيط؟ وقد يفسر هذا الأمر حتى موته أو اختفاؤه الغامض.
لحظة الجموح الأخيرة: هنا الأمر مرتبط ببطل الرواية، كل عمل يحتاج إلى بطل، عبد المولى غير ممكن لأنه لم يبرز بشكل كاف في الأحداث بل ظل في الخلفية يحرك الخيوط، المهدي بن تومرت أيضا لا، فهو كان وسيلة لطرق باب قضايا الإسلام السياسي، البيدق يظل مجرد بيدق وشكل مطية لتعرية انشغال المؤلف بقضايا الهيستوغرافيا ومهام المؤرخ، ماريا منشغلة في الطبخ وتوفير وسائل الراحة…. ونحن القراء في حاجة إلى بطل .هكذا تحيلك أيها القارئ للعديد من المؤشرات الزمكانية (الأندلس -مراكش-المشرق.) والتشعبات في مسار الشخصيات المذكورة (الإمام الغزالي فالشيء بالشيء يذكر -دولة الموحدين -غياب الوعي التاريخي) على نقطة واحدة وبطل واحد ووحيد، ومع أنه لم تتم الإشارة إليه ولا مرة، إلا أن صرخاته التي تشبه ضحكا هستيريا مرة، وعويلا مدويا مرة أخرى تطاردك عزيزي القارئ بين جنبات الصفحات وفي الإحالات؛ تهمس لك هذه الصرخات بصوت هازئ: أنا أم الهزائم؛ إنها هزيمة «ابن رشد» ومعها العقل العربي شر هزيمة في ذلك الزمن والآن. ويبقى هو العنوان الأبرز، الذي صاغ الشخصيات وحوارها، خاصة مع الخلفية الفكرية للمؤلف.أبو الوليد ابن رشد يؤكد لك أيها القارئ قائلا : إذا كان أرنولد تونبي يرى بأن التاريخ يتطور بشكل حلزوني ،فإن أمتي تدور في نفس الحلقة.وحين يشعر ابن رشد بتعبك وهزيمتك يعفو عنك مبشرا بقوله «ألا تشيد الانتصارات بدروس الهزائم ولو توالت».
أخيرا، أيها القارئ والقارئة، يجب الاطلاع على هذه الرواية وقراءتها أكثر من مرة، فأنا لم أتمكن من فك سوى بعض الخيوط، والتي قدمت مكاشفة روائية ناقدة للتاريخ الراهن، حين تجلده بالتواريخ الغابرة والحديثة، بهذا الخطاب الرمزي، طارحة سؤالا كبيرا هو: لماذا لم نحفظ درس التاريخ الذي أضحى جحراً نلدغ منه مراراً على عكس مقولتنا المأثورة التي تنفي على المؤمن اللبيب أن يلدغ من الجحر نفسه مرتين.


الكاتب : ثورية سعودي

  

بتاريخ : 19/04/2024